قد يكون مفيداً أن أروي بعض الحكايات المطوية من أيام المعارضة، لا للتنكيل بشخص ولا للتجني على حزب، ولكن للضرورة القصوى في هذه الأيام التي تقتضي العودة إلى تلك الفترة، وتأمل أحداثها، والنظر إلى ما أحدثته في العراق من مصائب وكوارث، بعد سقوط النظام، وكشف الجهود المستميتة التي يبذلها بعض تجار السياسة من قادة تلك المعارضة، بمناسبة بازار الانتخابات المقبلة، والتي يظن فيها أنه قادر على نزع ثيابه الطائفية التي دخل بها نادي المحاصصة، وارتداء ثياب ديمقراطية أوعلمانية فضفاضة، ووضع قناع جديد يخفي وجهه القديم، وما تراكم عليه من ألوان وندوب، ناسيا أو متناسيا أنه لو استطاع إخفاء بعضها عن عيون بعض العراقيين فلن يستطيع إخفاءها عن عيون التاريخ الذي لا يرحم.

وقبل الدخول في صلب الموضوع أشير إلى خيبة أمل كبيرة أصابت العراقيين الذين جمعتهم زمالة حميمة مع عدد من المعارضين السابقين حكام العراق الجديد. فقليل منهم لم يفسده الكرسي المذهب، ولم يسقط في إغراء السلطة، ولم يسرق ولم يرتشٍٍ، ولم يقم باحتلال بنايات وقصور ومعدات وأجهزة ومزارع وبساتين تعدود ملكيتها للدولة أو لقادة النظام السابق.

فكثيرون منهم، مع الأسف الشديد، مسختهم المناصب وكشفت عوراتهم. فبعد أن كانوا، وهم يتسكعون في مقاهي لندن ودمشق وطهران والرياض، كرماء وبسطاء ومتواضعين، ويكثرون من القبلات الساخنة، ويبالغون في الحزن على طائفية صدام وفساد وزرائه وكبار أقاربه ومساعديه، فاجأونا بانقلابهم إلى ذئاب كاسرة لا ترحم. وبهرونا بانتهازية مبتكرة غير متوقعة. فهذا احتل الحارثية كلها، وذاك احتل الجادرية، وآخر احتل المنصور، ورابع احتل كربلاء والنجف، وخامس احتل الرمادي وبغداد وديالى وتكريت. وأكثرهم لؤما وخبثا ونذالة هم أؤلئك الذين حلبوا المحاصصة إلى آخر ما فيها من مكاسب، وحين جفت ضروعها، أو ُمنعوا من حلب المزيد من ضروعها، انقلبوا عليها، وراحوا يشتمونها ويلعنون فرسانها، ويتباكون على الوطن والمواطنين من شرورها ومخاطرها. بل تحولوا، دون خوف ولا حياء، إلى دعاة سلام وإنسانية وديمقراطية وعلمانية وسلطة قانون.

1- (أبو إسراء المالكي):

أول زيارة قمت بها لدمشق كانت في أواسط تشرين الثاني/نوفمبر عام 1990 بهدف التعرف على المعارضين العراقيين، وحثهم على الالتفاف حول الإذاعة المنوي إطلاقها في أول يوم من عام 1991. وتشاء المصادفات أن يكون أول من أتعرف عليه وأجري معه أول حديث مسجل للإذاعة هو جواد المالكي أو أبو إسراء المالكي. في غرفة متواضعة صغيرة في حي السيدة زينب. واستمرت علاقتنا المهنية، وليست الشخصية، إلى ما قبل سقوط النظام بقليل. وأنقل هنا من أحد دفاتري القديمة هذه الانطباعات الأولى عنه:

أولا: إنه إنسان بسيط غير متعلم تعليما أكاديميا متخصصا، وليس له خبرة سابقة في الإدارة أو السياسة أو الاقتصاد.

ثانيا: مغرق جدا في تعصبه الطائفي، ومبالغ في ولائه لحزب الدعوة، وكرهه المبطن لباقر الحكيم وللمجلس الأعلى للثورة الإسلامية.

