ولد في مدينة الكوفة في العراق عام 1955. بدأ كتابة الشعر في سن مبكرة. عمل في الصحف والمجلات العراقية والعربية. غادر العراق صيف 1993 شارك في العديد من المهرجانات الشعرية. صدرت له 10 مجموعات شعرية: (انتظريني تحت نصب الحرية/ أغنيات على جسر الكوفة/ العصافير لا تحب الرصاص/ سماء في خوذة/ مرايا لشعرها الطويل/ غيمة الصمغ/ تحت سماء غريبة/ تكوينات/ نشيد أوروك "قصيدة طويلة"/ تأبط منفى).
وله مختارات شعرية: "خرجتٌ من الحرب سهواً" القاهرة 1994/ "صراخ بحجم وطن" السويد 1998. تُرجمت مختارات من أشعاره إلى لغات عديدة وصدرت بعضها في كتب باللغة السويدية والهولندية والاسبانية. حصل على جائزة هيلمان هاميت العالمية للإبداع وحرية التعبير في نيويورك HELLMAN HAMMETT عام 1996/ وجائزة مهرجان الشعر العالمي في روتردام POETRY INTERNATIONAL AWARDعام 1997. يقيم حالياً في السويد.
الشعر على أعتاب القرن الواحد والعشرين
(1)
لماذا نكتب؟
يقول الشاعر الفرنسي جان كوكتو: "الشعر ضرورة،... وآه لو أعرف لماذا " نعم، - أصدقائي الشعراء- آه لو نعرف لماذا نكتب؟ نحن حفاة التاريخ ومؤسسي ممالك الدهشة، المشردين على أرصفة الكلمات. طردنا أفلاطون من جمهوريته، فهمنا على وجوهنا في كل وادٍ - كما وصفنا القرآن - يتبعنا الغاوون، وتلاحقنا التقارير والأنظمة والحكام والشتائم. نحمل الوطن المصلوب من منفى إلى منفى كما ردد البياتي، أو نحمل خشبة الصلب على أكتافنا نبحث عمن يصلبنا عليها كما فعل الشاعر دعبل بن علي الخزاعي. صلبوا منا الحلاج ورموا أبن المقفع في تنور مسجور وأمروا يزيد بن مفرغ أن يحك بأظافره قصائد هجائه للحاكم، التي كتبها على الحيطان حتى بريت أصابعه وظلت تنزف دماً حتى مات، والخ والخ، وقائمة الذبح والتشرد تطول..
فلماذا
نعم. لماذا نكتب؟ ولماذا الكتابة؟
إن الكاتب مهما أوتي من قدرة التعبير والتنظير عن فنه وهواجسه، سيجد نفسه مرتبكاً أمام سؤال مثل هذا يريد أن يختصر عمره كله بكلمتين فقط: "لماذا الكتابة" ثم يختمهما بعلامة استفهام تشبه أنف محقق في دائرة أمنية. وأعود إلى كوكتو ثانيةً وهو يقول: "أن الفنان لا يستطيع أن يتحدث عن فنه إلا بقدر ما تستطيع الشجرة أن تناقش في الهندسة الزراعية"
هل نكتب لهذا القارئ الذي وصفه بودلير بقوله: "أيها القارئ الخبيث، يا أخي، يا شبيهي" أم نكتب لنقض مضاجع الطغاة أينما كانوا كما عبر الجواهري ذات قصيدة:
"أنا حتفهم ألج البيوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا"
أم نكتب "من أجل إبهاج الكثيرين وإزعاج البعض" كما يقول جاك بريفير، أم نكتب لنقلص الشقة بين حياتنا المؤجلة وانتحارنا المؤجل كما يذهب سيوران في قوله "القصيدة انتحار مؤجل" أم لنزيد امتداد الشقة كما يرى هوارتيوس: "الحياة قصيرة والفن باق"، أم لنلاقح بينهما كما يعبر عبد الحميد بن يحيى الكاتب وهو يصف الكلام بأن خيره "من كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً" أم نكتب لنلتهم كلمتنا حين نجوع كما أفصح مارك ستراند: "حبر يسيل من زاويتي فمي/ ليست هناك سعادة مثل سعادتي/ لقد كنت ألتهم الشعر"، أم نكتب للتحليق في سديم العالم البلوري الذي وصفه اكتوفيو باث قبل أن يودع عالمنا الفحمي وهو يقول: "إنني أزحف فوق التراب لألتقط الكلمات الأولى للقصيدة وتلك متعة تحملني وتحط بي في عالم بلوري"
(2)
الشعر وروح العالم
لماذا تم تغييب الواقع عن الأدب، واقصاء النص عن مجريات الحياة العامة؟
البعض يحاججك بالحداثة، والآخر يعتقد أن تطورات المدارس الفنية السريعة هي التي آلت بالنص الحديث الى هذا الاتجاه المتطرف، والآخر يرى ان النص لم يعد انعكاساً لحياة الشاعر وعصره فهذه الوظيفة المستهلكة التي لاكتها المدارس الكلاسيكية والواقعية والرومانسية زمناً طويلاً قد مجها العصر الحديث والشاعر الحديث والقارئ الحديث، والآخر يرى ان الابتعاد عن الجماهرية انقذت النصوص من المباشرة والحماس الفج الذين جعلا الكتابة مجرد تسجيل حرفي للواقع.
