(الحلقة الأولى)


في أجواء التوجه للانتخابات المحلية العامة المقبلة،أو التلكؤ في التحضير لها، تنثال في الذهن خواطر عتيقة تحمل رائحة الأعشاب الجافة المنسية بين الكتب: هل العراق بحاجة إلى زعيم قوي كفيصل الأول القادم من الحجاز؟ أو كنوري السعيد،الضابط السابق في الجيش التركي، أو جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وفاضل الجمالي وقادة الأحزاب الثورية والتقليدية القديمة؟


هل العصر يستوعب زعيماً كسعد زغلول في مصر الذي كان المصريون يغنون لهrdquo; : أولو لعين الشمس ما تحماش، سعد زعيم الشعب طالع ماشيquot; والتي حولتها شادية إلى أغنية غرامية! أو كغاندي الذي واجه جيوش شركة الهند الشرقية بمعزى وثوب من الصوف؟ أو كإبراهام لِنكِولن، النواة الروحية الصلبة التي نما حولها جسد أمريكا الضخم المهيمن اليوم على العالم! أو كديغول الذي دخل باريس على الدبابة الأمريكية منتصرا على هتلر فعده الفرنسيون أبا الوطنية الفرنسية وشيع مع الخالدين؟ أو كنليسون مانديلا الذي قضى في السجن قرابة الثلاثين عاماً ثم حين انتصر لم يذبح جلاديه بل أطلقهم في حملة المصارحة والتسامح؟ أو كبورقيبة الذي بنى رجال تونس في الكفاح وفي السلم بنى المرأة والعائلة والحداثة!أو مثل كمال أتاتورك الذي ما يزال وهو في قبره يحرس تركيا من هجمة تحول الدين إلى حجاب يغطي وجهها الجميل، أو عمامة تكبل عقلها المتطلع لمزيد من العلم والحضارة! هؤلاء لم يكونوا قادة فقط بل كانوا معلمين، ومثلاً تحتذى وقدوة حسنة، تقتفي شعوبها خطاها مطمئنة واثقة!


وبالطبع إننا اليوم نتذكر الصفات الطيبة لهؤلاء القادة وننسى مع أمواج التاريخ الغاربة ما رافق مساراتهم أو سنوات حكمهم من انتهاكات وتجاوزات.


لقد كان تألق القائد الفرد الكبير المقتدر في الغالب مرتبطاً بالأنظمة الدكتاتورية الشمولية الاستبدادية، ذات النهج البيروقراطي والتي تجلت أفظع صورها على يد قادة عتاة أمثال هتلر وستالين وموسليني وصدام، بينما ينتعش في ظل النظم الديمقراطية وتداول السلطة سلمياً وودياً القادة المتعددون الذين يمكن تسميتهم بالصغار في أحجامهم والكبار في أفعالهم وعقولهم، والذين يؤدون أدوارهم وينجزون مهامهم دون استئثار أو تشبث بالسلطة، ويختفون مودعين بذكريات الناس الطيبة عنهم وتقديرهم لهم!


وبعض هؤلاء القادة حرصوا على كتابة مذكراتهم واستعرضوا أخطاءهم أو خطاياهم واعتذروا عنها وقدموا بذلك صورة القائد الشجاع في فكره وعمله، وربوا بذلك أجيالاً من قادة المستقبل الإيجابيين والبنائين!


ولكن من المعروف أن القائد الذي يصنع التاريخ، هو في حقيقته من صنع التاريخ أيضاً،وإنه كان حاجة موضوعية للناس والأرض، وليس حاجة ذاتية لنفسه وحسب، وكل من يأتي خارج هذا السياق يسقط كمن يتعلق بالقطار المسرع. فالقائد هو بمشروعه البناء ضرورة لبيئته ومجتمعه أولاً وليس لنفسه أو لحزبه، وهو ابنها الوفي لحسناتها وسيئاتها ويظل يحمل حاجتها وبصماتها الوراثية والمكتسبة، وليس ابن الشعارات والمفاهيم السياسية وصيحات الجماهير المدوية!


لقد تغيرت مفاهيم الزعامة حيث لم تعد القوة الجبارة التي تجمع الناس حولها مسلوبة الإرادة كبرادة الحديد حول المغناطيس، بل تغدو مجرد شعاع بين الشروق والغروب تجتمع حوله روح الأمة بوعي وحب لتتلمس بكلماته ولمساته جراحاتها وآمالها وترى الأفق ولا تساق في المجهول قسراً أو غوايةً! خاصة في فترات الانكسارات الكبرى والمنعطفات الحادة، فوظيفة القائد لم تلغ بعد، فهو على كبر حجمه ليس سوى السكرتير الشخصي الذي ينظم وينفذ القضايا لكل للناس، ولكل شخص مشغول في زحمة العمل والحياة التي تزداد تعقيداً،بالمعني الشعبي هو خادم الناس،لذلك يكرمونه وينادونه سيدهم!