ثالثا: علاقته وثيقة جدا بالمخابرات السورية، من خلال أحاديث جانبية معه أكد لي فيها استعداده لاستقبال من أزكي له من المعارضين الراغبين في الخروج من العراق، وتزويدهم بجوازات سفر سورية، فورا ودون عقبات. وكنت قد قصصت عليه معاناة بعض الهاربين من بطش النظام.

ثالثا: لم أحترم إصراره على استخدام الاسم المستعار. فإن كان يظن أنه يخدع مخابرات صدام فهو واهم. فهي تعرف كل شيء عنا واحدا واحدا، خصوصا أؤلئك المعارضين البارزين أمثال المالكي وبيان جبر الذي صار فيما بعد باقر صولاغ الزبيدي.

ثالثا: أعلن في الحديث الأول لإذاعتنا أنه ضد الحل الأمريكي، وأن حزبه ثابت على مبدأ مواجهة نظام صدام بالقوى الذاتية للشعب العراقي. متهما من يحاول ترويج الحل الأمريكي بالخيانة. هل يستطيع حزب الدعوة تغيير النظام بقدراته الذاتية، وسوريا تتعاون مع صدام، وإيران تساعده على تهريب النفط العراقي عبر مياهها الإقليمية؟

رابعا: أطال في تبرير رفضه لطائفية صدام حسين، وخاصة اعتمادَه على الولاء فقط في تعيين مساعديه ومستشاريه وافراد حكومته. هل يستطيع المالكي، لو وصل إلى السلطة، أن يتخلى عن الطائفية؟. ملاحظة: ما زلت أحتفظ بنسخة من ذلك الحديث مسجلة على CD للذكرى والتاريخ.

2- حركة الوفاق:

لم تكن للسعوديين أية علاقات من أي نوع مع المعارضة العراقية، بسبب علاقاتهم المتينة والحميمة مع صدام ونظامه، وعلى إثر غزو صدام للكويت وإقدامه على حشد قواته على الحدود السعودية، ومهاجمة كتيبتين مدرعتين من الحرس الجمهوري العراقي لمدينة الخفجي السعودية، أصبح السعوديون في أمسّ الحاجة إلى جسور جيدة مع المعارضين العراقيين. ولأن أغلب تنظيمات المعارضة كانت قد وزعت ولاءاتها على دول أخرى سبقت السعودية، وخاصة حكومات إيران وسوريا وأميركا، فقد تبيّن لقيادة الاستخبارات السعودية أن المهمة ليست سهلة، وأنها قد تخرج من المولد بلا حمص.

وذات يوم كلف اللواء محمد العتيبي quot;أبو تركيquot;، المساعد التنفيذي لرئيس الاستخبارات الأمير تركي الفيصل، أحد معارفه للاتصال بصباح علاوي مدير مكتب منظمة رعاية الطفولة والأمومة التابعة للأمم المتحدة في الرياض، وطلب استشارته ومساعدته في ترتيب لقاءات ببعض المعارضين العراقيين.

في اليوم التالي كان صباح علاوي يهاتف شقيقه إياد في quot;لندنquot;، ويطلب منه ترتيب وفد يزور السعودية. تلقف أياد الدعوة بشغف كبير. ثم أهداه ذكاؤه إلى فهم المعادلة بصورة واقعية وعملية (بريغماتية) صحيحة. لو ذهب بنفسه ولوحده فإن السعوديين سيكرمونه ويمنحونه بعض المال ويكلفونه بعمل معين في لندن ضد صدام حسين. خصوصا وأنه غير معروف، ولم يكم قياديا في حزب البعث ولا مسؤولا حكوميا سابقا. فلمعت في ذهنه فكرة عبقرية لامعة. الأفضل له إقناع صديقه صلاح عمر العلي المقيم في quot;لندنquot; بالسفر سوية لطرح مشروع تأسيس تجمع سياسي معارض لنظام صدام. فهو سنّي تكريتي، ووزير سابق، وعضو سابق في مجلس قيادة الثورة، وعضو سابق في القيادة القطرية لحزب البعث. خاصة وأن الأميركان وحلفاءهم السعوديين وكثيرا من زعماء الدول العربية والأوربية يتمنون انقلاب قصر يطيح بصدام وأسرته وأعوانه، يكفيهم شرّ القتال، ويجنبهم مخاطر حرب جديدة في المنطقة لا أحد يطمئن لتفاعلاتها وأثراها على اسقرار المنطقة والعالم.