غير ان مثل تلك الطروحات ــ وفيها الكثير من الصحة احياناً ــ تنعطف عن ادوار الادب في الحياة بما فيها دوره الجمالي، وتجعله مجرد نص ذهني بحت ليس له من وظيفة وهم سوى التجريب الذي يفضي الى التجريب، والى ما لا نهاية..
ولست ضد التجريب ابداً، فهو خيرٌ من الثبات والتكلس الف مرة لكن تحول النص الى مجرد لعبة مسلية بالكلمات المتقاطعة يفرغهُ من حياته ودوره وجمالياته.
لكن ما هو البديل؟ وسط هذه الفوضى الشعرية التي تعج بها مكتباتنا وصحفنا ومهرجاناتنا كل يوم.
اين هو الشعر الحقيقي؟ تحت هذا الركام الكونكريتي من القصائد، الذي اخذ يغطي على كل شيء باطنان من الكلام الفارغ دون ان نتلمس منه شيئاً.
اين روح الشعر تلك التي اضاءت العالم لعصور طويلة منذ هوميروس المغني الاعمى الذي كان يرى بان الشعر اعادة لصياغة العالم، وحتى عصرنا هذا، حيث بامكاننا الان ان لا نقرأ التاريخ المكتوب بل نقرأ الادب لنلم بما جرى من احداث لعالمنا منذ بدء البشرية حتى يومنا هذا.
واتركْ الانعكاس والواقع والوقائع التي هي من شغل المؤرخ، لكن تعال وتلمس بروحك وعينيك رعشات روح البشرية واختلاجات نبضها الضاج بالحياة والموت والصراخ والحب والامل والرماد، فيما نقرأُ من نصوص خالدة لم تفرط بجمالياتها وحداثتها على مر العصور، بل هي اكثر حداثةً ــ رغم تقادم القرون ــ من بعض نصوصنا المعاصرة.
واعدْ قراءة النفّري ومقابسات التوحيدي وقصائد المتنبي والحلاج وامرئ القيس وابي نواس والشريف الرضي وابن الرومي والخ.... واعدْ قراءة ملحمة كلكامش والالياذة والانياذة والشاهنامه والرومايانا والمهابهارتا وبستان الورد للشيرازي وازهار الشر لبودلير ولقالق حمزاتوف وبرابرة كافافي والمركب السكران لرامبو والارض اليباب لاليوت والخ.... تجد انها كانت النبض الحقيقي لعصرها والسجل الخفي لتاريخ الناس ومشاعرهم وفنهم والشاهد الحقيقي على احداث العالم.
