أبو خولة

في مقال أخير منشور على صفحات إيلاف الغراء، بقلم عبد الجبار العبيدي، بعنوان quot;لمن جاءت شرائع الأرض والسماء؟ولماذا؟ وأين التطبيق؟ استرعى انتباهي تساؤل الكاتب : quot; لم أر كتاباً عالج لنا مسألة التبني وملك اليمن سوى كلمة (حرام ) التي تتصدر كل فكر ظلامي منغلق،فالتبني عملية إنسانية ليس فيها ضيرا شرط أن يتم التبني قبل سن الفصال أي قبل دخول الطفل دائرة الوعي لتحقيق الحرمة ويكتمل مفهوم رضا الوالدين، وخاصة التبني للقطاء المحرومين من العطف الأبوي أو اليتامى في الحروب والنوازل أو أبناء الأرامل، كلها جوانب إنسانية يجب البت فيها بتا ورفع كلمة حرام من قاموس العمل الإنساني الرفيع. اما غيرنا من المستشرقين فقد أسهبوا في الصح والخطأ حتى كونوا لنا دائرة معارف فكرية في هذا المجال مطروحة للمناقشة والحوار،فلماذا نحن بعيدون؟ هنا نحتاج لحاكم متفتح جريء يؤمن ويقول وينفذ، وهذا الحاكم الجريء لم يظهر فينا إلى اليوم. بينما هم وجد عندهم هذا الحاكم الجريء المنفتح والمنفذ لكل رأي صحيح.quot;


بعد ذلك يعمل الكاتب عقله و يتساءل : quot;فما هو الأصلح أن نترك الأيتام يتسكعون في الشوارع ودور المواخير التي تتلقفهم الجريمة أم نأواهم لنصلحهم... واليوم نحن نملك الآلاف الذي قذف بهم الزمن في آتون الخطأ ولا يدرون ما يفعلون، لكننا شطار في ترديد كلمة (خطية).quot;

و يختم السيد العبيدي مقاله ببعض التمني، إذ كتب : quot;فهل من حاكم عربي مسلم يتبنى نظرية الإسلام الصحيح لينقذه من براثن الطارئين، لمَ لا تكون لنا سابقة المجددين المصلحين.. أم نبقى نتمشدق بما قاله السابقين،وندعي نحن المؤمنين؟quot;

و الحقيقة فيما يخص تشريع تبني اليتامى و التشجيع عليه باعتباره quot;عملية إنسانية ليس فيها ضيراquot; من المهم التنويه بما حصل في تونس خلال أشهر قليلة على اثر حصول الدولة على استقلالها في العام 1956. و لقد حصل هذا في نطاق عملية الإصلاح البورقيبية الكبرى التي ألغت تعدد الزوجات و حددت السن الادنى لزواج الفتيات بــ 18 سنة، مع تعميم التعليم العصري للبنات كما للبنين بدمج التعليم الديني الزيتوني (نسبة لجامع الزيتونة) في التعليم العصري العام. و لم يكن كل ذلك ليحصل لولا ادرك الزعيم الحبيب بورقيبة بان عبودية المرأة و تخلف التشريعات و المناهج التقليدية للتعليم تجعل الدول العربية و الإسلامية عصية عن الحداثة و التقدم.

و بما أن إصدار التشريعات لم يكن كافيا، بادر مجاهد تونس الأكبر منذ السنوات الأولى للاستقلال بإنشاء المركز الوطني لحماية الطفولة، حيث يحظى اليتامى صغار السن بالرعاية اللازمة. و يمكنني أن اشهد على ذلك شخصيا بحكم زياراتي المتكررة إلى هذا المعهد في العام 1999 عندما وفقت بمساعدة المتطوعات للعمل الجمعياتي الإنساني على التعرف على المولودة quot;خولةquot; التي تبنيتها و لم يتجاوز عمرها آنذاك الثلاثة أسابيع، بقرار صادر من المحكمة و بناء على توصية للمرشدة الاجتماعية التي قامت بزيارتنا في المنزل المرار العديدة لمعاينة ظروف الطفلة خولة و تقديم تقرير مفصل عن ذلك للمحكمة. لقد لاحظت خلال زياراتي تلك الظروف الجيدة ndash; بالمقاييس التونسية و حتى العالمية - لهؤلاء الأطفال اليتامى تتمثل في نظافة المسكن و نوعية الطعام و عدد العاملات، بالإضافة للرعاية التي تقدمها أعضاء الجمعيات اللاتي تقدمن خدماتهن المجانية بصفة مستمرة.

لعل الأسس الصلبة التي وضعها الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة في مجال حماية الطفولة كما في مسالة إلغاء تعدد الزوجات و التزويج القسري للقاصرات هي التي جعلت الاتجاه الوحيد للتغيير في المستقبل ndash; الاتجاه إلى الأمام-، إذ لم يحصل أي تراجع يذكر في تونس على كل هذه الأصعدة. بل على العكس من ذلك، صادقت الحكومة التونسية على معاهدة حقوق الطفل الأممية في العام 1991، تبعها إنشاء مرصد الإعلام و التكوين و التوثيق و الدراسات حول حماية حقوق الطفل في العام 1995.

اليوم و الدول العربية و الإسلامية الفاشلة تجد نفسها مضطرة للقيام ببعض الشيء في مواجهة الوضع المزري، سواء بتقييد تعدد الزوجات كما قرر مؤخرا برلمان كردستان العراق، أو منع البرلمان اليمني لجريمة تزويج القاصرات دون سن الــ 17 سنة، أو التشجيع الصريح على تبني الأطفال اليتامى، بإمكان هذه الدول الأخذ بما تراه صالحا من التجربة التونسية السباقة في هذا المجال، بفضل الرؤية الإصلاحية الثاقبة لأحد اكبر عمالقة السياسة و الإصلاح الاجتماعي في القرن العشرين الحبيب بورقيبة طيب الله ثراه.


[email protected]