وفي مساء أحد أيام تشرين الثاني/ نوفمبر 1990 جمعتنا دعوة عشاء في منزل اللواء العتيبي في الرياض حضرها الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات العسكرية السعودية وعبد الغني الراوي والداعية الإسلامي الكردي الراحل علي عبد العزيز وصباح علاوي. في تلك الأمسية بالذات تحقق الوعد السعودي الذي ظل صلاح وأياد ينتظرانه بفارغ الصبر. فقد تقرر تأسيس الوفاق. تقدم اللوء العتيبي نحو صلاح ومد إليه بمغلف مغلق تكهن الموجودون بأنه (الشيك) الأول على الطريق القادم الطويل. وبحركة تمثيلية متكلَّفة أشار صلاح للوء العتيبي بيده مشيرا إلى مساعده الإداري والمالي الدكتور أياد علاوي لتسلم الشيك.

لكن الخلاف لم يلبث أن تفجر بين إياد وصلاح في أواسط شباط 1991. يقول صلاح إن سببه إقدام إياد على إيفاد اثنين من أعضاء الحركة إلى quot;فلوريداquot; لكي يتدربا على كتابة البرامج الإذاعية ضمن الحرب النفسية الموجهة إلى العراق، بالتفاهم والتعاون مع جهة أمنية أمريكية سرية، دون علم الأمين العام والأعضاء الآخرين، وهذا ما دفعه إلى تجميد عضوية أياد في الحركة. لكن واحدا من أنصار أياد، وهو الدكتور صلاح الشيخلي، أخبرني عشية حصول الانفصال، وكنا في مؤتمر للمعارضة في واشنطن، بأن تصرف صلاح الأخير كان ضمن سلسلة محاولات عديدة سابقة لفرض هيمنته على الحركة والانفراد بها دون شركائه الآخرين فيها.

فما كان من إياد ومؤيديه، تحسين معلة ونوري البدران واسماعيل القادري، إلا اقتحام مكاتب جريدة الحركة (بغداد) في لندن، والسيطرة عليها، مع معداتها وأختام الاسم الرسمي للحركة، الأمر الذي جعل صلاح يقدم على إنشاء حركة جديدة باسم quot;الوفاق الديمقراطيquot;، وأصدار جريدة أخرى باسم quot;الوفاقquot;.

ولم تصبح quot;حركة الوفاق الوطني العراقيquot; جزءاً أساسياً من نظام المحاصصة الطائفية والعنصرية في القيادة العليا للمعارضة إلا بعد أن أصبحت حركتين؛ الأولى بقيادة الدكتور إياد علاوي الذي تمت إضافته، فورا ودن عقبات، إلى نادي القادة الستة الكبار، ليصبح عددهم سبعة؛ والثانية بقيادة صلاح عمر العلي الذي تم عزله نهائياً عن المؤتمرات اللاحقة التي نظمتها تيارات وأطراف المعارضة العراقية.

3- لجنة العمل المشترك في دمشق

في عام 1990، أُعلن في دمشق عن تشكيل تجمع عراقي معارض ضم أطرافاً يغلب عليه التوافق الإيراني- السوري، أُطلق عليه اسم quot;لجنة العمل المشتركquot;.

وُشكلت أمانتها العامة من خمسة أعضاء لقيادة العمل العراقي المعارض:

- الجبهة الكردستانية.

- المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.

- حزب الدعوة الإسلامية.

- حزب البعث العربي الاشتراكي- التنظيم السوري.

- الحزب الشيوعي العراقي

وهذا ما كان يعنيه تعبير quot;لجنة الخمسةquot;. والحقيقة أن اختيار ممثلي تلك الأحزاب لم يتم بطريقة ديمقراطية تضمن تحقيق أكثر الصيغ ملاءمةً لواقع المعارضة العراقية في خارج العراق وداخله معاً، فقد تم التوصل إلى تثبيت مبدأ جديد اتفق المشاركون في quot;لجنة العمل المشتركquot; على تسميته باسم مبدأ quot;التوافقquot; والذي أصبح فيما بعد يسمى quot;المحاصصةquot;.