ان الشاعر الكبير اكبر من المدارس والاتجاهات الفنية وهو الذي يطوّعها لفنه ولنصه وليس العكس، فقد كان ابو العتاهية مثلاً يرى نفسه اكبر من العروض، مثلما نرى ان مايكوفسكي اكبر من الواقعية، وان مالارميه اكبر من الرمزية، واراغون اكبر من السريالية، بل هم كل هذا الخليط المدهش من الاتجاهات والمدارس الفنية ذلك ان كل فن عظيم ــ كما يرى الفنان الانكليزي هنري مور ــ يتضمن عناصر سريالية وتجريدية معاً كما يتضمن عناصر كلاسيكية ورومانتيكية لانه يتضمن النظام والمفاجأة، والذكاء والخيال، والوعي واللاوعي.لقد كان غوته يرى "ان الشاعر الحقيقي هو قاص كبيرٌ ايضاً " وذلك لانه يرى ويصور ما يدور حوله من وقائع ومعارف ومشاعر، ويعيش مجريات عصره نصاً وحياةً، وهذا ما يؤكده إليوت في نظريته التي تعتبر " الشعر هو خلاصة المعرفة الانسانية وعصارتها " بل هو بصورة ادق "يعبر عما لا يمكن التعبير عنه" على حد تعبير اكتوفيو باث، وفي ذلك الاتجاه ذهب الفراهيدي الى القول بان " الشعراء امراء الكلام " وشاركه فرويد بعد الف عام بقوله ان "شعراءنا هم اسيادنا في معرفة النفس نحن الناس العاديين لانهم ينهلون من ينابيع لم نجعلها بعد سهلة المدخل للعلم " ويؤسس اراغون مملكته الشعرية على انقاض خراب العالم كما يرى ويحلم ويحب قائلاً بان "الشاعر يعيد تركيب الكون كما يحلو له" وبما انه ليس للشاعر من ادوات كما للاخرين يرى ازرا باوند بان الشعر يمكنه ان يفعل ذلك حيث هو يعيد " بناء العالم بواسطة الكلمات " وهذه الكلمات الشعرية هي التي " تضيء التجربة الانسانية العميقة " على حد قول فؤاد رفقة، ومن خلال ذلك الحس الانساني نتلمس البعد الذي ذهب اليه الشاعر الامريكي ايمرسون عندما وصله ديوان اوراق العشب لـ " والت وايتمن " في البريد قائلاً بعد قرائته : "مسحت عيني قليلاً لارى ان كان هذا الشعاع الشمسي حقيقة وليس خدعة ".
فأين ذلك مما نقرأه اليوم من نصوص بعض شعرائنا الموغلين في التغييب واقصاء العالم والحياة والمتلقي، حتى اننا نجد الشكوى تمتد لتشمل الشعراء انفسهم حيث يقول أمل دنقل: " ان موجة كاملة من الشعراء الذين برزوا في السنوات العشر الاخيرة تقرأ لهم فلا ترى وقع أقطارهم ولا واقع الوطن العربي كله في شعرهم ولا تعرف إذا كان مثل هذا الشعر مكتوباً في لبنان أو المغرب او في ايرلندا ".
(3)
شيء عن البدايات..
شيء من السيرة
كيف يمكن لشاعر بعد ثلث قرن من الشظايا والشظف والكتب والأرصفة والهلع والغربة أن يتحدث عن البدايات. إذاً، ومن أين أبدأ؟ من الألم؟ أم من الكتب؟ من طفولة أحلامي الأولى؟ أم من بيتنا النحيل على شط الكوفة، بيتنا الذي سرقته ديون أبي وطيبته ومرضه؟ هل أتحدث عن دعبل بن علي الخزاعي أول ديوان اشتريته في صباي، أم عن مكتبات الكوفة والنجف وسوق السراي التي كنت التهمها رفاَ، رفاً.
البدايات تتداخل الآن في ذاكرتي، لكن دموع أمي أمام قصيدتي الأولى التي كتبتها عن أبي الراقد في مستشفى الكوفة - وهي تتلألأ أمامي الآن رغم مرور كل تلك السنوات - كانت هي الشهادة الأولى والمصدر المعرفي الأول الذي علمني أن الألم (التجربة)، والقصيدة توأمان. فمن تلك الدموع بدأت رحلة القصيدة عبر شوارع الطفولة واليتم ودخان الحروب ومن ثم إلى صقيع المنفى.
كنت أرقب أمي طويلاً وهي تخيط الثياب بأجر زهيد أو تتلو القرآن.
تلك التراتيل أعطتني دفق اللحن السماوي وعلمتني التصاعد مع النغم والذوبان فيه.
والخياطة علمتني مهارة "اللظم" ربما، والاقتصاد بالنظم.
وأعود إلى المصادر المعرفية الأخرى. وسأشير قبل كل شيء إلى الحياة نفسها ومن ثم أشير الى الكتب. هل كانا متلازمين في تلك الرحلة أيضاً؟ نعم. وإلا كيف يمكنني الآن أن أفصل عملي: بائع سجائر وبوظا ورقي وندافاً، وعامل مقهى وعامل بناء. كيف أفصل ذلك عن شغفي الأول بالمتنبي وحماسة أبي تمام، وايلوار وأراغون وأغاني أبي الفرج الأصفهاني وأبن المقفع وزكريا تامر ومحمد خضير وكافكا وتولستوي والجواهري، ومعهم روايات عنترة وأرسين لوبين وشرلوك هولمز والسندباد البحري.
