من مواليد عام 1956 الكــوت (العراق). غادر العراق نهايــة عام 1982 صدر له: "أقول احترس ايها الليلك" (1986)، "واقف بين يدي" (1987)، "بم التعلل" (1988)، " تضاريس الداخل" (1992)، "حديقـة جورج" (1994)، "وحدي سافرت غدا" (بالدنماركيـة1996)، "كمائن منتعظة" (ضمن كتاب "خمسة شعراء عراقيين"-1998)، "أصغي الى رمادي" (فصول من سيرة ذاتية - ‏2002) يقيم في الدنمارك منذ عام 1985
القصيدة
بحورٌ قديمةٌ وأخرى أكتشفُها للمرةِ الأولى تتلاطمُ أمواجها الصاخبةُ في الرأس، والخواطرُ عصافيرُ فسفوريةٌ تطيرُ في ظلامِ الغموض وتختفي مثل نيازكَ تتهاوى في وهادٍ عميقةٍ، قلقٌ في اليد وهي تبحثُ عن أسرارٍ قديمةٍ في صناديقِ الذاكرة، تحاول أن تمسكَ البياضَ الذي تنسفحُ عليهِ الآمُ البشرية ويتشاجرُ فيهِ الأمواتُ والملائكة. أي جنونٍ يجعلكَ تستيقظُ وأنتَ ترددُ كلماتٍ مبهمةً لضبطِ ايقاعِ الفكرةِ! وأي تشبثٍ يائسٍ يدفعكَ إلى تزويجِ صخبِ البحرِ بسكينةِ الروحِ المتأملة !تناقضٌ صارخٌ يؤاخي ما بينَ الإشراق والسلوكِ اليومي المركوسِ في وحلِ الظلام، وحدها القصيدةُ قادرةٌ على جمعِ هذين النقيضين على بياضِ الورقة المتلهفِ إلى سوادِ القلم ورمادِ الأفكار ونار الطيش، حينها يتحولُ الضياعُ إلى طريقٍ يقود الخطى للإرتقاء الى مجهولٍ نسميهِ المطلق فيصبحُ كل هاجسٍ فكرةً تتعوسجُ في الرأس أو تزهر، و"كلّ حادثٍ رمزاً" كما يقولُ غوته، فتأتي نشوةُ اكتمال القصيدةِ حتى لو كانت مرثيةً، نشوةٌ تشبهُ نشوةَ الأم بالآمِ الولادة .
البداياتُ صعبةٌ فالقصيدةُ أنثى لعوب لا تلتقيها إلا مصادفة وليس بإمكانك إلا أن تجعلَ من هذا الدون جوان المتحفز في داخلكَ يتهيأ لحضور حفلةِ المصادفات.
أكثرُ من شهرٍ وأنا أطاردُ القصيدةَ (أو بالأحرى أطاردُ البداية) بالتوسلِ مرةً وبالإغراء مرةً أخرى ولكن دون جدوى، كم مرةً وضعتُ الورقةَ أمامي وقررتُ أن اكتبَ أيةَ كلمةٍ تخطرُ في الذهن عندئذٍ تبخرتِ اللغاتُ فأدركتُ أن مأزقَ الإنسانُ لا يكمن إلا في حريتهِ .
اليوم أنهيتُ إضرابي عن مشاهدةِ التلفزيون الذي بدأتهُ قبلَ أكثرَ من خمس سنوات حينما انتبهتُ إلي في لحظاتِ صحوةِ الضمير فوجدتني ماسكاً بفخذِ دجاجةٍ أنهشهُ مثل ضبعٍ جائع ,انا أشاهدُ نشرةَ الأخبار التي كانت تعرضُ صوراً لإطفالٍ صوماليين يموتون جوعاً، ولأني لم أستطع أن أعلن إضرابي عن الطعام فقد أعلنتُ إضراباً عن مشاهدةِ التلفزيون. ولكن الوحدةَ أقسى من أن يصمد أمامها صدقُ الموقف، فحينما تترككَ العشيقةُ وينشغلُ الصديقُ عنك بوحدتهِ وتيأسُ من شيطانكَ الشعري، تبحثُ عن أي صوتٍ يملأ صممَ المكان، وهكذا التجأتُ اليومَ إلى هذا الصندوقِ المتخمِ بالآم الشعوب.
