شاعرة لبنانية من مواليد 1970، بيروت. مترجمة في جريدة النهار، ولها مساهمات في الملحق الثقافي وفي عدد من المجلات والصحف العربية. تدرّس اللغة الإيطالية، ولها ترجمات.
في الشعر والمسرح لعددٍ من الأدباء الفرنسيين والإيطاليين، وتعمل على إعداد انطولوجيا للشعر الإيطالي في القرن العشرين باللغة العربية. اصدرت ثلاث مجموعات شعرية: "وقت لحلم" (1995 بالفرنسية )، "دعوة الى عشاء سري" (1998 - دار النهار للنشر) و"يدان إلى هاوية" (200 دار النهار للنشر). ترجمت بعض قصائدها إلى الفرنسية والإيطالية وصدرت في عددٍ من الانطولوجيات والمجلات الأدبية.
مجازفة بالذات الداخلية
لا يسعني أن أتحدث عن الشعر كما لو أنه موجود أمامي أو على مسافة موضوعية مني. فالشعر مقيمٌ فيّ، جنباً إلى جنب مع حواسي، وغرائزي، ولا وعيي. وإذا كنتُ أقول إني أعيشه فلأني موقنةٌ أنه الرحم الذي يضمّني إليه ويمنحني الشعور بالأمان، لكن الأمان المعذِّب والمضني. وإذا كنت أعجز عن التعريف به، فلأن الرؤية ستكون شبيهةً بالبركان في لحظة ثورته العمياء، مثلما ستكون جارفة كمياه متفجرة على التو من النبع. هذه الرؤية يصعب الإمساك بها والإدعاء بأنها ستقع في الأسر، وإن كانت لحظة البركان سيهدأ روعها قليلاً وتتحول الى جمر عميق. وإن كانت لحظة النبع المتفتح ستشقّ مجراها، مشيِّدة جسدها وإيقاعاته وموسيقاه بانسجام دقيق ومتكامل. صحيح أنه كائن مجنَّح، صاعق في جنونه وعبثيته، بل حرّ وحرّ حتى الثمالة، وصحيح أنه توقّ لا إرادي الى مجهول ما، وهو توقٌ لا يبغي وصولاً، لكنه كائن قصديّ أيضاً، وخصوصاً في ما بعد، عندما لا يكتفي بكونه محض لحظة. أي عندما يريد أن يتحقق كمعنى قادر على البقاء بعد انتهاء النشوة. تماماً مثلما ينصنع الضوء بصوّان اللغة اللينة والصابرة بعد أن يومض في عتمة الانسحاب. وسأكون أمينة للشعر عندما سأعتبره مجازفةً دائمة وكاملة بالذات الداخلية، مثل التحليق في الليل الكامل، أو في الفراغ الكامل، أو في الضوء الكامل، وإن كان هذا يؤدي الى اللارجوع. سيقول البعض إنه رغبة، وأكاد أقول معهم إنه رغبة حسية أيضاً. صحيح، لكنه رغبة الرغبات، مثل الحب، ما ان يتحقق حتى يشعر صاحبه ان عليه ان يبدأ من جديد. لأنه لا يرتوي.
هو في هذا المعنى بدايةٌ دائمة ومطلقة. والبداية هي دائماً رغباتٌ مطلقة. وإذ هو مجازفة لا تحسب حساباً لربح أو خسارة، إلا أنه لا يزعم تغيير العالم. يكفيني منه - ويكفيه - أنه يشعل قمر الحدس والارتياب والعذاب اللذيذ والغيم المتأهب للانتشاء.
