تنطوي تصريحات الشيخ القرضاوي وفي جانبها الأخطر، والأسوأ، ربما، والأشد قتامة وظلامية، عن أبعاد أكثر مأساوية ألا وهي أن التشكيلات الدينية والعشائرية والقبلية والمشاعية الغريزية الماقبل وطنية وسياسية هي المفصل والمعيار، وهي التي تحكم طبيعة العلاقات المجتمعية والسياسية. وأن الكلام عن حالة وطنية مثلى متقدمة في المسار والسلم الإنساني الرفيع، ما تزال على مسافة جد بعيدة، ومن المبكر تناولها والحديث عنها بذاك الشكل النوستالجي الذي يسرده بها بعض من رومانسيي العمل السياسي. فتلك النزعات اللا وطنية هي في الحقيقة، ما تقف خلف ستار تلك اللوحة التي يسمونها بالوطنية فما زال شيوخ الإسلام ينظرون لمصر كدولة سنية خالصة، لا كوطن عصري حاضن لكافة مكوناته، يطوي وراءه آلام الماضي ومخاضاته الدينية ومخازيه، ونازعين عنه، في ذات الآن، أي بعد حضاري وتعددي تميز به عبر التاريخ، ولا يمكن لتاريخ ابن العاص أن يلغيه أو يجاريه في شيء، ونعني به التاريخ الفرعوني المبدع الخلاق العظيم.

فالخوف، والرعب المضمور في عمق الوعي واللاوعي المجتمعي والعقل الباطن للشيوخ، ولغيرهم هو ليس من فقر ولا جهل ولا تخلف ولا احتلالات ولا رثاثات مجتمعية طافية بكثافة مستنقعية على وجه هذه الجغرافيات المفككة بنيوياً والمتحللة إيديولوجياً، ولكن الخوف الحقيقي الذي يستفز الجميع، نخباً وعامة، هو وجود ذاك التنوع والتعدد العرقي والإثني والطائفي، والذي هو من مميزات أي مجتمع عصري حديث، ما بعد وطني وعولمي. وأن الانخراط في كينونات مجتمعية تحكمها أسس المواطنة والعلمنة واحترام خصوصيات وحق الغير في الموجود، ما يزال ثقافة غريبة مستهجنة تخيف كثيرين، كما يخوف بها كثيرون الآخرين، ويعتبرونها، بحجم انهيار وكارثة أو أخطر حتى من احتلال أجنبي.

ولقد أصاب الشيخ إصابة بالغة حين قال أن هناك مجتمعات سنية خالصة، ولكن سماحته لم يكن يدري أنه يغمز من قناة التسنين التي حاربت التشيع تاريخياً حتى وصلت لتلك المرحلة من النقاء وquot;الخلوصquot; والتي هي مرحلة مشاعية غير حداثية الطابع. فلقد قامت التجمعات القديمة على أسس عائلية وعشائرية وقبلية خالصة كخلوص مصر الحالي. وفي ذلك إدانة quot;خالصةquot;، وغير مباشرة، إلى عصب وجوهر تلك المجتمعات التي يمكن وصفها بمجتمعات الشمولية الدينية التي لا ترغب، وترفض أن ترى في جنباتها شيعياً واحداً، لا بل تستنكر ذلك حسب ما تستبطن تصريحات الشيخ الجليل. كما تشي تلك التصريحات، وبكل أسف، أن تلك الحركة الدؤوب، لمنع رؤية شيعي واحد، في المجتمعات ذات الغلبة السنية الخالصة لم تفلح مطلقاً، وأن تلك العملية كانت عبثية، وأن أصل الأشياء هو التعدد والتنوع لا النقاء الديني والعرقي كما يحلم ويريد الشيخ الجليل.

وفي الأمر ما فيه، أيضاً، من نفحات فاشية ونازية، نربأ بشيخنا الجليل أن يكون قد فكر فيها، أو نوى عليها مطلقاً. ويحضرني هنا، وعلى الفور هلوسات فوهرر الرايخ الثالث وهو يخطب بحماس خالص عن آرية الألمان وصفاء عرقهم وتفوقهم النوعي. أو عن هذيانات اليمين الأوروبي والأمريكي المتطرف النازي الجديد، اليوم، الذي يرفض، وبناء على نزعات عنصرية بحتة، رؤية عرب وهنود ومسلمين في مجتمعات أوروبية وأمريكية يريدها quot;خالصةquot;، ومغلقة على أعراق، وديانات وطوائف بعينها. فهل هذا بعض مما رامه وما قصده شيخنا الجليل، أم لا مجال للمقارنة بين الموقفين؟ فمن الذي يجرؤ في عالم اليوم بالكلام عن النقاء والصفاء الديني والعرقي إلا الشيوخ ووعاظ السلاطين الذين يتحدون قوانين الكون ويسفهونها لأنهم مشمولون برعاية النظام الرسمي العربي ومؤسساته السلفية التي لا تخضع لأي شرع عصري، ولا تعترف بميثاق إنساني، وشرعها البدوي اللا آدمي فوق الجميع. ألا يفتون يومياً، وعلناً، بقتل أناس أحرار في كل مكان من العالم، كما فعل الشيخ القرضاوي حين حكم، ضمناً، بردة وتكفير، وبالتالي قتل، أكثر من مئتي مليون شيعي في طول العالم الإسلامي بطوله وعرضه، هكذا وبجرة قلم، حين قال إن الشيعة مبتدعون، والكل يعلم القاعدة القائلة كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؟