وكيف أفصل سنوات الحرب وهلوسات مستشفى البصرة العسكري- قسم الأمراض النفسية (الذي دخلته مرافقاً لأخي) عن محمد الماغوط والسياب والبياتي وعبد الرحمن منيف وسعدي يوسف، وأخي ممدد أمامي زائغ العينيين. ومن ثم تنقلي بين الثكنات والسواتر والمهرجانات والقصائد والألغام وصولاً إلى إسطبل مهجور عشت فيه عاماً ونصف، ثم إلى عملي في الصحافة وهموم القصيدة في كل معتركاتها.
كيف أفصلها الآن عن سنوات الشتات في أصقاع المنافي. أو أفصلها عن التنوع الفنطازي في القراءات والأحلام والتجارب والإنكسارات. كل ذلك شكل الإطار العام للبدايات وربما سيمتد للنهايات أيضاً - لا فرق - ومنه يمكن التفرع إلى ذكرياتٍ وأيام حلوة ومرة لا تُنسى: علي الرماحي صديق الصبا والشعر والتحدي، ومنها إلى حميد الزيدي الذي أعدم لمحاولته التسلل خارج الوطن، وعبد الحي النفاخ الذي جُن من القراءة والتعذيب، ومنها إلى شاعر معمم نخره الفقر والكآبة هو الشيخ عبد الصاحب البرقعاوي وندوة الأدب المعاصر التي تعلمت منها الكثير وتعرفت من خلالها على شعراء النجف وأدبائها: عبد الأمير الحصيري، مشتاق شير علي، محمد سعيد ومحمد حسين الطريحي، كامل سلمان الجبوري، محمد عباس الدراجي، غياث البحراني، منعم القرشي، وآخرين..
وكانت الكتب حديثنا من مبتداه إلى منتهاه.
هل كانت الرحلة مضنية؟
نعم.
هل كانت ممتعة؟
نعم.
إنها كل هذا وذاك من صور الحياة نفسها والكتب نفسها والأصدقاء أنفسهم.
نصوص النأي والناي
أبواب
أطرقُ باباً
أفتحهُ
لا أبصر إلا نفسي باباً
أفتحهُ
أدخلُ
لا شيء سوى بابٍ آخر
يا ربي
كمْ باباً يفصلني عني
1/12/1998 مالمو
حنين
لي بظلِ النخيل بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق
كيف الوصولُ إليها
وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ
وكيف أرى الصحبَ
مَنْ غُيّبوا في الزنازين
أو كرّشوا في الموازين
أو سُلّموا للترابْ
انها محنةٌ - بعد عشرين -
أنْ تبصرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ
السماواتِ غيرَ السماواتِ
والناسَ مسكونةً بالغيابْ
3/12/1996 بودن - جنوب القطب
العراق
العراقُ الذي يبتعدْ
كلما اتسعتْ في المنافي خطاهْ
والعراقُ الذي يتئدْ
كلما انفتحتْ نصفُ نافذةٍ..
قلتُ : آهْ
والعراقُ الذي يرتعدْ
كلما مرَّ ظلٌ
تخيلتُ فوّهةً تترصدني،
أو متاهْ
والعراقُ الذي نفتقدْ
نصفُ تاريخه أغانٍ وكحلٌ..
