من مواليد عام 1964 بحمام الغزاز/ تونس. صدرت له المجاميع الشعرية التالية: "عطر واحد للموتى" (دار توبقال للنشر بالمغرب عام 1987)، "الصباح لا يبادلنا جواهره" (منشورات مجلة "انترسينيه" - باريس- عام 1996)، "أبعد من الحضيض" (منشورات "تبر الزمان" في طبعة فاخرة مزينة برسوم لحفريات الفنان يوسف عبدلكي). وهو الآن رئيس تحرير "المجلة العربية
لحقوق الانسان"، كما يشغل منصب مدير المعهد العربي لحقوق الانسان.
"الجسد اللقيط: تساؤلات حول قصيدة النثر"
حين ينفتح الجرح ويبلغ النص مداه، حين نفرش طرق مغامرتنا بدموع ألمنا ورعشة عشقنا فتزهو زهرة اللغة وتهبنا حقيقتها، يعود السؤال ملحا عن كُنه هذا السر الذي يرعاه الشعر ويديم غموضه، عن هذه الرغبة المحرقة في إعادة طرق باب الكلمات وطرح آلام أجسادنا على عتباتها.قد تكون التجربة الشعرية آخر أغنيات العشق التي نواجه بها هذا الخراب المعمم. نحمل ثمارها الى الأجساد الصدئة فتينع رغباتها. ندخل بها قبور واقعنا فتنتفض الحياة وتعلن الولادة.
إننا في بحث دائم عن القصيدة التي تحمل الينا يواقيت المعاني المتعددة وصرخات المتعة المتجددة. هذه القصيدة تقبع هنا والآن نقبض على روحها الأثيرية لوهلة ثم تنتفض من سجن لهفتنا لتواصل رحلة تغربها. ولكن للغة أوهامها التي يجب أن نسألها أحيانا حتى لا يغلب إغراء النص بحثنا عن متعة الحياة. إن قصيدة النثر تتجاوز الانجاز الأدبي المحض لتطرح علينا مشروعا أعظم هو رؤية جديدة للحياة واكتشاف لغة جديدة لجسد الفرد والمجموعة من خلال حركية حضارية أشمل وحوار قاس مع "كنوز" الإرث ومقدساته. إنها دعوة من خلال تجربة الكتابة الى الذهاب الى أجواء بدايات الشعر حيث تردد وارتباك وبساطة وحشية تنبئ بولادة "الجديد" المتجدد أبدا. إن الكتابة الشعرية قد ولدت في الغربة وهي منذورة لأن تواصل رحلة وحدتها بصبر وشجاعة.ومأساة الكتابة الجديدة في لغتنا انها تعيش غربتين، غربة خروجها عن الجذور وتعميتها للإرث بأدواته [اللغة] وغربة سياحتها في رحابة الوجود متعدد اللغات.
إننا نعيش أزمة حضارية هائلة علينا أن لا ننسى قسوتها المعششة في كامل زوايا الحياة، وأن نحاول بلوغ النص الذي لا يتوقف عند حدود الرعشة الجمالية العابرة أو بلاغة الصور المدهشة، بل يذهب بعيدا في أعماق الكائن، ويعيد بناء التجربة الانسانية والتواصل الحقّ. وإن خطورة التجربة الشعرية تكمن في قدرتها على رعاية سؤال الوجود في عملية هدم وبناء دائمة تهب الذات طاقة لاكتشاف أبعادها والتطهر من عبوديتها وفضح كذب الخطب والشعارات المحيقة بها.
إن ما يجعل من قصيدة النثر أسطورة مغلقة هو العجز الذي يغمرنا كلما هممنا بتتبع تفاصيل ولادتها الغائمة وهو نفس العجز الذي يحيق بنا في بحثنا داخل لغز "الحداثة".
يردُّ الشاعر "أدونيس" بقوة في مقالة له بعنوان "في قصيدة النثر" على تلك "الذهنية القديمة" التي ترى في قصيدة النثر "لقيطا مخيفا ومخلوقا مشوها لا يمكن أن يعيش".. وإذا تجاوزنا النظرة التبسيطية الى ثنائية القديم/ الجديد، فإننا سنقف على مفارقة رهيبة وهي إن قصيدة النثر هي فعلا جسد لقيط مخيف ومخلوق مشوه، وهي مثلها مثل كل منجزات الحداثة، نتاج تدمير قواعد النظرة القديمة الى العالم والانسان. فمن الكائن الكامل الذي تحكمه رؤية مركزية للعالم، انتقلنا الى الكائن المجزء المرتحل في عراء مصيره وقد هجرته الحقائق المطمئنة.
فمن التسمية ذاتها ينطلق الإشكال. إذ كيف لنا بفهم هذا الجسد اللقيط المشوه بدون تتبع جديد لشجرة نسبه ونحن نعلم ان هذه العملية صعبة ومحفوفة بالمخاطر ذلك ان البحث في شجرة نسب اللقيط اكتشاف للهاوية الاولى المعماة وتتبع للمجهول ولجميع الشروخ التي صاحبت الولادة؟ فأن نبحث عن النسب هو أن نفتح أعيننا على حقيقة الهاوية وعلى اللحظة التي فقد فيها المرجع الذي كان يشكل أساس تصوراتنا ويحكم ابداعاتنا. والحفر في النَّسب يتجاوز حدود الشعر ليذهب الى كينونتنا ووجودنا. فهو بحث في اللحظات التي عصفت بالقديم وأخرجت الحديث الحامل لتشوهات الولادة التي ستلازم المولود وتطبع مصيره. وسيعيش اللقيط على حلم الانتساب والبحث الأليم عن قوانين وجوده وشرعيته.
وما قصيدة النثر في حقيقتها إلا وجه من وجوه لقطاء آلام الحداثة وصرختهم المدوية لدى احتكاكهم بأسرارها. هؤلاء الذين لا يملكون سوى جرأة تجربتهم وتحررهم من المرجعيات في العراء المطلق. إن قصيدة النثر تعبير عن علاقتنا بالحداثة وطريقة تقبلنا لأسئلة الحداثة. فما عاشه "الآخر" كتجربة أصيلة واكتشاف للغة الحياة الجديدة، عشناه نحن في أغلب الأحيان تراكما لتجارب "القول" في نطاق "الأدب". أما صرخاتنا الصادقة المعبرة عن ألم فَقْدِ الماضي، ورعب الحاضر، فهي سرعان ما تتخثر في قوالب القصيدة وفي الواقع المسخ الذي تتعطل فيه كل اللغات.