شعوبٌ لا تريد غير أن تحيى، فمنذُ أن بدأ وعيي يحبو على أرضِ الواقع وأنا أرى الشعوبَ لا تطمحُ إلى أكثر من شفقةٍ تتسولها من جبارٍ أرعنَ أو أقدارٍ مستبدة. فجأةً وخزتني الشوكةُ التي تكمنُ منذ أكثرُ من شهرٍ تحتَ لساني فوجدتني أرددُ مع نفسي عبارة ( رايةٌ خاسره ) فتداركني المتداركُ، أطفأتُ التلفزيون محاولاً أن أدخلَ القصيدةَ لاهياً كي أبعدَ احتمال الألم الذي يسببه لي الفشلُ في كتابة قصيدةٍ:
"رايةٌ خاسره،
تتشبثُ بالنارِ،
يخفقُ في الذلّ اخفاقُها،
تتمرغُ في وحلِ أمجادها الغابره"
أعدتُ قراءةَ ما كتبتُ فوجدتُ بأني أستطيعُ الإستمرارَ في اللعبةِ خاصةً وأني بدأتُ أشعرُ بمتعةِ الكتابةِ السرية تثيرها القافيةُ والكلماتُ التي طفقتْ تتراصفُ في الذاكرةِ يهندسها الإيقاعُ والجناس:
"غايةٌ ساخره
حينما
شاغرٌ يأنسُ الفكرةَ الشاغره
ثم يعوي ظلاماً على قمرٍ شاعرٍ
شعَّ في الذاكره"
أشعلتُ سيجارةً وقبلَ أن أعيدَ قراءةَ المقطعَ الثاني رمى الإيقاعُ في صحني كلمةً ثالثةً حفّزتني على المواصلة:
"آيةٌ حائره
حينما
يعبرُ الدودُ جسرَ الضحايا
وتكتشفُ الروحُ سوءاتها
و ........................
.........................
يختفي اللهُ في فكرةٍ عابره"
لم أشعرْ بنفاد قدرتي على اللعب ، وعلى الرغم من عدم قناعتي بنهايةِ القصيدة إلا أن هاجساً مشاكساً أوقفني رافعاً سبابتهُ بوجهي محذراً ليحولَ المزاحَ إلى سؤالٍ مبهمٍ:
"حقاً ماذا بعدَ اختفاءِ اللهِ في فكرةٍ عابره ؟"
شعرتُ بامتلاء مثانتي فأزحتُ الأوراقَ جانباً وخرجتُ من الغرفة، وحينما عدتُ ثانيةً ضغطتُ على زر التلفزيون ، كان الـنـقـاشُ محتدماً في البرلمانِ الدنماركي حول مسألةِ اقرار حريةِ الانتحار أو ما سميَ بـ "الموتُ الرحيم"
شظايا المرآة
(عشر قصص قصائدية)
إشارات
في كلّ قصيدةٍ
ثمّةَ فضيحةٌ
في كلِّ قصّةٍ
ثمةَ إنسانٌ يبحثُ عن خاتمة
في كلِّ عماءٍ
ثمّةَ متأملٌ يُغمضُ عينيه
فيرى اللاشيءَ
ويفرحُ بالرؤية
في كلِّ موقفٍ
ثمّة واقـفٌ ضلَّ الطريقَ
وإنْ لم يبرحْ مكانه
في كلِّ قطارٍ عاطلٍ
ثمّة مخمورٌ ينتظرُ الوصول

في كلِّ منعطفٍ
ثمّةَ طبّالٌ يتلو فرمانَ الموتِ
على صبيةٍ لاهين
في كلِّ مستنقعٍ
ثمّةَ صيادُ طنينٍ
يخوّضُ في الشهوةِ بحثاً عن ضوء
في كلِّ عتمةٍ
ثمّةَ علاءُ الدين
يوقدُ فانوسَ الفتنةِ كي يسطعَ نهدٌ
يعلّقهُ من حلمتهِ بدبّوسِ الهاجس
في كلِّ عصرٍ
ثمّةَ مؤرخٌ يجمعُ عواسجَ التأريخ
وثمّةَ من يستظلُّ بها من هجيرِ الروح
في كلِّ منفى
ثمّة منبتٌّ
يعملُ قاطعَ تذاكر لرحلةٍ مُلغاة
في كلِّ ديرٍ
ثمّةَ عفّةٌ نادمة
وفي كلِّ سجنٍ مجرمٌ نادم
( إن تعشْ تندمْ
وإن لم تعشْ تندم كذلك )
ــ سورن كيركغورد ــ

في كلِّ ليلةٍ
ثمّةَ حلمٌ أطولُ من الليل
وثمّةَ كابوسٌ كذلك
كلُّ فكرةٍ تشيخُ
لكنّ ثمةَ فكرةٌ تتوحمُ
...............
...............
