ولد في 12 شباط 1937 في قلعة صالح لواء (محافظة) العمارة في جنوب العراق حيث أمضى السنوات الأولى من طفولته. نشأ وتعلم في كركوك شمال العراق. عمل في حفر آبار النفط في حقل جمبور في كركوك، ومارس التعليم في قرية محمولة وفي مدينة كركوك.
انتقل في 1962 الى بغداد حيث مارس الرسم والخط والإعلان وتصميم واجهات المتاجر والتصوير والترجمة والصحافة. سافر في 1968 الى ألمانيا حيث حصل على الدكتوراه في الصحافة من جامعة لايبزك في 1979. قام بتدريس الصحافة والإعلام في ألمانيا والجزائر. يقيم حاليا في كوستاريكا حيث يعمل أستاذا للصحافة والإعلام في جامعة كوستاريكا، ويراسل عددا من الصحف والمجلات العربية. اصدر في 1992 كراس "بيان - 92: مستقبل العراق" (بالانكليزية). حصلت قصيدته الطويلة "العراق" على تنويه في المسابقة الشعرية لمجلة "الناقد" في 1992، وصدرت في 1993 عن دار الريس للكتب والنشر (بيروت). نشرت قصائده وقصصه ومقالاته في النقد في طائفة من المجلات والصحف العراقية والعربية منذ ستينات القرن العشرين وحتى نهاياته.
الشعر محاولة الشاعر مع الحرية
ونعني بالحرية إدراك الكائن لموقعه في المنظومة الكونية؛ التحرر من كل المواضعات والتقنيات الاستلابية التي ابتدعها الإنسان عبر تأريخه لمعالجة خوفه من الحرية (الخوف من استعادة تواصله مع جوهره هو، ومع الكون كظاهرة طبيعية لا فكرية). أما الشعر فهو الحالة المعرفية التي تمكن الشاعر من التماس في لحظات متقطعة مع الحرية.
هذا التماس غير المتواصل مع الحرية هو مصدر سعادة وقوة الشاعر. والشاعر يحاول التعبير، ولو جزئيا، عن هذا التماس ناقلا إلى الآخرين تجربته مع الحرية في أشكال تعبيرية متنوعة، القصيدة واحدة منها.
الشعر بالنسبة إلى الشاعر هو تماس مع الحرية وممارسة للحرية في لحيظات. الشعر بالنسبة لمستلم القصيدة (وبدون أية قصدية من الشاعر) هو اقتراب من الحرية يهدف إلى تمكين المستلم من التماس مع الحرية.
هذا هو جوهر الشعر. أما جمالية الشعر، تقنيات نقده وتقييمه، وظائفه، بيئويته، انتماؤه إلى الثقافات القومية، موقعه في ثقافة العالم، وسائله، اقتصاده، تنظيمه، وسائل نشره واستهلاكه، وغيرها. فكلها إضافات قد تكون لها بعض الأهمية ضمن التنظيم الاجتماعي - الاقتصادي - الثقافي - السياسي الخاطئ للعالم، لكنها - في الحقيقة - لا تهم الشاعر إلا بقدر ما تمثله من معوقات لسعيه إلى التواصل مع الحرية.
أقول: التواصل والتماس المتقطع للشاعر مع الحرية. ماذا سيحدث إذا استطاع الشاعر أن يدخل ويقيم دائما في "مملكة" الحرية؟ عند ذاك سيتحرر الشاعر من الاستلاب (الاستلاب من قبل "حضارته" و"ثقافته") وسعود الى حال كل الكائنات خارج المنظومةالاجتماعية البشرية. سيعود إلى حرية الولادة والحياة والموت التي هي مسار كل الكائنات ضمن التأليفة الكونية. عند ذاك ستنتفي الحاجة إلى الشعر، بل والى الفن عامة، لأن الشعر، وكذلك الفن، هو نتاج التوتر بين التماس مع الحرية والانقطاع عنها والسعي من جديد لبلوغها.