أبعد من الحضيض
[مقاطع]
[.........]
ر
م
ا
د
نورك
نعيمك
لحيتك
التي دغدغت
كوابيس الطفولة
صورتك الممنوعة
في
الخيال
صورتك
المترقرق
سمها
في
الخيال
أيها
الهذيان
العقل
الموت
الكامن
في
العواطف
والجمال
أيها الكلام
[.........]
الحقيقة
لا
تعمر
طويلا
يكفي أن تطل الخديعة
بأقنعتها
ينكمش الأبطال في ترددهم
ويهملون أساطيرهم
في المتاحف
وحدع الكذب
يعانق الأبد
يوزع على العالم
أدواره
الكذب الغازي
الزاحف في عراء الأرواح
الكذب المنتصر
يشيد جناته.
[.............]
الداخلون الى القرن الجديد
على عربات اليقين
ينكس الحزن راياتهم
آمالهم تجتر الضباب
والفراغ
ينهش رئاتهم
الذين يسحبون التاريخ
بلغاتهم العرجاء
ويطلعون من الخراب
بلا حياة
تتبعثر حكاياتهم في طلسمات
الجذور

[............]
أبي
حين أناديك
يا أبي
يطلع الي وجهك
ثقيلا
مرعبا
خذ روحك
انصرف
بعيدا
مع ديدانك التي تنخر
صفحتي
وذبابك الذي يلعق
شهد أيامي
أبي
حين أصرخ
يا
أبي
تخرج من غاباتك
ضباع وغيلان
وكائنات أخرى مشوهة
لا أعرفها
أفتح لها مسامي
الصدئة
وبقايا عظامي
تقبل جراحها جراحي
وتدخل..

[........]
أخرج من جحيمك
أجرّ جثتك
جثتك تلبسني
تتفتح أشواكها في جروحي
أيها الأب
حين أناديك
أرحني من حملك
يضيع النداء في الغبار الكلام.

[........]
ألفظ رحمتك
أغتسل بدموعي لأطفئ أسرارك
ألفظ زينتك
مساحيقك
أيها الخصاء الجليل
أتأمل عرائي. أفتح بديّ. ألملم الأصابع
المهشمة. أمططها. أتلذذ بقرقعة الغضاريف
المستفيقة. أرفع أصابعي نحو السماء. أمتلك
السماء. أتلمس وجهي. أعيد تشكيل صورته
غشاوات العمى أزيحها عن العينين. أكسر زجاجة
أنوارك وأمدّ للفراغ مداه. أصابعي النهمة،
أصابعي الحرة أطلقها تلاعب شعرات الصدر.
أغرز الأظافر في حلقة السرّة. أخرج حبل
المشيمة من كهوف ذكرياته وأضيعه في
الهواء.
أُبعد ما بين الفخذين. أقبض على الذّكر
ولؤلؤتيه المنطفأتين. تستفيق لغاته
وتنتصب في اتجاه الشهوات.
هذه رغبتي تعوي في وجهك
تلطخ عرشك
وتترقرق في جداول رقتك الآسنة.

[.........]
أرى البلاد
قفرا تموت فيها الشموس
مصاصو الدماء يرقصون
على أشلاء الأحلام والفكر المهجور
الحقد يرتل آياته
في المحاريب
والحروب القادمة، بأمجادها العفنة
تقرع النواقيس
لا شئ
يشبه
هذا
الانحدار
لا شئ
أبعد
من
هذا
الحضيض.