ونتيجة لضغوط قوية مارستها المملكة العربية السعودية، وافقت quot;لجنة العمل المشتركquot; على إضافة التنظيمين اللذين كانا قد تأسسا بالدعم السعودي الكامل، وهما: quot;حركة الوفاق الوطني العراقيquot;، وquot;المجلس العراقي الحرquot;، ليصبح العدد (5+2). ومع ذلك بقيت الكلمة العليا للخمسة.

عملياً وواقعياً، كان لإيران سلطة قوية جداً على توجهات ومواقف حلفائها الإسلاميين العراقيين، وخاصة على قيادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة الإسلامية ومنظمة العمل الإسلامي، في حين كان لسوريا اليد الطولى في توجيه وصياغة مواقف البعثيين العراقيين المرتبطين بالقيادة القومية لحزب البعث الموالي لدمشق، منذ أن اندلع الخلاف العميق بين جناحَي حزب البعث العراقي والسوري في أوائل الثمانينيات.

وفي ضوء هذا الواقع كان لا بد أن يحصل توافق وتفاهم واقتسام للمواقع بين العواصم الثلاث: دمشق، طهران، والرياض. ولولا المال السعودي والتقارب المفاجئ بين إيران وسوريا والسعودية لما اشترك التنظيمـان quot;السعوديانquot; في أعمال مؤتمر بيروت آذار/مارس 1991، فقد دفع اللواء محمد العتيبي quot;أبو تركيquot; أربعة ملايين دولار لدمشق لتقوم بترتيب عقد مؤتمر بيروت والإنفاق عليه. ورغم ذلك جرى تهميش الحركتين، الأمر الذي جعل السعودية توافق على خطط quot;الوفاقquot; وquot;المجلس العراقي الحرquot; الهادفة إلى إيجاد حلفاء جدد من خارج النفوذ الإيراني والسوري، وتأسيس تجمع يستطيع مواجهة quot;لجنة العمل المشتركquot;. ولكن جميع المحاولات فشلت تماما وبشكل نهائي وأكيد. كما كان طبيعياً أن تفشل quot;لجنة العمل المشتركquot; في عقد المؤتمر الثاني للمعارضة في غياب المال السعودي.

وشهد مؤتمر بيروت بدايةً فرضَ الصيغ المسبقة التي كانت توصف بالتوافقية، وكانت الكلمة الأولى للإسلاميين الذين حولوا مؤتمر بيروت إلى أداة لفرض هيمنتهم على انتفاضة آذار/مارس 1991، ومنع الأطراف العراقية الأخرى، الليبرالية والقومية، من استثمار تلك الانتفاضة، رغم أن أكثر قادة الانتفاضة، أعلنوا بأكثر من وسيلة، أنها عمل عراقي عفوي غير منظم، ولا يجوز لأي أحد أن يدّعي غير ذلك، رافضين تسلط أيٍّ من تنظيمات الخارج على قيادتها واحتكارها.

أما الأكراد فقد اختاروا صيغة أكثر واقعية للتعامل مع الانتفاضة ومؤتمرات المعارضة، وخاصة quot;لجنة العمل المشتركquot;. فقد عزلوا قضيتهم عن مجمل القضية العراقية، وأقاموا جداراً حديدياً يَحُول دون تدخل عرب العراق بأي شأن من شؤون كردستان، ولم يواظبوا على حضور اجتماعات quot;لجنة العمل المشتركquot;، ولكنهم لم ينسحبوا منها ولم يقاطعوها.

ثم اهتزت أجواء السياسة العراقية المعارضة بسبب دخول الجبهة الكردستانية في مفاوضات مع صدام حسين في العام نفسه، لكن الأكراد الذين دافعوا عن منطلقاتهم القومية الكردية المستقلة لم يقطعوا شعرة معاوية مع باقي المعارضين العراقيين.

