تعد الفترة التي نزل فيها القرآن الكريم منجماً حسب الأحداث والوقائع التي تدعو النبي (ص) والصحابة إلى معرفة نتائجها أو حل العقد الناتجة عنها، تعد من المراحل العصيبة التي لا يمكنهم تفسير الآيات النازلة فيها ومعرفة أسرارها إلا بالقدر اليسير الذي يفرضه الواقع آنذاك، ولذلك فإن النبي (ص) لا يمكنه البت بما تؤول إليه أسرار الكثير من الآيات القرآنية، وربما كان هذا التوجه بأمر من الله تعالى كما قال: (لا تحرك به لسانك لتعجل به *** إن علينا جمعه وقرآنه *** فإذا قرأناه فاتبع قرآنه *** ثم إن علينا بيانه) القيامة 16-19.

وهذا يعني أن الوقت الذي نزل فيه القرآن الكريم لم يكن وقت بيان لكامل أسرار القرآن إلا أن هذا لا يمنع الصحابة من فهم المراد بواسطة الأدوات المتوفرة لديهم وإن كانت على بساطتها، أما ما نقل عن عبدالله بن مسعود من إنهم يقومون بدراسة وتفسير بعض الآيات النازلة ثم ينتقلون إلى غيرها فهذا ليس من الصحة في شيء، وقد بين رسول الله (ص) بعض الأحكام التي تهم الحياة العامة آنذاك دون الخوض بالتفاصيل التي لا يدركها الصحابة، وقد وردت روايات صحيحة تثبت هذه الحقيقة التي ربما تثقل على البعض، فمما روي عن عمر بن الخطاب إنه كان على المنبر فقرأ: (أو يأخذهم على تخوف) النحل 47. ثم سأل عن معنى التخوف فقال له رجل من هذيل التخوف عندنا بمعنى التنقص ثم أنشده:

تخوف الرحل منها تامكاً قرداً ***** كما تخوف عود النبعة السفن

ومما أخرجه أبو عبيدة عن طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما [فاطر السموات] حتى أتاني إعرابيان يتخاصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها والآخر يقول أنا إبتدأتها.

وقد قال الذهبي في التفسير والمفسرون: [يفهم أصحاب النبي القرآن في جملته أي بالنسبة لظاهره وأحكامه أما فهمه تفصيلاً ومعرفة دقائق باطنه بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي (ص) فيما يشكل عليهم فهمه وذلك لأن القرآن فيه المجمل والمشكل والمتشابه وغير ذلك مما لابد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها، ويضيف الذهبي: ولا أظن أن الحق مع ابن خلدون حيث يقول في مقدمته إن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه نعم لا أظن الحق معه في ذلك لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضي أن العرب كلهم كانوا يفهمونه في مفرداته وتراكيبه وأقرب دليل على هذا ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلفة على اختلاف لغاتها وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها، بل لابد لمن يفتش عن المعاني ويبحث عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصة تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه]. إنتهى.

ومن هنا نفهم إن الطرق التي اتبعها الصحابة في التفسير بعد النبي (ص) تتمثل في فهمهم البسيط على معرفة ما ورد من أحاديث عن النبي (ص) وتطبيق البعض منها على أسباب نزول الآيات وما أخذوه من أهل الكتاب وما يفتح عليهم من طريق الإجتهاد والنظر في كتاب الله. علماً أن ما نقل عن النبي (ص) لم يتناول جميع آيات القرآن الكريم وإنما تناول البعض منها الذي يشكل عليهم الوصول إلى فهمه بأساليبهم البدائية لذلك فإن هذا الإشكال أخذ بالإزدياد كلما بعد الناس عن عصر التنزيل أي أن الذي أشكل على التابعين كان يفوق ما أشكل على الصحابة لذلك إحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى إتخاذ طرق أحدث لفهم المراد من المقاصد القرآنية لذلك فإنهم أحدثوا زيادة المقدار المتوفر لديهم من الروايات والإسرائيليات حتى إختلط الغث بالسمين، ثم جاء عصر التدوين في أواخر عهد بني أمية وأول عهد العباسيين، وأنت خبير بأن هذه الفترة قد أجبرت الكثير من المفسرين على أن يحصلوا على رضا الحكام وبالتالي أخذ التفسير يفرض على الضعاف منهم فرضاً، وحسب المتطلبات الآنية.

ثم توالت الفترات التي هي أكثر إهتماماً في تفسير القرآن الكريم وأخذ المفسرون يشرعون في تفسير كتاب الله تعالى كل حسب توجهه وإطلاعه وقد عد الزمخشري [رحمه الله] مايقارب خمسة عشر علماً لمن أراد الخوض في كتاب الله تعالى ولما كان من الصعب الإلمام بجميع هذه العلوم التي هي عسيرة على الزمخشري نفسه، كان لا بد أن يتجه كل مفسر إلى تفسير القرآن الكريم حسب ما يمتلكه من أدوات لذلك فقد نجد أن كتب التفسير أخذت هذا الإتجاه أي أن كل مفسر يضع ما لديه من إختصاص في تفسيره حتى يكاد المتلقي يذهب بظنه أن القرآن نزل لغرض واحد ليس إلا.