فهل يمكن لأحد في عالم اليوم أن يدعو لمجتمعات مسيحية خالصة، أو بوذية، أو هندوسية، أو سيخية خالصة؟ فحتى الصين البوذية، والشيوعية سابقاً على طريقة المغفور له الشيخ ماو رحمه الله، فيها أقليات مسلمة، لا يقبل الشيخ أبداً أن يرفض أحد وجودها هناك بناء على انتمائها الديني الذي لا يتلاءم مع البوذية quot;الخالصةquot; في الصين خلوص المذهب السني في المحروسة وأم الدنيا. وحين يرفض الشيخ وجود الشيعي في مصر السنية الخالصة، عليه أن يرفض ويستنكر، بنفس القوة، والحماس، وجود المسلم حتى السني، وليس الشيعي، في مجتمع صيني بوذي خالص، يحترم ذلك المسلم ولا يكفره، ولا يدعو لاستئصاله كما يفعل شيخنا الجليل، مع المسلم الشيعي.

وفي الحقيقة فهذه المجتمعات لا تحتاج لأي نوع من نكأ الجراح في هذا الجانب المؤلم الحزين، وما فيها يكفيها من علو كعب الخطاب التحريضي العنصري، وهي بحاجة لتجاوز، والتطلع إلى أبعد من هذا الجانب الما قبل وطني والما قبل سياسي. فالتصنيفات الدينية والعرقية والطائفية هي ما يضفى على الخطاب اليومي بشكل عام. والتقسيمات الإدارية والمناطقية والتجمعات السكنية تنطلق، وتنبني، في الغالب، من هذا الجانب المفزع الشاذ المقيت. فهناك دولة وهابية الطابع مثلاً، وهذه دولة مالكية المذهب، وتلك مدينة درزية، وهذا قضاء ماروني، وهذا ناصبي، وذاك رافضي، وهنا عرب، وهناك بربر وأمازيغ، أو ودرافوريون، وجنوبيون، كما في المثال السوداني.

كما وتنطوي تلك التصريحات وفي جانبها الأسوأ والمأساوي، عن انحسار الدور الريادي، والقيادي، التوجيهي، وغياب الوظيفة الحيوية المنوطة بالنخب التنويرية، وانعدام تأثيرها المجتمعي النهضوي، ولجم صوتها، يقابله استمرار وتسيد وسطوة لرجال الدين المعممين والملتحيين وحشر أنوفهم في قضايا سياسية بحتة، ولا علاقة لها بأي دين من الأديان، إذ أن جوهر أي دين، عبر التاريخ، هو تنظيم علاقة الإنسان الروحية، وليس السياسية، بهذا الكون الغامض الفسيح. وما تربع هذا الشيخ السلفي وأمثاله على عروش الفضائيات البدوية إلا تجل مرعب لظاهرة الاحتلال والطغيان الديني والتوغل المجتمعي الرهيب، واستعراض لذراعهم وقوتهم الضاربة مجتمعياً وعبثهم بالوعي المجتمعي، ولعبهم على الوتر الطائفي، الذي يؤدي، بعد عملية من التراكم الكمي والزمني، إلى تفجير مجتمعي لا ندري إن كان الشيخ يعلم أو لا يعلم بأنه سيفت في عضد أي بناء وطني، ولن يستثني منه لا سني ولا شيعي. وإن تناولها بذاك الشكل الاستعلائي اللاحيادي الرفضوي المستقوي بالأنظمة الديناصورية الحاكمة ما هو إلا إذكاء لنيران الفتن الكامنة في باطن لا وعي هذه المجتمعات التي لم تفارقها الانقسامات الدينية والعشائرية والقبلية أفقياً، وعامودياً منذ عهود ما قبل التاريخ.

نضال نعيسة
[email protected]