فقد حققت انتفاضة العام 1991 للأكراد مكاسب عديدة، في مقدمتها الاستقلال عن سلطات بغداد، وتدفق المساعدات الدولية عليهم، واقتطاع جزء مناسب من واردات العراق من برنامج النفط مقابل الغذاء للمدن الكردية، وتم إجراء انتخابات وتأسيس برلمان وحكومة، الأمر الذي وفر للقيادات الكردية ظروفاً مثلى تجعلها أكثر قدرة على الانتظار والترقب، دون عجلة ودون اضطرار لتقديم تنازلات لشركائها من عرب العراق.

أما على ساحة المعارضة العراقية - العربية فقد تعددت التنظيمات، حتى وصل عددها إلى أكثر من مئة تنظيم لم يكن في قدرة أي منها فرض نفسه على القادة الكبار الخمسة وتحقيق أي إنجاز فاعل ومؤثر يضمن المشاركة الحقيقية في تعديل مسار القضية العراقية، ولم يكن لدى الجميع من خيار سوى الترقب والانتظار.
4- مؤتمر فيينا وأحمد الجلبي

في ضوء ذلك الواقع المختنق، لم يجد المعارضون العراقيون، العرب والأكراد، بداً من اللجوء إلى الطرف الأقوى على الساحة الدولية فيما يتعلق بالعراق، وهو الولايات المتحدة الأميركية. وعلمنا بأن الجهود بدأت للدعوة الى مؤتمر موسع للمعارضة يعقد في quot;فينّاquot;، وأن اسم أحمد الجلبي راح يتردد باعتباره مشرفاً على تلك الجهود وقائدها.

لم يكن السعوديون يثقون بأحمد الجلبي، ولكن بضغط من الأميركيين مُنح تأشيرة دخول لزيارة المملكة مع اثنين من معاونيه، هما ليث كبة ومحمد محمد علي، للتداول مع المسؤولين السعوديين والمعارضين العراقيين المقيمين في السعودية حول إمكانية المشاركة في المؤتمر المذكور والذي تمخض عنه، فيما بعد، quot;المؤتمر الوطني الموحدquot; برعاية أميركية كاملة.

وقبل ساعات من وصول الجلبي ورفيقيه تلقيت مكالمة هاتفية من مسؤول في الرياض يطلب مني فيها التفرغ لاستقبال الوفد واستضافته على نفقة الإذاعة وباسمها، ومرافقته إلى حين مغادرته المملكة، وعلمت منه أن أي مسؤول سعودي لن يقابله.

كان هذا حرجاً كبيراً لي ولأعضاء الوفد في الوقت نفسه، فقد أشغلتهم بالتجوال في جدة، أنا وزميلي زهير الدجيلي، وبالولائم واللقاءات مع العراقيين العاملين في الإذاعة، وتسجيل الحوارات الإذاعية معهم. ومكثت في هذا الحرج والمماطلة إلى أن مل الدكتور الجلبي ورفيقاه، وقرروا مغادرة المملكة بخُفّيْ ُحنين.

وبعد مرور سنوات عديدة، وبالتحديد في العام 1999، وكنت قد عدت إلى ولاية ميتشغان، زار الجلبي الولاية التي تعتبر عاصمة العراقيين في أمريكا، وخاصة لاجئي مخيم رفحا السعودي الذين أعيد توطينهم في أمريكا، بهدف اختيار موالين له يقوم بدعوتهم لحضور مؤتمر نيويورك المقرر عقده في ذات العام. وفي مقر مجلة المنتدى العراقية الشهيرة عقد لقاء بين الجلبي وعدد من المثقفين العراقيين المغتربين لمناقشة أوضاع المعارضة العراقية، وتم اختياري لإدارة اللقاء. سار الحوار في أجواء ملبدة ومتوترة حول أمور حساسة ومحرجة للجلبي حول المعارضة ودوره فيها. إلى أن تجرأ أحد الحاضرين على مهاجمة الجلبي صراحة وبعصبية، قائلا له إنك مرفوض من كثيرين من العراقيين، ومن جميع دول الجوار العربية، ومن نصف الأمريكان، فلماذا لا تنزل عن ظهر الشعب العراقي وتعطي الفرصة لشخص آخر مقبول، دوليا وعربيا وعراقيا، لخدمة القضية العراقية؟. غضب الجلبي وسأله كيف عرفت أنني مرفوض من العراقيين، هل أجريت إحصاءا ميدانيا لتقرر ذلك؟ ومن أخبرك بأنني مرفوض من دول الجوار العربية؟ إن لي معهم، جميعا ودون استثناء، علاقات طيبة. فمثلا أنا زرت السعودية واجتمعت بالملك فهد وولي العهد الأمير عبد الله ووزير الدفاع الأمير سلطان، والأخ إبراهيم كان هناك ويعلم بذلك!!!