سيدة كاملة في الحلم أراها
قصيدة رومانسية
سيدة كاملة في الحلم أراها
تعتمر نسيجاً معضدا
بريش الطواويس
يتموج بأقواس قزح سود
في فراغ
بين طيور أراها
في مشهد قحل
بين جوامد وشخوص
تتحجر إذ تمتص ضوءها
رقائق في الفضاء
تقترب ثم تنأى
هي سيدة في الحلم كاملة
متسربلة بثوب عقيقي أراها
تفرقع بأصابعها فتظهر حولها
خيالات أمهات مجنحات
أراها تختفي ثم تعود
في ثياب مشرشرة وعقود لؤلؤ
طافية على أذرع غير مرئية
ثم أرى زهورا ورقية
صاعدة إليها كي تتسلى
لمرآها وشذاها وهشاشة بناها
هي سيدة بين الريش والحرير نشأت
تطيل استراحاتها حتى الضحى
سيدة أراها في الحلم كاملة
تهجر زهرها الجاف وفراء الثعالب
ترتدي ثوبا عاجي اللون وتسرح شعرها
ثم أراها في مقهى
جبهتها في الغيم غائرة
تشرب الشاي وتفكر
كاملة أراها في الحلم سيدة
تنظر بتأنيب هنيهة
ثم تفتر شفتاها عن أفق
تتهادى عنده سحب
تتسع فيفيض على وجهها نور
فيه تضمحل رويدا رويدا
فلا أعود أرى
غير متحجرات وأرض تحترق
لا مودة هنا والليل أخشى أن ينقضي
لا أراني باحثاً عن مأوى
بل ساكناً وكأنني
قد تحررت من شكوكي
خاوي اليدين مندهشاً
مدركاً أنها إنما
سيدة كاملة في الحلم أراها.
لغات العراق
تلك اللغات
أي حبور إذ أقبل مترفقاً بقدمي وبالأرض لأتلقى
في بيوتها المتخلخلة كجيوب، المهندسة فكرا
حصيلة من نحتوا بأعمارهم مفازة اللفظ
أو أقاموا في منحوتة اللفظ يطوون ويبسطون صفائح من "رذاذ" عطفهم على الذات أو يلمسون هدبا في عين الذهن الساجر
الرائي، كالمتقد تشببا بالاندلاع المثير لـ: اليوم، اليوم، اليوم!
تقارعت الكلمات الموصومات بعلامة انتسابهن
بخفوت، ثقةً في التحصيل، في شمول المدى المقاس موزونا
فاخراتٍ يختلن بنصاعة من فكرهم، آبائي وأمهاتي
وحملن حتى روائحَهم، عبقُ أحاديثهم الجُرْد،
في الصمت، وقفات للشهيق، لإبتزاز المرئي،
أخذِه، ايلائه كل الرغبة، ووضعه على المنصات، في الأركان الأهم بالبيوت
تلك اللغات، أنا في أمانها، تبسط لي نهارات
تأخذني الى بدايات مشاهد هي بؤرها وهي النهايات
هذا، أقول: عندي الكفاية، عندي الكفاية أو ما يزيد
فلتأخذوا أنتم أيضا، بعض الكلام أمناً.
العودة من بَه داوه الى ليّلانْ
أنا الروح العراقيةُ الهائمةْ
استحضر نفسي لأراهم في الصباح عائدين
تمايلوا ليلةً على وقع النقارات والدفوفْ
لهجوا باسم الرب أملاً
صدورٌ عامرةٌ يالشَعر؛
غبارُ الأرضْ، ذلك الندى في أماسي الصيفْ
بيادرُ القمحِ انتهت عندها الرغائبْ
صرحُ التعويض المنسوبِ الى الخرافةْ
حَسراتٌ منزوعاتٌ من خالقيها
تضمحل أو تعمّرُ دهراً
بعد إنفاق يوم جديدْ.
لا أرى الكثرةَ منهم على المَطيّ
ولا الدروايشَ يتسلَوْنَ بقضمِ الزجاجْ
قلةً منهم تسيرُ، أرى
الفكرُ الحاسب لن يأتي وإن أتى
لن يُلغي الوقوفَ على الأرضِ
ومَشيَهمْ المتئدْ الى حيث الشمسْ
في الجدولِ المُستوطَن بالريحانْ
يشربونَ الماءَ
ثم يعبرونَ قافزينْ.
أجرامٌ نحو الفضاءِ والضياءْ
الماءُ تخرُقُهُ
ذراتُ التراب.
الى أبي أُسامة جليل خليل القيسي
عَضلةُ عَضدكَ
نافرةً من كمِ القميصِ أراها
*
تُجلجلُ بالضحكِ
حاملا جمجمةَ أرسطو
تستشفُ (.....) لاعبي النردْ في "المجيدية"
عند المسدساتْ
قوسُ قزحِ الزيتْ
ماءُ نيسانْ (...)
الشايُ، شيخوخةُ بخارهْ.
أنتَ!
أنتَ الجاعلُ بُعدَ سيدةٍ تُدعى زُليخةْ يقتربْ.
*
تُطبطبُ بكرةِ السلّةِ
السفرةُ الى IPC- Training Centre
- حرارةُ الشاي بالحليبْ -
قصيرةٌ حتى وان كانَ
سيدُ تلك الأروقة مجهولا - .