فحين إطلاعنا على تفسير الثعلبي نرى ميوله القصصية قد طغت على جميع التفاصيل التي إعتمدها لبيان الآيات، وكذلك الحال في علم البلاغة التي كان الزمخشري يميل إليها حتى أصبح الكشاف من المراجع المهمة لأهل البلاغة حتى يومنا هذا، أما في حالة إطلاعنا على التفسير الكبير أو (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي فقد نجد أن علم الكلام وتفاصيل النظريات الفلسفية وأقوال المحققين قد أخذ منه الإهتمام الأكبر وكأن التفسير قد نال آخر الدرجات في تفرعاته وردوده على المخالفين إلى عقيدته ومناقشة آراءهم، حتى ذكر أبو حيان في البحر المحيط نقلاً عن أحد العلماء قوله إن تفسير الفخر الرازي فيه كل شيء إلا التفسير.

ومنهم من أخذ الجانب الفقهي كالقرطبي في تفسيره [الجامع لأحكام القرآن] ومنهم من جمع بين هذا وذاك وخرج بتفسير فيه نوع من الشمولية كما هو الحال في مجمع البيان للطبرسي (رحمه الله) الذي جمع بين اللغة والرواية وكذلك الحال مع تفسير جامع البيان للطبري، وفتح القدير للشوكاني، وتفسير القرآن العظيم لإبن كثير (رحمه الله).

وقد إختصرت بحثي في هذا المقال على مطولات التفسير دون ذكر كتب أخرى ربما لا تقل أهمية عن المطولات كالميزان للطباطبائي والبحر المحيط لأبي حيان وغيرها من كتب التفسير التي لها أهمية كبيرة في مختلف العصور.
إلا أن المطولات تبقى هي الأصل والمرجع لجميع المفسرين وعلى إختلاف إتجاهاتهم حتى يومنا هذا فلا يستطيع المفسر أن يخوض في هذا العلم إلا أن يكون للمطولات النصيب الأكبر فيما يذهب إليه، وقد تتفاوت أهميتها وأفضليتها حسب الميول والطباع التي يتصف بها المتلقي، فمنهم من يرى أن الكشاف هو الأفضل ومنهم من يجد نفسه في التفسير الكبير وهكذا.

وهناك نوع من المتعصبين الذين يجعلون أبناء الفرق التي ينتمون إليها فوق كل إعتبار وهؤلاء نترفع عن الحديث عنهم. ومع كل هذه الإتجاهات إلا أن الأفضل في تفسير القرآن الكريم والأمثل والأرقى والأجود والذي يبقى بلا منازع هو القرآن الكريم نفسه، كما قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناَ لكل شيء وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل 89.

ولما كان فيه تبيان كل شيء فهل من المعقول أن لا يبين ما فيه من أسرار تصعب على المفسرين أنفسهم ولأجل التقريب فإن العارفة بأنساب القبائل أليس الأولى به أن يعرف قبيلته أكثر من غيرها وإن كان في المثل قياس مع الفارق، إذاً أفضل الطرق لإستخراج غوامض القرآن الكريم الرجوع إليه ودراسة أسراره والتفريق بين محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، لأن ما أجمل منه في موضع فصل في موضع آخر وما قيد في موضع أطلق في موضع آخر وهكذا.

وقد قال فيه رسول الله (ص): كتاب الله فيه نبأ ماقبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن إبتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء.

وقال فيه الإمام علي (عليه السلام): كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه على بعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله ولا يخالف بصاحبه عن الله.

وأخيراً أحب أن أذكر الإخوة الذين همهم من القرآن إثبات صدق مذهبهم، أحب أن أذكرهم أن الإشتغال في عمل مشابه لما تطلبون قد يفقدكم الكثير من النكات القرآنية والذوق السليم الذي يهبه القرآن الكريم لمن يتبع أثره فاحرصوا على تلك الفائدة والمتعة التي لا توجد في علم آخر غير علوم القرآن الكريم، وقد قال أحد العلماء بخصوص هذا الجانب، قال نحن في لذة لو علم بها الملوك لقاتلونا عليها.

وللأسف فإن كثيراً من الأخوة لا يدافع عن القرآن بقدر ما يدافع عن الإختلافات التي سوف لم ولن تنتهي إلى يوم القيامة، فمن أراد الهدى فلا يحصل عليه إلا عن طريق كتاب الله. كما قال تعالى: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان) البقرة 185. وهذه الآية الكريمة تبين أن في القرآن الكريم هدىً لكل الناس ويتفرع على ذلك الهدى بينات من الهدى والفرقان، وهذا ليس تكراراً للهدى وإنما الأول فيه عموم وشمولية لكل الناس، أما الهدى الثاني فهو الذي يمد العلماء بالبينات لإستخراج أسراره والطرق المثلى التي يحصلون من خلالها على التفسير الأفضل لكتاب الله لذلك قال تعالى: [وبينات من الهدى والفرقان] ومن هنا ليس للتبعيض وإنما لإبتداء الغاية، أي أنهم على مساس وملاصقة تامة للهدى. وهذا نظير قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون) يس 9.

وكان بالإمكان الإستغناء عن [من] ويكون التقدير: [وجعلنا بين أيديهم سداً وخلفهم سداً] وبهذه الحالة يستقيم الكلام إلا أن دخول [من] أفادت ملاصقة السد وقربه المتناهي لهم فتأمل.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]