يرى الباحث ميثم الجنابي أن quot;اعتراف الكنسية بنظرية دارون هو جزء من التطور الحضاري والثقافي الأوربي بشكل عام والكنيسة بشكل خاص. كما يمكننا النظر إليه باعتباره احد مظاهر quot;المساومةquot; أو quot;حسن الأدبquot; بالنسبة لإغلاق احد الفصول الدامية بين الكنيسة والعلم.


فالاعتراف بنظرية دارون من جانب الكنيسة يحتوي على إغلاق بعض صفحات الصراع الدامي بين الكنيسة من جهة والدولة والمجتمع والعلم من جهة أخرى. وبالتالي، فانه يتضمن على درجة أو مؤشر جديد على كيفية ومستوى حل إشكالية الديني والدنيوي في quot;العالم المسيحيquot;. وبالتالي يمكننا العثور فيه ايضا على quot;تنازلquot; جديد في ميدان العقائد، وquot;استسلامquot; أمام هيبة العلم.


لكنها تبقى مع ذلك إجابة متأخرة جدا. الأمر الذي يجعل منها إشارة لا تدل على نضوج الكنيسة بقدر ما انها جزء من quot;إحياءquot; الكنيسة وإعادة الاهتمام بها بوصفها قوة ومؤسسة لها quot;صوتها الناطقquot; بالنسبة لإشكاليات العالم المعاصر. وذلك لان ما تحتويه الدارونية ونتائجها العلمية والعملية لا علاقة له بالكنيسة والدين عموما. لكنها تمس العقائد الدينية فيما يتعلق بقضايا الخلق والوجود الإنساني. ومن ثم يمكن النظر إلى اعتراف الكنيسة بالفكرة الدارونية على انه اعتراف بنتائجها العلمية. وهو اعتراف ليس سهلا بالنسبة للعقائدية الدينية، وذلك لما فيه من جرأة على مواجهة العقائد quot;المقدسةquot;. مع أن حقيقة quot;المقدسquot; اكبر وأوسع وأدق وأعمق من العقائد المتراكمة في أزمان الجهل والعبودية.


إن ما هو جوهري في النظرية الدارونية يتعلق بفكرة الارتقاء والتطور الطبيعي. ولا شيء آخر. والإقرار بها يؤدي إلى الإقرار بفكرة الطبيعة والسير معها. وبغض النظر عما في الدارونية من احتمالات خطرة، وبالأخص حالما يجري تطويعها بمعايير الأيديولوجية السياسية والاجتماعية والقومية، إلا أن ذلك يبقى جزء من معترك الأيديولوجيات. ومن ثم لا علاقة له بالدارونية بوصفها نظرية لها فرضياتها العلمية ونتائجها المحققة.


ومن الناحية الموضوعية، فان هذا الاعتراف المتأخر يحتوي في أعماقه على دليل إضافي عن قوة العلم والمعرفة. وفي نهاية المطاف يمكننا القول، بان العلم والمعرفة العلمية يبقيان المنقذ الفعلي للجميع بما في ذلك بالنسبة للكنيسة والدين. انطلاقا من أن حقيقة العلم والإنتاج العلمي لا علاقة له بالكنيسة والدين. كما أن للإيمان عالمه الخاص.
وإذا كان اعتراف الكنيسة بنظرية دارون قد حدث الآن، فإنها تكون قد قدمت تبجيلها الخاص لذكرى ولادة الرجل بعد قرنين من الزمن، أو على الأقل انها استبقت الذكرى المئوية الثانية لولاة دارون (1809- 1882).
وبغض النظر عن كل التأويلات المحتملة بهذا الصدد، فان كل ما قيل ويقال وسيقال بهذا الصدد يعود الفضل فيه لدارون والعلم فقط. وهو الاستنتاج الأكثر أهمية بالنسبة للعالم العربي والإسلامي عموما.

