تعديلات وزارية لم ترض الإصلاحيين
وزير للخارجية في ليبيا مناسب لتحديّات الإنفتاح على الغرب

إسماعيل دبارة من تونس: رأى متابعون ومحللون للشأن الليبي أنّ الانتقادات التي أطلقتها مؤسسة القذافي للتنمية والتي يشرف عليها نجل العقيد الليبي quot; تعزّز الرأي القائل بأن التعديلات الوزارية كانت مفاجئة وغير متوقعة و لم يتم التشاور بخصوصها مع أحد quot;. وذكرت مؤسسة القذافي أنّ quot; التعديلات الوزارية التي أعلنها مؤتمر الشعب العام (البرلمان) تتكون من quot;الوجوه المكررة نفسها quot; وشكلت quot; بطريقة التعيين quot;، مشدّدة على انه quot; لا حل للخروج من هذه العادة إلاّ بالدستور quot;.

التعديل الجديد الذي أعلن عنه في الجلسة الختامية لمؤتمر الشعب العام و خلص إلى تقليص الوزارات (الأمانات)، لتصبح 11 وزارة بدلا من 19 بدأ يسيل حبر النخب الليبية بين مؤيّد ومخالف ليتفق الجميع في النهاية على أنه quot;نقلة بكل حالquot; في حين حصل الإجماع على أنّ نجم التعديل الجديد هو بلا منازع وزير الخارجية الجديد ورجل المخابرات الأسبق موسى كوسا.

و شمل التعديل الأخير ستا من الحقائب من ضمن 15 حقيبة في حكومة البغدادي المحمودي، السيّد موسى كوسا (59 عاماً) الذي خلف عبد الرحمن شلقم الذي عيّن بدوره مندوباً لليبيا في الأمم المتحدة.

واقترن اسم وزير الخارجية الجديد كوسا الذي شغل منصب رئيس الاستخبارات منذ العام 1994 بعدد من الملفات الليبية الهامة، كالعلاقات مع الولايات المتحدة وسياسة التوجه جنوبا إلى إفريقيا.علاوة على ترأسه للمفاوضات التاريخية حول الممرضات البلغاريات و تسوية ملفات quot;لوكربيquot; وتفجير طائرة شركة laquo;يوتاraquo; الفرنسية.

كما انضمّ ثلاثة وزراء جدد هم عبد الكريم الفخري وزيراً للتعليم والبحث العلمي ومحمد حجازي وزيراً للصحة ومحمد علي زيدان وزيراً للاتصالات، مقابل إلغاء ثلاث وزارات هي الثقافة والإعلام، واليد العاملة، والكهرباء، وتمّ دمج وزارتي التربية والتعليم العالي، ووزارتي التخطيط والاقتصاد، والتجارة والاستثمار.

قراءة أوليّة للتعديل الوزاريّ الجديد في ليبيا تشير إلى أنّ الإعلان عنه جاء في توقيت خاص للغاية تشهد فيه الجماهيرية جدلا ولغطا حول اقتراحات القذافي بضرورة توزيع الثروة على الليبيين مباشرة ، وقد ووافق 64 مؤتمرا شعبيا أساسيا فقط من أصل 468 على قانون توزيع الثروة حتى الآن في حين وافق عليها من حيث المبدأ 251 مؤتمر لكن متابعين يرون أنّ عملية التوزيع المباشر ستؤجل إلى زمن قد يطول .

كما تشير الأسماء الجديدة سواء المغادرة أو الوافدة أنّ المنطق الليبي في تحمل المناصب القيادية ظلّ هو نفسه أي الاعتماد على الشخصيات المعروفة لدى أركان نظام العقيد آو المحسوبين على مجموعة quot;رجال الخيمةquot; كما يحلو للبعض تسميتهم.

بالنسبة للإعلامي الليبي طارق القزيري فإنه لا يعتقد أن التغيير الوزاري الليبي بحد ذاته مثيرا، إلا من جهة مجيئه في توقيت غير متوقع، فهذا العام بالذات لم تسبق مؤتمر الشعب العام شائعات عن التغيير، لكن تغيير البنية السياسية الإدارية، والدمج أو عدم تحديد نطاق السلطتين التنفيذية والتشريعية، بإضافة مهام تنفيذية لمؤتمر الشعب العام الذي من المفترض أنه يقابل البرلمان، يجعل الأمر يكتنفه الغموض، على الأقل في هذا الوقت الذي يلي التغيير مباشرة.
ويقول القزيري لإيلاف:quot; لم يأت في الأسماء من يثير وجوده الجديد أو مقعده الذي تركه أسئلة، فالنماذج كلها متشابهة في ليبيا، والكل للتنفيذ المجرد دون صبغة شخصية مميزة لأحد كما تعودناquot;.

ولا يختلف الكاتب و المحلل السياسي رمضان جربوع الذي تحدث لإيلاف من مدينة بنغازي عن الإعلامي القزيري بالقول إنّهquot; لأول وهلة لا يبدو هنالك تغيير مثير في تشكيلة الحكومة الجديدة ولكن مع ذلك من الممكن تلمس مؤشرات قد تدل على تغيرات جوهرية قادمةquot;.