وثمةَ أشياء أخرى
حصار
استيقظَ (س) في منتصفِ الليل، كانَ صوتُـهُ المنخورُ يؤلمهُ، تلمسَ سريرَهُ فلم يجدْ سوى آثارِ امرأة خائنةٍ فرّتْ مع النادلِ قبل السُكرِ، تلمسَ جسدَهُ، صحراء موحشة نصبتْ فيها ذئابُ الشهوة سرادقاً وراحتْ تعوي.
جلسَ في منتصفِ الكونِ يتأملُ نيازكَ روحهِ المتساقطةَ في قاعِ العتمة، ومن ثـقـبٍ في الظلامِ راح يتلصصُ على الأرض وهي تستحمُ بالدماء، رأى محاربينَ شقرَ الشعورِ يسحلونَ قمراً نازفاً يستغيثُ وما من مجير، حاولَ أن يصرخَ إلا أن الكلماتِ تسربتْ من ثقوبِ صوتهِ المنخور، وضعَ سبّابتيهِ في أذنيهِ مغمضاً عينيهِ كي يهربَ من المشهد فألفى نفسَهُ جالساً في منتصفِ نفسهِ مخذولاً. هناك على طاولةٍ كان يستقرُّ مسدسٌ وقلم، أمسكَ القلمَ كي يكتبَ وصيتهُ الأخيرة، لكنْ سرعانَ ما انفجرَ هاجسٌ بترَ كفَّ الجدوى.
28/1/1996 دمشق
السفينة
كنّا واقفينَ بانتظارِ السفينةِ التي لم تأتِ بعد. نامَ الفوضويُّ واختصمَ المتفائلون، المراهقُ ذو المزاجِ المتقلبِ انتحرَ على صارٍ مكسور، أنجبتْ زوجتي طفلاً أسميتهُ "بحر" وطفلةً أسميتها "انتظار" وأخرى "متاهه" وآخر ... وأخرى ... حتى غدتِ الأسماءُ بلا معنى، ولم نعدْ نتذكرُ السفينةَ لكنّا مازلنا منتظرين.
5/4/1998 دمشق
Meditation
كانتْ صامتةً تحدقُّ إلى الزاويةِ كقديسةٍ في لحظةِ إشراق. فجأةً هجمتْ عليّ لاهـثـةً تصرخُ بي:
"تعال
تعالَ يا عنكبوتي"
16/8/1995 فايله
الذئب
موتى أتعبهم الانتظارُ فانـطـلـقـتْ قبورُهم تركضُ نحو القيامةِ عابرةً جسورَ الدودِ وأنهارَ الـقـتـلى، كـتـلٌ بيضاءُ تتدحرجُ محاولةً الإفلات من أكفانها، تتساقطُ الأكفانُ المهترئةُ على الطريقِ فـتـفـقـسُ الكتلُ كائناتٍ بشريةً تـنطلقُ مرعوبةً ربما من هول نشورها. رجالٌ ونساءٌ وأطفال، عراةً يركضون قاصدين الأقاصي، هناكَ في الجانب الآخر من الآفاق القصية شاهدوا سيّافاً يتكئُ على مقبضِ سيفهِ المغروزِ في الأرض، وقبوراً تتثاءبُ، عندئذٍ أدركوا بأنهم ضلوا الطريق إلى القيامة. تدافع بعضهم نحو السيّاف متلعينَ أعناقهم بينما عاد البعضُ الآخر إلى حيثُ قبورهم من الطريق التي احتفظتْ بآثارهم. فجأة توقفَ أحدُهم وكان يبدو من هيأته بأنه عالمُ آثارٍ أو ما شابه ذلك والتقطَ نفيراً كان مدفوناً في الرمال، راح يزيلُ عنه الغبارَ والصدأ مُعلناً عن وجود بصماتِ ذئبٍ على نفيرِ القيامة.
27/10/1997 فايله
نارجيلة
يجلسُ متكوّراً على نفسهِ كمَنْ يتدفأُ بأفكارهِ، يمصُّ إبهامَهُ ويحدّقُ إلى شرخٍ في الفراغ، المجنونُ المولعُ بالنارجيلةِ ذاتَ يومٍ تعرّى ــ كان منتعظاً ــ وأضرمَ النارَ في رأسه.
10/10/1990 فايله
سهرة
أنا وملائكةٌ كنّا نشربُ خمراً في ماخورٍ، سكـرَ ملاكٌ وتـقـيـأ فحملتُهُ إلى سريرِ عاهرةٍ انتحرتْ أمسِ، كان غاضباً وظلّ يهلوسُ طوال الليل، ملاكٌ ثانٍ كان شبـقـاً كقردٍ وثالثٌ راح يجدّفُ على اسم الرب فرجوتُهُ أن يكفينا دوخةَ الرأس فلم يـمـتـثـلْ حتى تلاشى وحلَّ محلهُ ملاكٌ أشرم.