فمن الناحية المجردة ليس في اعتراف الكنيسة بنظرية دارون قيمة علمية أو معنوية بالنسبة للعالم العربي وتقاليد الإسلام الثقافية. وذلك لأسباب عديدة لعل أكثرها أهمية هي أنه ليس في الإسلام كنيسة. من هنا ليس هناك من يمكنه احتكار الفكرة أو رفعها إلى مصاف المقدس، أو جعلها من الأمور المجمع عليها. إذ للإجماع تقاليده الخاصة، وهو مربوط من الناحية المنهجية والغاية العملية بقضايا الفقه. والفقه هو اجتهاد ظني. أي لا إلزام مطلق فيه. إضافة لذلك أن تقاليد الإسلام العقلية المتطورة، والفلسفية منها بشكل خاص، أي تلك التي حددت معالم إنتاجه الثقافي الهائل، لم تتعارض مع العلم. على العكس، أن تاريخها الخاص وإبداعها الذاتي كان يصب في اتجاه تأسيس الفكرة العلمية، بما في ذلك في ميدان النظر إلى التطور الطبيعي ونشوء الإنسان. وهي فكرة يمكن رؤية ملامحها الواضحة في (رسائل إخوان الصفا) وصداها الصوفي الرفيع في (حي بن يقظان) لابن طفيل. وما بينهما عشرات بل المئات من المفكرين والعلماء الذين وضعوا في تأملاتهم النظرية وتطبيقاتهم العملية فكرة التطور والارتقاء وأهمية العلم وقيمة المعرفة المجردة واليقين العلمي وما شابه ذلك. بل أن الغزالي نفسه أول من أسس للفكرة القائلة، بأن انجازات العلوم لا علاقة لها بالقضايا العقائدية quot;الإلهيةquot;، أي لكل منهما عالمه الخاص وquot;قواعدهquot; الخاصة. وفي العصر الحديث، أي في بدايات الجدل حول الموقف من العلم، كتب محمد عبده مقالاته المشهورة بهذا الصدد، وجمعها لاحقا في كتيب (العلم بين الإسلام والنصرانية). والفكرة الأساسية فيه تقوم في أن الإسلام لا يعارض العلم، وان تطور العلم جرى بالارتباط مع انتشار وتوسع وسيطرة الإسلام.

وفيما لو جردنا هذه المواقف من أبعادها الأيديولوجية والعقائدية والدفاعية لحد، فإننا نعثر فيها على حقيقة مفادها، أن التطور الثقافي للأمم مرتبط بالعلم والاجتهاد العلمي. والعلم قد يخطأ، لكنه لا يقترف في أخطائه خطيئة. على العكس انه يمهد لاستكمال المعرفة والتنوير، انطلاقا من أن العلم هو اجتهاد عقلي دائم. وفيما يتعلق بالدارونية، فإنها منذ بدايات القرن العشرين قد تغلغلت في الوعي الاجتماعي والسياسي والعلمي بالشكل الذي أصبحت جزء من التراث الثقافي العربي. بل انها تحولت إلى جزء مكون من أفكار شخصيات لامعة ومؤثرة في الوعي الاجتماعي والسياسي مثل شبلي شميل وسلامه موسى وكثير غيرهم.


حقيقة أن الفكرة الدارونية لم تنغرس في الوعي الاجتماعي العربي بالشكل الذي يجعلها تتطابق مع تبني فكرة التطور والارتقاء الطبيعي. من هنا التباين بين تدريسها العلمي في المدارس والجامعات وإهمالها في ميدان التربية والتعليم والإبداع النظري والعملي. وهو تباين نعثر عليه في معايشة وتزاوج quot;الرؤية العلميةquot; والشعوذة اللاهوتية، بما في ذلك فيما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن وما شابه ذلك، أي في كل هذا الحطام الهائل للتوظيف الكسول لجهود الآخرين العلمية وعذابات الاكتشاف المرهقة.


بعبارة أخرى، إن العبرة الممكنة والضرورية التي يمكن أخذها من اعتراف الكنيسة بنظرية دارون تقوم في رؤية أهمية العلم وquot;تقديسهquot; حتى من جانب البنية التقليدية quot;الناطقة باسم اللهquot;، بما في ذلك في تلك الحالات التي تتعارض، على الأقل ظاهرياquot;، مع ما هو متعارف عندها من مفاهيم وعقائد quot;مقدسةquot;.


إن حقيقة المقدس تتسامى عن الابتذال، بل المقدس هو المتسامي عن الابتذال. وليس هناك من قوة قادرة على رفع الإنسان وعقله وضميره من حضيض الابتذال أكثر من العلم. والدارونية هي إحدى النظريات العلمية الكبرى والفرضيات الإنسانية. ونتائجها الحقيقة إنسانية أيضا، وذلك لأنها تقر بوحدة الحياة وتنوعها، ومن ثم ارتباط الجميع بالجميع باعتبارهم كلا واحدا حيا.

ميثم الجنابي