احتمال
قصيدة غير منشورة
لمسةٌ تكفي لتخون ثمرة ناضجة عشيقها الغصن
خريفٌ يكفي لتتنبأ غيمةٌ بمصيرها
كنزةٌ من جمر
ليتدثّر البرد في موقد الشتاء
ضفّةٌ بل ضفّتان
كي لا يهرب نهرٌ من سرير نومه
تفاحةٌ أو فكرةُ تفاحة
لتحتفي الشجرة بشهوة أنوثتها
صخرةٌ وآهة
ليتعلم النبع كيف يشق مصيره
قوسُ قزح وسرابُ ابتسامة
لتتفتٌح غابةٌ تحت المطر
نجومٌ تتنفس الصعداء
كي يعلن القمر بداية السهرة
ظلٌّ لبحيرة
كي يخمد العصفور شمس غربته
برقٌ يحلم
كي تتكهرب نجمةٌ بذهب جسدها
عشبةٌ وهمسُ عشبة
ليخضرّ القمر
احتمالات كهذه تكفي لتتغيّر وظيفة القلب
بل رجل واحدٌ أقول ليلٌ واحد يكفي لأكون امرأة.
من مجموعة "يدان إلى هاوية"
عادات سيئة
قالت إن الحب يشبه القمار
وإنها تخسر دائماً
قالت إنه عادةٌ سيئة
لا تجرؤ على الشفاء منها.
قالت إنها تخاف الضوء
رغم أن الليل الذي بذلته ليس قليلاً
تكتفي بوحدتها
ولا تبالي بالصحبة
لكنها تسقط من غيمتها
كلما دلّها مطرٌ الى أرضها.
قالت إنها فتيّة عبثاً
ورقيقة رغماً عنها
لكنها تتظاهر بالقسوة
لأن الحنان كالحب
عادةٌ سيئة
ومثله ذلك الصمت
ولن تقلع عنه أبداً.
قالت إنها إمرأةٌ ضجرة
إنها أيضاً لا تصلح للنوم
لكنها تنام كي تظل شبيهةً بالجنين
وتغمرها مياه الهاوية.
قالت إنها إمرأةٌ منهكةٌ
تنزف من نزقها كلّ يوم
ولا تريد أن تبرأ.
قالت إنها خاسرةٌ بالفطرة
خاسرة كي تستحق فوزها
قالت أخيراً إن الحياة عادةٌ سيئة
ربما لن تشفى منها يوماً
بشيءٍ من العزم
وبنسيان كثير.
بلادُكِ هذا الليل الحارق
من تكونين أيتها الغريبة ؟
أقنعتك الماحيةُ قسماتِ الهجس هي النافذةُ العمياء
بنهم البرق تسرقين النوم
ومن مجون أحلامك تفور الرعشات
مرصودة أنتِ لجهنّم الجسد
وصدعُكِ يتفتّح في الإناء
فكيف لوحدتك أن تتوسّد القلب
رغم النهارات المكتظة
وكيف لحزنكِ أن ترتدي الجفون
ولمساءاتك الشديدة الإنحدار
أن تنتشل الوجه من الهاوية ؟
من تكونين يا غربة الذكرى عن الملمس
وغربة الجذور عن الفرار
أيها الإنحلال الغامض ككثافة الغيم
والاندثار الشبيه بالذات ؟
العطشانُ جسدٌك ترويه شهوته
كصحراء تنتشي من ظمأ رمالها
أرضك الضيقة ارحب من صدر العاشق
ونقطة من عريكِ فينهمر القمر.
قولي كيف يؤتمن خيالك على الجوهر
كيف تلتئم رغباتك عند الفجر
وتلهب توقك الى التعرّي ؟
كيف يكون لكل شروقٍ سكّينه أيتها الغريبة
كيف تستطيعين !
غريبةٌ أنت أيتها الغريبة
تتأبطين وحدتك
التي تركض في السهول
باحثةً عن عصافير للغابة
وحدتك الخفيفة
كنهدٍ لم يجتز عتبة الخيال.
ترى أين تسندين نجمتك عندما تمسك العتمة ؟
أين تلمعين أيتها النجمة الغريبة ؟
من تكونين أيتها الغريبةُ يا نفسي
يحسبونك المتمردة
وما أنت إلاّ شبقٌ يخترق ذاته
وذاك الذي يحسبونه رفضاً
ما هو إلاّ دوار التيه.
