يُعدُ الشاعر محمد جبر الحربي، وأحداً من أبرز المساهمين بفاعلية في إثراء الحركة الثقافية والشعرية والصحافية بالمملكة العربية السعودية، من خلال إشرافه على صفحات ملحق "أصوات" الصادر عن مجلة اليمامة خلال الثمانيات الميلادية، ومن خلال إصداره لعددٍ من الدواوين الشعرية، منها: ديوان "بين الصمت والجنون" عام1983م وديوان "مالم تقله الحرب"
الصادر في عام 1985م وديوان "خديجة" الصادر في عام 1997م، ويُعدُ الآن ديوان شعربعنوان "كتاب النساء" ولديه كتاب نثري، بعنوان "للريح..للمطر" كما إنه قد شارك في استنهاض الحركة الثقافية من خلال مشاركاته في الفعاليات الثقافية العربية، كمهرجان المربد وجرش وغيرها من الفعاليات التي أقيمت في تونس ومصر واليمن ودول الخليج العربي، وهو بهذا يكون قد ساهم أيضاً في إيصال الصوت السعودي إلى مشرق العالم العربي ومغربه، عبر علاقاته المتميزة والوثيقة مع مختلف الساحات الثقافية. عمل مسؤولاً للتحرير في صحيفة اليوم الصادرة بالدمام، في مكتبها بالرياض خلال عامي 1981/1982 ثم رأس القسم الثقافي في مجلية اليمامة خلال الفترة 1983-1989 ثم عمل مستشاراً للتحرير في صحيفة الجزيرة خلال الفترة 1995-1997م . (رفض الشاعر كتابة سيرته فكتبها لنا مشكورا زميلنا محمد السيف)
كتبتُ أول قصيدة وعمري أربعة عشر عاماً، ولم أكن أعرف ماهو الشعر؟ وهانذا في الأربعينات لا أستطيع إعطاء مفهومٍ محددٍ للشعر! ولكنه بالنسبة لي مرادف للحياة، وللإنسان بكل تناقضاته، تقلباته، طموحاته ومآسيه، من صرخة الميلاد إلى عتمة اللحد وسكونه!.
وإذا كان من السهل تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق عاقل، فإنه من الصعب فهم الإنسان أو وضع مفهوم له! كذلك الشعرُ!!
فهل هو رؤية للعالم عبر الأنا، أم رؤية للأنا عبر العالم وانعكاس لها؟!!
هل هو انتصارٌ لقيم الخير والفضيلة والجمال والحق؟!!
هل هو النور ضد الظلام، والتغيير ضد الرتابة والجمود؟!
هل هو القطيعة والاستئناف؟
هل هو اللغة أم تفجير اللغة ؟!
هل هو لاموسيقى؟ ولمن السطوة للشكل أم المضمون؟!
هل هو العمود أم التفعيلة أم النثر؟!
بالنسبة لي الشعر تراكم معرفي لشجرة حياةٍ نادرة، نُحتت منها آلة عودٍ خرافية ساحرة يصدر عنها الشعر!
العظيمة
خاصة بإيلاف
خّذي بيدي
تعبت قدماي.. خذي بيدي
أنكرتني القبيلة والأهلُ
"والمدن المشتراة
وتلكك التي في الندى المشتهاةُ "
فالبلاد بلادي
وذا النخلُ نخلي، وشاهدُ رمسي .
وذا الماءُ مائي
وذا اليبس يبسي
وحتى المساءُ له دفءُ همسي
وحتى النساءُ لهنّ الجمالُ
الذي رسمتهُ أناملُ حدسي
فقدمتهُنَّ
وعلّيتهنَّ على كلّ لبسِ
وسمّيتهن
سمّوا بهنّ
على كلّ إنسِ
فكنّ الجليلاتِ تاجاً لرأسي
وكنّ ليَ الفأل في يوم نحسِ
وقد صُنتُ نفسي
وعلّمتُ نفسي
فرقّيتُ نفسي
وصرتُ كبيراً فضاقتْ على الدروب نفسي
وأصبحتُ شمساً
وأصلحتُ دورة روحي الصباحَ
فلا تطفئي الليل باللوم شمسي
فما خُنتُ بوحي
ولا خُنتُ بالهمسِ بذري وغرسي
وما خنتُ جذري
إذا أصبح الناس روماً بفرسِ
***
خذي بيدي
أخرجيني لبعض السماء
وبعض الهواء
فلن يُرضي اللهَ قيدي
ولن يُرضي اللهَ حبسي
***
خذي بيدي
قد سلمتُ من الشّك
هاتي يقيني
وهاتي من الحلم رأسي
***
خذي بيدي
فالجيادُ أضاعت بنيها
وما ظلّ منها سوى الذكريات
وما ظلّ من فارسٍ يحتويها
وصرتُ وحيداً
أنا الجمعُ أصبحتُ وحدي
فكيف أنا الجمعُ أصبحتُ وحدي؟!!
***
خُذي بيدٍ حُرّةٍ
وتملّي نهاراً بها :
هذه الكفُ قطرُ الندى يعتريها
فهلاّ قرأت العواصمَ فيها
ولولا صبرتِ
لأدركتِ أن التفاصيلَ
تُبعد عدنانها عن بنيها
وأدركت أن لقحطانَ شأناً
وأن الخطوط تدلّ على تعب العمر
ياليتني أفتديها
***
خُذي بيدي واستقلي
وكوني لي الفجرَ نوراً طهوراً
وكوني لي الهرَ ظلّي .