انتهتْ ليلتنا بصمتِ مَنْ ينصبُ فخاخاً.
14/9/1995 بودابست
عراقيون
على موجةٍ وريحٍ يُقيمون السفرَ، ينصبون خيامهم على البحرِ مثل فرقةِ سيرك، حماساتهم المروضةُ يخرجونها فتدورُ وتزأرُ، تدورُ وتزأرُ، وتحتَ الأضواءِ والتصفيق تتحجرُ كأسودٍ بابليةٍ فيعيدونها إلى أقفاصها ويرحلون خجِلين.
27/12/1993 فايله
بشّار
كلّ ليلةٍ، حين يغادرُ المصلّون تاركينَ أوزارهم ويُغلقُ بابُ الله، يظلُّ الأعمى وحدهُ مُطيلاً سجدتهُ، يُصغي إلى حفيفِ أجنحةٍ وألحانٍ تعزفها آلاتٌ سماويةٌ كأنها تعيدُ خلق العالم كلّ ليلةٍ.
الليلةَ وفي استغراقـةِ تأملٍ فوجئ بأنه لم يعدْ يسمعُ غير عواء ذئابٍ على قمرٍ مخسوفٍ لامسَ شرفتيهِ المطفأتين، عندئذٍ فكّرَ أن يسرقَ السماءَ نجمةً نجمةً ، أو يكسرَ بابَ اللهِ، أو يخرجَ إلى الشارعِ يسوقُ أوزار المصلين، فـكـّر أن يرفعَ الآذان في غير أوانه
.........................
.........................
قبيلَ الفجرِ
دبَّ على النبيةِ النائمةِ في المحراب.
20/5/1998 دمشق
قرير العين
عـلّـقَ على بابهِ عبارةً:
"أنا لستُ موجوداً "
وحينما عقدَ الحبلَ على عنقه ، سمعَ صوتاً مختنقاً يصرخ بهِ:
"توقف ! أنا الوجود"
وعلى عكس ما يتوقعُ الجميعُ ، أكملَ انتحارَهُ بجرأةٍ ورباطةِ جأش.
28/9/1998 فايله
بناتُ آوى
نوافذُ مضاءةٌ على طول خط الأفق، الساعةُ الثالثةُ فجراً، نوافذُ مُسدلةُ الستائر وأنا منتعظٌ، بناتُ آوى يحفرنَ رأسي كمثـقـبٍ كهربائي "بناتِ آوى ما الذي تردنهُ مني؟" يقولُ سعدي يوسف، ها أنا أستيقظُ من موتي، تعالي، انظري إليه سترينَ النبضَ بأمَّ فخذيكِ، نافذةٌ مضاءةٌ، مراهقةٌ تمارسُ العادة السرية، أنا منتعظٌ، بناتُ آوى يتعالى عواؤهـنَ في رأسي، سيدةٌ في الأربعين من عمرها تمارسُ الجنسَ مع الليلِ، أتجاهـلُ طولَ قضيبهِ وأحدقُ إلى قاعِ البئرِ أنا ظامئٌ، عجوزٌ تمدّ يدها بين فخذيها سهواً، من أين جاءَ هذا الشرخُ في الجدار؟ أحدّقُ فيه طويلاً، أسمعُ لهاثاً، أنيناً، بكاءً، عواءً، نوافذُ مضاءةٌ في صحراء، على البابِ إعرابيان عقلا بعيريهما وراحا يلعبان البليارد، في الهودجِ امرأتان تتساحقان، عواء "بناتِ آوى ما الذي ..." خطواتٌ أعرفها تصعدُ مرتابةً سلّمَ الخوفِ، دقّات قلبٍ، أفركُ مصباحَ الشهوةِ "شبيك لبيك هذا النهدُ النافرُ بين يديك" أعصرُهُ، أصغي للهاثِ البنفسجِ، تسطعُ قطرةُ جمرٍ، أرشفها، أنا ظامئٌ، لا أرى غير صورتي، عواءٌ مجنونٌ في الماء "بناتِ آوى ما الذي تردنه مني؟" أرددُ مع سعدي يوسف، بناتُ آوى يعزفنَ على أوتار الصدغين بمخالبَ من حديدٍ، أنهضُ، أبللُ ريقي من زجاجةِ السمِّ الذي ادخرتهُ لمناسبةِ موتي، ما بين المطبخِ والصالةِ أسري منتصباً، مصطنعاً كبرياءً تليقُ بموتي، عواء، والنوافذُ لا تزالُ مضاءةً .... يا إلهي
رأسٌ واحدٌ لا يكفي
21/12/1999 فايله
*نصوص مختارة من كتاب معد للطبع بعنوان "وثمةَ أشياء أخرى"