5- مؤتمر نيويورك 1999

لا ينسى أحد منا تلك الأحداث المضحكة المبكية التي شهدتها قاعات الفندق الذي عقد فيها المعارضون العراقيون مؤتمرهم الشهير الذي أرسى أسس التكالب على المكتسبات الزعامية وقواعد التآمر المكشوف على من يحاول أن يتمرد على قيادة المؤتمر الوطني الموحد.

ولأول مرة شهدنا حملات الشتم والاتهام العلني بالخيانة والعمالة والسمسرة، ولأول مرة أيضا سمعنا تهديدات باستخدام الأحذية سلاحا مشروعا في قاعة مؤتمر القادة المقبلين للوطن السليب. ولولا تهديد إدارة فندق نيويورك باستدعاء الشرطة، ولولا جهود (ريتشارد دوني) سفير وزارة الخارجية الأمريكية لدى المعارضة والذي أنفق مليوني دولار لتمويل هذا المؤتمر لسالت دماء المناضلين الديمقراطيين على سجاد الفندق الأمريكي الوثير.

ويتذكر من حضر مؤتمر نيويورك كيف تواجه اثنان من أبرز المتنفذين في ذلك المؤتمر، وهما أياد علاوي وأحمد الجلبي، (وهما بالمناسبة أبنا خالة أيضا)، فحشدا محازبيهما ومرافقيهما والمنتفعين بهما، فتمترس الفريقان وأعلنا حرب الأصوات العالية فيما بينهما، والتهديد بالانسحاب وإفشال المؤتمر إن لم تتحقق مطالبهما المتضاربة.

ويذكر من حضر المؤتمر أيضا كيف توحد (المتعاركان الكبيران) فجأة، واتفقا على مواجهة خصمهما المشترك ليث كبة، على طريقة أنا وأخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب. فقد قرر الأمريكيون دعم ليث كبة في ذلك المؤتمر ودفعه به إلى الواجهة، وحشدوا له المناصرين والمقترعين ليفوز بأعلى الأصوات، ديمقراطيا، وليكون البديل المحتمل لأحمد الجلبي وأياد علاوي اللذين فشلا في تحقيق أية نتائج ملموسة على أرض الواقع لمواجهة نظام صدام حسين. ورفض الجلبي وعلاوي نتائج التصويت، وفرضا، بقوة الصوت العالي، مسرحية إعادة الانتخاب، ليفوز الجلبي وعلاوي ومحمد محمد علي( أبو حيدر)، ويهزم ليث كبة، ويقبل (ريتشارد دوني) بالأمر الواقع، ولو إلى حين. ومن الجانب الكردي فاز لطيف رشيد من جماعة الطلباني، وهوشيار زيباري من جماعة البرزاني. ثم هدد حزب البرزاني بالانسحاب إذا أضيف حسن النقيب إلى تلك القيادة، ممثلا للسنة، فاختير رياض الياور ( وهو لا ينتمي لعشيرة الياور المعروفة)، والسيد علي بن الحسين. وقد تمت زحلقتهما فيما بعد، وذهبا طي النسيان.

في ذلك المؤتمر تم ترسيخ مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية التي صارت أمرا واقعا لا يمكن تلافيه ولا التخلص منه. فقد شكل المؤتمرون مجلس قيادة أعلى للمعارضة، تمهيدا لعقد مؤتمر صلاح الدين فيما بعد. فقد حصد أحمد الجلبي من مقاعد مجلسها المركزي 15، وحصل أياد علاوي 21، والأكراد 15، وزعموا أن 14 مقعدا ظلت شاغرة لكي تملأ، مستقبلا، بمثثلين عن الأطراف الأخرى، وهي العربية السنية والتركمانية والآشورية وغيرها.