خذي بيدي أرجعيني
وسجادتي
لا تدلي العدوّ عليها
واتركي الضوءَ منفلتاً من حصار الظلام
وقومي نصلي
النوابت
الفارابي
وحدهُ يبني
ويخلقُ في فضاء الله
مشروع الولادة
وحدهُ الآتي
طيورٌ حنطةٌ في الشمس تتبعهُ
تسرّبُ من يديه
وتعتلي صمت الإرادة
إلا النوابتُ ضده
في العقل
ناثرةً بذور الجهل
محكمةً سواده
ابن باجة
النوابت سرُ الفتى
والنوابتُ سرُ المدى
والنوابتُ سرُ الولادة
والنوابتُ محكومةٌ بالصحارى البطيئةِ
محكومة بالسياط
ومحكومة بالشهادةِ
تلك التي كيفما يشتهيها الغلاة ستُمنحُ
قد كان في غفلةٍ
هكذا قيل
لكنه كان فيما يُخبئُ
منتصراً للحياةِ.. على قهرهِ
للنوابتِ في سره
لم يكن غيرهُ والنوابت
لم يكن غير حلم الولادة
المُغني
أنا أولُ العاشقين وآخرهم
سقطت نجمة عند بابي
صرختُ ثيابي
نزعتُ من شبابي الطفولة
أدركتُ أنّي
على غير ما استسيغُ أغني
إلهي أعني
أأبكي؟!
أكلُّ الذي يفعلُ المرء في صمته أن ينوح؟!
أكلُ الذي في البرية يُحمدُ؟!
إني اتخذتك همّي
وساءلتُ نجم العشية قُدني
أبي ليس يعرفُ
أمي مضت
فمن ذا سيرفعُ رعبَ العبارة عني؟!!
وماذا يظلُ؟!
ومن ذا على هدمه سوف يبني ؟!
ومن ذا على ذمّه سوف يُثني؟!!
بلادٌ أحطت بها لم تُحطني
وأهلٌ كما الماء في الماء
لا دهشةٌ في الغياب
ولا دهشةٌ في المآب
ولا دهشةٌ في التجني
سأذكرُ ما ليس يُذكرُ
إني افتقدتُ البراءة
حين افتقدتُ التمني
فقد كانت الأرضُ
ناعمةً والطفولةُ
مجنونةً والليالي
مهادنةً كالتّأني
وكنّا نغني
ولكنما الوعيَ أفسد بوح الشجيرات للماء
بوح الحقيقة للحقِ
بوح المُدانين بالدّين
بوح العصافير صادحةً دونَ منّ.
وماذا يظلُ؟!!
الحقيقةُ
أم جفوة الرّملِ؟!
هجسُ الفجيعةُ
أم هجعة المطمئنِ ؟!
أيا أيها الوعيُ
يا أيها الوعيُ
أفسدتَ ذوق المغني!!
العبسي يُحاصر الذاكرة
مُلقىً
وعبلة لا تفارقني
لكأن رأسي خدرها
ويدي أصابعها
تُزيل الليل عن عينين واسعتين
أقرأ في سوادهما وأكتبُ - حين أكتب- دمعتين:
خدرها وطنٌ
وعيناها يدان
مدنٌ تعلمك الكتابة والحديث
مدن تعلمك الرّهانَ وكيف تخسر في الرهان
تركضُ من طفولتك الفقيرة
ورتعاشك في الحجاز"الطائف" الجبلي
والماء الرضي
إلى ارتعاشك في سوادهما
زمان غامض
والجوع وديانٌ من الحزن الحثيث
لكنّ عبلةَ لاتفرطُ في الحديث!
**
ياعبلُ جوعٌُ وطرفي لم ينمْ
لا السيفُ سيفي في الغبار
ولا القدم
فعلامَ يحتاطون من نومي
ويرعبهم لساني
وأنا السنينُ تمرُ لم أبرح مكاني
وأنا القصيدةُ لم تتمْ؟!!
**
مُلقى
حذائي تحت رأسي
والسماءُ خفيضة
ولصيقةٌ بفمي
ودمي تعطّل عن مُجاراة الهواء
فمن يُكفنُ أنجمي السقطت
ومن ذا شافعٌ لخطيئة الأعرابِ
من يؤوي الفجاءة
في نهارٍ طلّق التاريخُ دورتهُ
وتقاسمَ الأحزابُ ثورته
فما من جذوةٍ لخطاي
ما من رُقيةٍ لخُطى الصباح المظلمِ
**
قطعانُ قلبي
لم تجد مرعى يليقُ بجائعٍ
وطيور عيني دون ماءٍ
الآن نعرفُ سرّ هذا الثقبِ
في جسد السماء
قطعانُ قلبي دون ماء
الآن نعرف سرّ هذا الرعب
قطعان قلبي والعصافيرُ الصغيرةُ دون ماء
الآن نعرف سرّ هذي السُحب
قطعانُ قلبي دون ماءٍ
أسلمتُ ماء قصيدتي
لقوافل الفقر البطيء
وكان أوّلها فمي :
يا دار عبلةَ بالجواء تكلمي!