من الممكن القول أن العصر لم يعد عصر القائد الأوحد والزعيم الكبير الذي يستلب عقول وقلوب الناس، بل أن العصر صار ينبذ ويحتقر أولئك الرؤساء والقادة المزمنين المدمنين على السلطة إدمان المرضى على المخدرات، والذين حين يموتون يورثونها لأبنائهم، العصر صار أقرب للقادة الوطنيين المتعددين الذي يجيدون العمل السياسي سواء أكانوا في السلطة أو في المعارضة، ويتبادلون أدوار الحكم بطريقة حضارية وإنسانية تجنب البلاد والناس ويلات الصراعات الدموية، وأجواء العنف! قادة مخلصون تشغلهم قضايا الناس والوطن، ويريدون للناس والأرض أن يكونا في هذا العصر لا في عصر معجزات الأنبياء أو المنقرضات!


إن العراق اليوم بحاجة ماسة لقادة وطنيين أقوياء مفعمين بالنظرة الوطنية للوقوف كند قوي أمام المفاوض الأمريكي في إبرام المعاهدة أو الاتفاقية الإستراتيجية مع أمريكا كحلقة لا بد منها على طريق تصفية الاحتلال.


لذا فإن القادة يظلون حاجة وطنية أولاً، ثم شخصية متميزة لها مضمونها من الأهداف والبرامج وأسلوب العمل والعطاء!
لقد وصل عبد الكريم قاسم إلى قمة السلطة وسمي بالزعيم الأوحد وغنى له الشعراء كحسناء يفتقدونها،وحين قتل رآه أحبابه في القمر، وحتى اليوم يفاخر أنصاره بأنه مات وفي جيبه دينار ونصف فقط لا غير، ولكن ليته تمتع بكل أموال الخزينة العراقية ولم يحطم الدولة العراقية المدنية، ويدوس على دستورها بحذاء العسكر، ويفتح أبواب الانقلابات العسكرية وحمم الجحيم على العراقيين!
وحكم صدام العراق خمس وثلاثين سنة طافحة بالدماء والدموع وحرك الجيوش والجموع، وشغل العالم لكنه لم يستطع أن يكون قائداً، كان حاكماً وسلطوياً فقط، وشرطيا يتقن السلطة والقمع ويجهل سر القيادة، رجل سلطة لا رجل حكم، ليس لديه القدرة على حب الناس أو الحياة والبناء من أجلها، بل العمل على تدميرها حتى ولو ظهر بانياً لجسر أو طريق، وظل حتى سقوطه لا يفرق بين أن يتبع الناس حاكمهم بالقوة وشراء الذمم، أو بالثقة والقناعة!


ومنذ سقوط نظامه توالي على مراكز الحكم في العراق أشخاص كثيرون،ومن حق العراقيين أن يتساءلوا من كان منهم قائداً حقيقياً؟ أو حتى من لديه خصال وصفات قيادية حميدة تبتعد به عن أجواء القمع والحروب وتعده بنظام الاستقرار والرخاء واحترام حقوق الإنسان! ومن كان سيئ الصفات لا يذكر بما مضى فقط بل يعد بما هو أسوء منه!


أغلب هؤلاء القادة احتلوا قصور وقلاع الحكام السابقين، وسكنوها كأشباح شكسبيرية، فقلدوا الحكام السابقين سراً في العيش والبذخ في حجرات وأسرة هذه القصور الأسطورية،وقلدوهم علناً في سلوكهم ومظاهر حياتهم،بل تفوقوا عليهم في الفساد والفظاظة والقسوة والكذب على الناس وعلى العالم، وبينما هم يرقبون بعض الحكام السابقين وهم في قفص الاتهام أو على المشنقة، لكنهم لا يأخذون العبرة إنما يتباهون بعدم اكتراثهم ! فالحكام القدامى قد أطاحت بهم أمريكا، بينما هم الآن في حضن أمريكا،وإيران معاً، والشعب العراقي جريح ينزف وسيظل ينزف طالماً خزائن الدولة تصب في جيوبهم أو تبدد بغبائهم ولا مبالاتهم!


فلاسفة التاريخ يقولون أن الطغاة كصدام وأمثاله لا يمضون إلا بعد أن يصنعوا أشباههم وبدائلهم! أي انهم يقضون من جهة على كل موهبة طيبة كبيرة ناهضة، ومن جهة ثانية يجعلون مدرستهم تخرج رجالاً ونساءً يقلدونهم في كل شيء حتى في تدخين السيجار،ولبس العباءات، وانتحال أشجارٍ نسب تصل بهم أئمتهم وأسماء الله الحسنى!


أهو قدر على العراقيين أن يستنسخوا الطغاة واللصوص ويسمونهم قادة ورؤساء أفذاذ في كل مرة؟
ومع ذلك هل شغل هؤلاء القادة والرؤساء مواقعهم حقاً؟ أم ما تزال المواقع شاغرة فارغة خالية حتى اليوم رغم كثرة من تعاقب على كراسيها وضمخ مخملها برائحته ورذاذ صوته؟


هل هؤلاء القادة كانوا أطياف خير طيبة ما تزال تومئ للجنة الموعودة في فترة عصيبة جعلت محتمة؟ أم مجرد أشباح يمرون بمخيلة العراقيين ضمن كابوس يمكن تفاديه بعدم الجلوس أمام التلفزيون أو أكل الدسم في الليل؟

إبراهيم أحمد