ويتابع جربوع :quot;أولا نلاحظ في معظم الأسماء أنها من العناصر التي نستطيع نعتها بــ quot;المحنطةquot; من حيث أنها هي ذاتها التي تتداول الكراسي من ثلاثين سنة تقريبا ولم تجدي فتيلا لا في التنمية ولا في حل مشاكل الحياة اليومية للمواطن العادي، وهي المشاركة والفاعلة والمسؤولة بدرجة كبيرة عن إعاقة التجربة الليبية ، كما أنهم وصلوا للحلقة المتميزة في البلاد بفعل quot;زخمquot; حركة السابع من أبريل في سبعينات القرن المضي أو كما أسميهم quot;الأبريليونquot; والإشكالية التي يعانون منها، هي أنهم دخلوا الساحة شبابا يافعا ولكن بحس السلطة وتولدت لديه عقلية quot;التسلطquot; والإقصاء والتعالي مما دفع بالعناصر الوطنية الجيدة إلى الابتعاد (داخليا أو خارجيا) وتفردوا هم بالساحة بكاملها وتوقف لديهم السعي للاستزادة من المعرفة وعزفوا عن سماع غيرهم وأهملوا الاستفادة من تجارب السنين، فهم quot;وصلواquot; ولم يعودوا يرون جدوى من تحسين ملكاتهم الفكرية، وصارت لديهم ثقافة معينة تتسم بأحادية الرأي والسلطويةquot;.

المتابع لتحليلات النخب الليبية منذ الإعلان عن التغيير الوزاريّ يلحظ أن مربط فرس هذا التعديل هو حقيبة الخارجية، فهي حقيبة مثيرة للجدل نظرا للظرف الذي تمرّ به ليبيا و قوامه مرور الجماهيرية من حالة quot;عزلة دوليةquot; إلى انفتاح quot;طفرويّquot; على الغرب و تحديدا على أوروبا و الولايات المتحدّة.

الوزارة المثيرة للجدل أسندت إلى شخصية quot;مثيرة للجدلquot; ،موسى كوسا رجل النظام الليبي القويّ محارب لأعداء الثورة و صاحب نظرة ثاقبة و قدرة على التفاوض ومستوعب لمنطق الربح و الخسارة و تاريخه يدلّ على حنكة وخبرة في المجالين الأمنيّ والسياسيّ.

لن يرضي كوسا المعارضين بالتأكيد، فسجله معهم يبدو حافلا ، فهو محارب للمنشقين و مناوئي الثورة ، وهو صاحب دعوة للتعامل النديّ مع الغرب و التشدّد في ربط علاقات مع من يأوي المعارضة وربما يدعمها.

يستبعد طارق القزيري أن يكون تعيين موسى كوسا، يوحي بتصعيد ضد الخارج المعارض في ليبيا، ففي واقع الأمر تعيش المعارضة الليبية، سياسيا، وميدانيا، حالة لربما كانت غير مسبوقة، من الضعف أو التراجع، حتى شعبيا، رغم التململ المعتاد من النظام في الداخل. وبالتالي من الصعب تصور أن يكون تعيين كوسة موجها في هذا الاتجاهquot;.

ويضيف:quot; إن كنت أستبعد أن يكافأ موسى كوسا بهذا المنصب، لمجرد ما فعله سابقا، فإن الأمر الذي يمكن أن يفسر تعيينه، هو تغيّر أجندة العقيد القذافي الدولية، فبعد فوزه برئاسة الاتحاد، وانخراطه الدولي المتزايد بحكم رغبته الدائمة في التدخل في النزاعات عبر العالم من جهة، ومن جهة أخرى بحكم منصبه الجديد الذي يجعله مؤهلا للوقوف مع كبار الدول في العالم ممثلا للقارة السمراء، كل ذلك يجعل العقيد بحاجة لشخصية تعرف خبايا كثيرة، وقادرة على التحرك السري والعلني، أكثر من مجرد شخصيات بيروقراطية تنفيذية، والحال أن وزير الخارجية الليبية الجديد يجمع بين الخبرة الدبلوماسية وهو نائب سابق لوزير الخارجية في ليبيا، ومطلع على ملفات كثيرة في الداخل والخارج، ويملك قدرات تفاوضية أكيدة، تناسب الصعيد الجديد الذي سيعمل عليه العقيد في المرحلة القادمة.

دون أن ننسى أن القذافي لم يعرف بعد اتجاهات واشنطن معه، في ظل الإدارة الجديدة، المشغولة حتى الآن بالظروف المعروفة داخليا وخارجيا، وكوسا الذي درس في أمريكا وتعامل مع مخابراتها عميقا، بحكم مشمولات مسؤوليته سابقا، هو مؤهل لمتابعة هكذا ملف، لا غنى للقذافي عنه، بحكم واقع الحال.و بالنظر للولاء الشديد الذي يصبغ مواقف موسى كوسا، فاختياره يبدو مناسبا ، بقدر ما كان مفاجئا في واقع الأمر. لكن المفارقة ربما أن المفاجآت من طرابلس باتت غير مفاجئة.