في ذلك المؤتمر بالذات تحقق العزل النهائي لباقي أطراف المعارضة العراقية، وأصبح أبطال مؤتمر نيويورك هم حكام العراق الجدد، إذا ما تمت إزاحة نظام صدام. على أمل أن يضاف حزب الدعوة، وأن يكف المجلس الأعلى عن التستر على انضمامه الكامل، بعد أن ظل زمنا يناور ويداور، يحضر الاجتماعات ويشارك في اتخاذ القرارات ثم يعلن أنه يحضر بصفة مراقب فقط.


6- مؤتمر لندن 2002

إن الذي أسس للتشرذم والانقسام بين شرائح الشعب العراقي، قبل سقوط النظام، هو السلوك الخاطيء الذي انتهجه المعارضون العراقيون منذ البدايات الأولى لمؤتمراتهم العاصفة.

بدأت quot;لجنة العمل المشتركquot; في دمشق، فأسست لبدعة quot;المحاصصةquot; بين أطراف معينة مختارة من مجاميع العراقيين في الخارج، مستهلة بذلك سياسة تهميش أطراف وشرائح مهمة وأساسية، في مقدمتها أصحاب الكفاءات العلمية والمثقفون والأدباء والصحفيون والمهنيون الآخرون.

وبسبب ذلك حصل انقسام عميق بين العراقيين في الخارج انعكس على الداخل، وتفجر الجدل الواسع والساخن بينهم حول جواز هذا التسلط الظالم على الشعب العراقي. الأمر الذي أدى إلى تناقص ثقة المواطن بعدالة المعارضة واستقلاليتها وجديتها. حتى أن كثيرين من الكتاب والصحفيين والسياسيين راحوا يتندرون بانعدام الفرق بين تسلط صدام وأعوانه، وبين سلوك القادة الستة، رافضين أسلوبهم الديكتاتوري التسلطي بقوة المال الإيراني وأصابع القوى الخارجية لفرض هذه المحاصصة.

ومع اتساع دوائر الشجب والاعتراض لمؤتمر فينا 1992 ومؤتمر نيويورك 1999، كان على المعارضة، وبالذات على أقوياء قادتها الستة، وهم: مسعود البرزاني، جلال الطالباني، عبد العزيز الحكيم (ممثلا لأخيه باقر الحكيم)، أحمد الجلبي، أياد علاوي، الشريف علي بن الحسين (طرد بعد ذلك، وحل محله حزب الدعوة) باختراع مؤتمر لندن 2002، لوضع الصيغة النهائية للحكم المقبل في العراق، ومحاصرة الرأي العام العراقي في الخارج والداخل، ووأد جهود المستقلين والديمقراطيين الرامية إلى تصحيح الخطأ الكبير الذي أسس لجميع الأخطاء القاتلة اللاحقة الأخرى.

وكانت خطة المستقلين والديمقراطيين التقدميين تتلخص في دعوة جميع أحزاب وتنظيمات المعارضين العراقيين، دون تمييز ولا تهميش، مهما كان حجم الحزب أو التنظيم، بالإضافة إلى عدد من أبرز المستقلين، من المفكرين وأصحاب الكفاءات، إلى مؤتمر وطني شامل يتم فيه انتخاب قيادة موحدة للمعارضة العراقية، بحرية ونزاهة، ويحجز عدد من مقاعدها لممثلي الداخل مساوٍ لعدد مقاعد الخارج، من قادة سياسيين ومفكرين ورؤساء عشائر عربية وكردية وطوائف أخرى، تتولّى السلطة مؤقتاً، فور سقوط النظام، وتقوم بإنجاز تعداد سكاني منصف وعادل، وبمراقبة دولية فاعلة، لكي تـُجرى على أساسه انتخاباتٌ نزيهة ومباشرة، وبإشراف دولي فاعل أيضا، لمنع تلاعب القادة الكبار السبعة.

والمؤكد أن قيادة كهذه كانت ستصبح صمام أمان يجنب الوطن مزالق الحروب الأهلية المدمرة التي أشعلها طمع السبعة وجوعهم المزري إلى الجاه والمال والشهرة.