ونصفٌ طغاةْ
حزيران 1997 روتردام
حيرة
قال أبي:
لا تقصصْ رؤياكَ على أحدٍ
فالشارعُ ملغومٌ بالآذانْ
كلُّ أذنٍ
يربطها سلكٌ سرّيٌ بالأخرى
حتى تصلَ السلطانْ
10/3/1996 دمشق
عابرة
أكونُ لكِ الجسرَ
هل كنتِ لي نزهةً في أقاصي القصيدة...؟
أكنتِ ترين الأصابعَ - إذ تتشابكُ -
سلّمَكِ الحجريَّ... إلى المجدِ
أحني دمي، كي تمرَّ أغانيكِ، من ثقبِ قلبي
إلى مصعدِ الشقةِ الفارهةْ
وأختارُ لي ركنَ بارٍ
لأرقبَ في طفحِ الكأسِ ضحكتَكِ العسليةَ
في الحفلِ،... في آخرِ الذكرياتِ
تسيلُ على الطاولاتِ
فتشربها الأعينُ القاحلةْ
فأقنعُ نفسي:
بأن المسافاتِ كذبُ خطى
والصداقاتِ كذبٌ أنيقٌ
والنساءَ الجميلاتِ... تكرارُ آهْ
26/6/1992 النجف
بريد القنابل
أنتِ لا تفهمين إذنْ
رجلٌ في كتابْ
سوف يعبرُ مبنى الجريدةِ، شعرُكِ هذا الصباح
فيشغلني عن دوارِ القصيدةْ
أتأملُ فوضاكِ من فتحةٍ في القميصِ
وفوضاي في الورق
سيمرُّ بي العطرُ
يأخذني لتفاصيل جسمكِ
أو لتفاصيلِ حزني
من سيرتّبُ هذا الصباحَ القَلِقْ
الفناجينُ باردةٌ كالصداقاتِ
والحربُ تعلكُ أيامنا
وأنا في انتظارِ الندمْ
اقلبي الصفحةَ الآنَ
برجُكِ تشغلهُ الوفياتُ
وبرجي تملؤهُ الطائراتُ
.....................
.......................
أنتِ لو تفهمين إذن
كيف تجمعني الحربُ في طلقةٍ
ثم تنثرني في شظايا المدنْ
اقلبي الصفحةَ الآنَ
لا وقتَ..
إنَّ القنابلَ
تقتسمُ الأصدقاءْ
1988 بغداد
تكوينات
أجلس أمام النافذة
أخيطُ شارعاً بشارع
وأقول متى أصلكِ
***
العصفورُ يصدح
داخل قفصه
أنا أرنو إليه
وكذلك قطة البيت
كلانا يفترسُ أيامه
كم عيناً فقأتَ
أيها المدفعي
لتضيء على كتفيك
كلُّ هذه النجوم
منطرحاً على السفح
يسألُ :
هل من شاغر في القمة؟
لا تقطف الوردةَ
انظرْ...
كم هي مزهوة بحياتها القصيرة
كلما كتب رسالة
إلى الوطن
أعادها إليه ساعي البريد
لخطأ في العنوان
للفارس في الحفل
وسام النصر
وللقتلى في الميدان
غبارُ التصفيق
وللفرس في الإسطبل
سطلٌ من شعير
لكثرة ما جاب منافي العالم
كان يمرّ منحنياً
كمن يتأبط وطناً
حين طردوه من الحانة
بعد منتصف الليل
عاد إلى بيتهِ
أغلق الباب
لكنه نسي نفسه في الخارج
أكلُّ هذه الثورات
التي قام بها البحرُ
ولم يعتقله أحد
أعرف الحياةَ
من قفاها
لكثرة ما أدارت لي وجهها
تنطفيء الشمعةُ
واشتعلُ بجسدكِ
ما من أحدٍ يحتفل بالظلام
تجلس في المكتبة
فاتحةً ساقيها
وأنا أقرأ.. ما بين السطور
بين أصابعنا المتشابكة
على الطاولة
كثيراً ما ينسجُ العنكبوتُ
خيوطَ وحدتي
على جلد الجواد الرابح
ينحدر عرق الايام الخاسرة
ـ رسام ـ
قبل أن يكملَ رسمَ القفص
فرّ العصفور
من اللوحة
ـ حساب ـ
أيها الرب
إفرشْ دفاترك
وسأفرش أمعائي
وتعال نتحاسبْ
ـ سهم ـ
لحظة الانعتاق الخاطفة
بماذا يفكرُ السهم
بالفريسة
أم...