موسى كوسا رجل تربى في مدرسة quot;الأبريليونquot; (نسبة إلى حركة السابع من ابريل) - استنادا إلى المحلّل رمضان جربوع - ولكنه كان الأكثر ذكاء وتوقدا للاستزادة من المعرفة ويتميز أيضا بإتقانه اللغة الانجليزية وحس فطري جيد للتفاوض والتحاور وقضى معظم مسيرته الحرفية في الأجهزة الأمنية واستطاع فرض القبول به خارجيا على الرغم من كثرة التقارير الصحفية السلبية التي تصدر عنه في الخارج وما يتردد عنه في الداخل ، ويشكل تعيينه نقلة نوعية جيدة عند مقارنته بسلفه، والدولة تحتاج لصفاته وقدراته في التعامل مع الغرب خصوصا وأن الغرب اليوم يواجه تطورات جد خطيرة سواء في المواقف أو المفاهيم وإن كان مصالحهم هي السائدة.

نقل كوسا من المخابرات إلى الدبلوماسية يتضمن رسائل تشير إلى اقتناع القيادة الليبية بأنه من المستحسن التداول على المناصب الأكثر حساسية في البلاد وإن صح هذا الظن فمن الممكن ترقّب تعديلات أخرى في مناصب مشابهة في الفترة المقبلة.

لم يكن نقل موسى كوسا من منصب إلى آخر مثيرا للجدل لوحده ، فإعادة تعيين البغدادي كرئيس للوزراء quot;قد يكون أكثر المؤشرات المخيبة للآمالquot; بحسب المحلل رمضان جربوع ، فالرجل أثبت بأنه quot;أسوأ رئيس وزراء شاهدته البلاد بالنسبة للمواطن العادي فأداؤه العلني جد هزيل، وما يقوله عنه بعض من زملائه الوزراء لا يحسب له مما دفع باثنين على الأقل بتقديم طلب الإعفاء من العمل معه لعدم إمكانية ذلك (وهما العيساوي ومحمود جبريل)،. كذلك سجله فيما يتعلق بنظام الرعاية الصحية في البلاد سيء جدا منذ أن كان وزيرا للصحة ولا تزال مدينة بنغازي تعاني من قرارات اتخذها بشأنها على الرغم من رفض كبار المسؤولين عن القطاع الصحي في البلاد .ومشهور عنه quot;التفرد والتسلطquot; في اتخاذ القرارات المتسرعة ولديه شغف بإصدار المئات من القرارات واللوائح وإعادة إصدارها، بعضها أحيانا يناقض الآخر والكثير منها لا يتوافق مع القانون تماما، بل ويتجاوزه وفي مجملها تضر بالمواطن والوطن.

ويتوقف جربوع كذلك على توسيع أمانة مؤتمر الشعب العام بصلاحيات جديدة مما يجعل منها quot;حكومةquot; أخرى، وبذات الوجوه القديمة quot;التي لا تستطيع الإدعاء بأي نجاح في قضية التنمية المستدامة، وربما يكون هذا التوجه فيه نوع من quot;حدquot; لسلطات رئيس الوزراء بشكل أو آخر ووضع تشكيلة الحكومة وتشكيلة أمانة مؤتمر الشعب العام في مواجهة سافرة، على الرغم من انتمائهم لنفس المدرسة.

ويخلص المحلل الليبي إلى القول بأنه وعلى الرغم من عدة مؤشرات تثير التشاؤم في التعديل الأخير فإنّ لديه انطباعا أن التغيير الجوهري في صالح عملية الإصلاح قد تقرّر وعٌزم عليه، لضرورته وانسجاما مع المتغيرات العالمية والداخلية، إلا أن التوقيت والكيفية لا تزال غير واضحة وقد تكون في العيد الأربعين للثورة إن توافقت مع إعلان دستور ووضع آليات جديدة وترسيخ مفاهيم أخرى قد تكون الحد الفصل أو النقلة بين الماضي و المنشود.

ولأن التغيير الوزاريّ الأخير جاء ليزيد الضباب والغشاوة حول ما يتردد في الأوساط الرسمية الليبية عن صراع الأجنحة و التيارات الذي تمّ تداوله مؤخرا، فإن الثابت أنّ تكليف رجالات المخابرات لتولّي مناصب سياسيّة يدلّ هو الآخر على أنّ المرحلة المقبلة لن تكون ndash; كما تأمّل البعض- صراع الأجنحة و البرامج ومجاراة لمقترحات تيار الإصلاح الذي يقوده سيف الإسلام ،بقدر ماهي استعداد للتحديات التي يفرضها الانفتاح على الكتلة الغربية والاعتراف بشروط لعبة العلاقات الدولية المعقّدة.