ومن فرط الأقنعة يمّحي وجهك.
تعال
تعال
نصنع قمراً جديداً يهرع إلينا من النافذة
فنعرّيه من فضة الخجل
ونُلبسه دغشة المساء وسيولة الشبق.
تعال
نعجنه وننضجه
ليصير كعكةً
أو جنوناً
فنأكل ونعطي العصافير ما يجمع شملها.
تعال
نضحك على الغيوم السكرى
ونسرقه من خرومها
لنزيّن الهواء بالطيش
ونضيّع الأفق بالدوار
ثم تقصد هاويتي وتفنى في فناء عينيّ.
تعال
نمِّش صدري برغبات عينيك
تعال
لا نقتل البرد بل ندفِّئه
لا نخنق الطمأنينة بل نطرّيها
تعال
لا نُحدث نوماً ولا ضجراً
بل جنحةً وعذاباً
من مجموعة "دعوة الى عشاء سري"
عندما ثمرةً صرتُ
كنت بنتاً عندما ولدتني أمي تحت ظل القمر
لم أبك شأن الطفال لكني أحببت أن أكون ذكراً
ولكي تطيّب خاطري
غسلتني بماء غامض وبأقمطة النقائض لفّتني
نذرتني إلى حواء الدهشة والتحوّل
وبالعتمة والضوء عجنتني
هيكلاً لشياطين الجنة
غريبةً نشأت ولم ينشغل أحد بأفكاري
فضّلت ان ارسم تفاحة الحياة على ورق ناصع
ثم شققتها وخرجت منها
بعضي يرتدي الأحمر وبعضي الأبيض
لم أكن فقط داخل الزمن أو خارجه
ففي المكانين نشأت
وتذكرت قبل أن أولد
أني أجساد جمة
وأني طويلاً نمت
وطويلاً عشت
وعندما ثمرةً صرت
عرفت ما ينتظرني
قلت للسحرة أن يعتنوا بي
فأخذوني
كنت
ضحكتي طيبة وخفرة
أطير على ريش عصفور ووسادةً أصير في الليل
رموا جسدي بالتعاويذ وقلبي دهنوه بعسل الجنون
جاؤوني بفاكهة وحكايات
وهيّأوني لأعيش بلا جذور
ومن ذلك الوقت أنا أغادر
أتقمّص غيمة كلّ ليل وأسافر
لا يودّعني سواي ولا يستقبلني سواي
من انعتاق أطير لا من خوف
وأعود من شوق لا من خيبة
دأبي البحر وبوصلتي العاصفة
وفي الحب لا أرسو في ميناء
في الليل أترك الكثير منّي
ثم التقي بعضي بعناق شديد عندما أعود
توأماي المدّ والجذر
الموجة ورمل الشاطئ
تمنّع القمر وغلمته
الحبّ وموت الحبّ
في نهاري أكون
ضحكتي للآخرين وسفري لي
فمن يفهم إيقاعي يعرفني
يلتحق بي ولا يكون معي.
ذات جنون
عندما يحين الوقت
ذات جنون
سأصطاد الفضاء وأصافح الغيمة
سأستعير الزوبعة
فأترك الدموع الطافرة ورائي
دموعاً طافرة
وأذهب.
عندما يحين الوقت
ذات فراشة ليلية
سأخلع وداعتي التي سئمت
سأخلع ثوبي المستنفر عبثاً
وأضرم الأمس
فأعود ملساء كالأرض من بعيد
وأدور على نفسي
حول القمر.
عندما يحين الوقت
ذات فجر بلا ندى
سأجهر بوجهي المتلبّد
وأدفن وجوهي الصافية.
مسكونةً بعنادي سأكون
معجونةً كخبز الزمن
لا يهمني جمع فُتاتي
سأوزع ظلال ضوئي على ذاتي
سأجعلها تقطر مثل عسل اللذة
نقطةً نقطة
قبلةً قبلة
كي تطفو على وجه النهر
تلك المرأة التي أدخرها.