في شوارعِ كركوكَ تخطو
فتتهاوى من حولك الأبنيةُ
كي يتنفسُ الحجرُ
خليلُ تلكَ الأرضِ (قَيّريةُ السماءْ)
النائيةُ عن شبيهاتها
في الاعتقال آمنةٌ
انتظرتْ أوبتِكَ
من نيويورك وبيروت بغداد
الى المثوى:
السَمومُ على الجماجمْ
الشرطةُ الموتى، الرُطوبة في القُحوفْ:
نصلُ كركوك - المدينةُ الشفرة.
*
تَرُشُ هواءً لتتحكم بالنارْ،
في عصفها على الذهب
وهذا على فلذةِ صخرٍ
تَرقُبُها الأراملْ و/ أو المرأةُ
المتفاخرةُ ليومها المجلوفْ
والأخرى الحاملةُ نتفَ حياةٍ:
أُسرَ الزوجُ الذي تعوزهُ الجواربْ
فتهاوت الى الحَدْبِ
على الصغار وعلى الأماسي
إذ كانَ يعودُ
بوهمِ الطعامِ
في سرواله.
*
(أما زلتَ تذهبُ الى بغداد؟
أتعودُ محترقَ المُهجةِ فتثقُ في الليلِ بأشباحِكْ، أيها الشهيدْ؟)
*
أراكَ مع فانُوسكَ وكتبكَ
متربعاً تحت النجوم.
وكيفْ؟
أترتعشُ إذ تمرُ النسائمُ
على الغشاوة الدكناء للأفلاكِ
في ليل كركوك؟
ليلُ تعرفُهُ، لا يريدُ أن يَفنى
يعرُضُ رعباً ويأوي انقطاعاً
ونظراتَ الكركوكيين
المتهولين بنجومهْ
ليلٌ يتقارعُ مع مصيره
قدام الذاكرةِ المختومةْ.
*
قضمةُ الغِريَنْ
في الصباح المنقى
صّهْ! صَه!
لقد تبددَ الصًراخْ
أما الذي ارتعبَ فقد قطعَ جبينَهُ
بشظية زجاجٍ ومضى.
*
تعنّفُ العالمَ في الزنزانةْ
تظنُ التعبَ يعتريكْ
كلا، إنه الوهمُ الصلدْ
التنفيذُ المحكمْ...
وراء أبهة الوقائع.
مُراهقة كركوكيّة
ستتهرأ اللحوم
وسيظهر عاجُ العظام
في فساحة تحت الشمس
وسيقع تحت ملائكية النجوم حدثٌ
هو من طبيعة النهار
ومن شأنه
أن يكون
تحت الشمس
وهو ربما قتلي
وبالذات
إذ اعتبرُ
ربما واهماً، وأخيراً،
ان الفرح في الأشياء قد حلَّ:
السطوع في المخيلة
كوجهيّ الأم والأب
المقلقين للضمير
اللحظات الحاوية
اندحارها ثم موتها
حين نتوق لأن تأخذنا
الى التخدر في مآويها
عيونٌ وأذرعٌ مُحبة.
*
تأتي الى كفي حرارةٌ
تُريد السفوحَ على التكاوين
قبل الخروج للتسكع.
خارج الحيطانْ
بعينين نصف مغمضتين
في لحيظات التهذيب في الفيء
(الأشْنةُ على كوزِ الماء المكسورْ)
النهارُ المنبلجْ
القادمْ / القائمْ
قدوساً متفرداً عتياً
السائلُ القافعْ
يجلو العقول
لتكون شُهوداً على القتل
فنتسلى، كحق مكتسبْ،
اللحظةَ هذه، بالشاي.
لحظاتُ القدوم من طريقٍ وراءه
نسوةٌ ساخنات لا يبذرن توقهنْ
خَطوٌ ذئبيْ وارتعاشٌ أمام الأبوابْ
ثم انعطافٌ فانزلاقٌ
الى الفراغ والوحشةْ
لقاءاتُ التساقي بالأحاديثْ
معاينةُ الوجوهْ.
زينب ص.
أمامَ قِططهمْ وأفاعيهمْ
عندَ النيل او في حرش البرديّ
بلغَ البحرُ وجهَكِ.
أُمتُحِنتِ قسراً أو اختيارا
تبوأتِ بعدَ التحولات عرشا
أمضيتِ، أيتها الخجولْ، الوقتَ تتأملينْ.
*
في حفل الصيدِ والافتراسْ
رأيتِ البطَ يخذُلُه الهواءْ
يصطدمُ بالجليدِ ويهوي في الظلامْ
ورأينا إذ جئنا
يدَكِ في الماءِ وسمعنا،
لعلْ، لعلْ...
جميع القصائد مكتوبة خلال العام 1993، باسثناء "سيدة كاملة..." في 1994
وكلها مأخوذ من مجموعة تحت قيد النشر: "أناشيد الروح العراقية الهائمة"
Website: http://al-ghassani.net/