بالحرية
ـ شكوى ـ
نظر الأعرجُ إلى السماء
وهتف بغضب:
أيها الرب
إذا لم يكن لديك طينٌ كافٍ
فعلام استعجلتَ في تكويني
غياب
رسمَ بلاداً
على شرشف الطاولة
وملأها بالبيوت المضيئة والجسور والأشجار والقطط
قطعَ تذكرةً
وسافرَ إليها
محمّلاً بحقائبه وأطفالهِ
لكن رجالَ الكمارك
أيقظوهُ عند الحدودِ
فرأى نادلَ البار
يهزهُ بعنفٍ:
إلى أين تهربُ بأحلامك
ولم تدفعْ فاتورةَ الحسابْ
- خطوط -
أنتَ تمضي أيها المستقيم
دون أن تلتفتَ
لجمالِ التعرجاتِ على الورقِ
أنتَ تملكُ الوصولَ
وأنا أملكُ السعة
1998 مالمو
- ثمالة -
انطفأتْ أضواءُ الحانة
وانطفأ العالمْ
لكن الرجل المخمورْ
ظل يدورْ
بحثاً عن سببٍ واحدْ
يوصلهُ... للبيتْ
31/1/1993 بغداد
ثلج
يسقطُ الثلجُ
على قلبي
في شوارعِ رأسِ السنةِ
وأنا وحدي
محاط بكلِّ الذين غابوا
أمسية شعرية
دخلَ
الشعراءُ الرسميون
إلى القاعةِ
واكتظَّ الحفلُ
لكن الشعر،
غريباً
ظلَّ أمامَ البابْ
بملابسهِ الرثةِ
يمنعهُ البوابْ
رقعة وطن
ارتبكَ الملكُ
وهو يرى جنودَهُ محاصرين
من كلِّ الجهاتِ
والمدافعَ الثقيلةَ تدّكُ قلاعَ القصرِ
صرخ:
- أين أفراسي؟
- فطستْ يا مولاي
- أين وزيرُ الدولة
- فرَّ مع زوجتكَ يا سيدي في أولِ المعركةِ
تنحنحَ الملكُ مُعدّلاً تاجهُ الذهبي
وعلى شفتيه ابتسامةٌ دبقةٌ:
- ولكن أين شعبي الطيب؟
لمْ أعدْ اسمعه منذ سنينٍ
فأنفجرَ الواقفون على جانبي الرقعةِ بالضحكِ
- لقد تأخرتَ يا سيدي في تذكّرنِا
ولم يبقَ لنا سوى أن نصفّقَ للمنتصرِ الجديد
تموز 1997 باحة قصر هاملت - الدنمارك
العبور إلى المنفى
أنينُ القطارِ يثيرُ شجنَ الأنفاقْ
هادراً على سكةِ الذكرياتِ الطويلة
وأنا مسمّرٌ إلى النافذةِ
بنصفِ قلب
تاركاً نصفَهَ الآخرَ على الطاولة
يلعبُ البوكرَ مع فتاةٍ حسيرةِ الفخذين
تسألني بألمٍ وذهول
لماذا أصابعي متهرئة
كخشب التوابيت المستهلكة
وعجولة كأنها تخشى ألاّ تمسك شيئاً
فأحدّثها عن الوطن
واللافتات
والاستعمار
وأمجاد الأمة
والمضاجعاتِ الأولى في المراحيض
فتميلُ بشعرها النثيث على دموعي ولا تفهم
وفي الركنِ الآخرِ
ينثرُ موزارت توقيعاتِهِ على السهوبِ
المغطاة بالثلج...
وطني حزينٌ أكثر مما يجب
وأغنياتي جامحةٌ وشرسة وخجولة
سأتمددُ على أولِ رصيفٍ أراه في أوربا
رافعاً ساقيَّ أمام المارة
لأريهم فلقات المدارس والمعتقلات
التي أوصلتني إلى هنا
ليس ما أحمله في جيوبي جواز سفر
وإنما تأريخ قهر
حيث خمسون عاماً ونحن نجترُّ العلفَ
والخطابات....
.. وسجائر اللف
حيث نقف أمام المشانق
نتطلعُ إلى جثثنا الملولحة
ونصفقُ للحكّام
.. خوفاً على ملفات أهلنا المحفوظةِ في أقبية الأمن
حيث الوطن
يبدأ من خطاب الرئيس
.. وينتهي بخطاب الرئيس
مروراً بشوارع الرئيس، وأغاني الرئيس، ومتاحف الرئيس، ومكارم الرئيس، وأشجار الرئيس، ومعامل الرئيس، وصحف الرئيس، وإسطبل الرئيس، وغيوم الرئيس، ومعسكرات الرئيس، وتماثيل الرئيس، وأفران الرئيس، وأنواط الرئيس، ومحظيات الرئيس، ومدارس الرئيس، ومزارع الرئيس، وطقس الرئيس، وتوجيهات الرئيس....
ستحدق طويلاً
في عينيّ المبتلتين بالمطر والبصاق
وتسألني من أي بلادٍ أنا...