توقّفت عن الكتابة لفترة طويلة، وسبب ذلك ما يعتريني من ذهول فيما أراه وأسمعه من أهلي وأوطاني. فكلّما حاولت أن أضع بعض المقدّمات المنطقيّة لأبني عليها مقالا فاجأتني نتائج متنافرة مع مقدّماتها، فأحبطت عزمي، وأناخت يراعي عن تدبيج مقالة أو كتابة فكرة تتنافى مع أبسط قواعد المنطق.


ربّما أكون غير منصف فيما أكتب، وهذا كان هاجسي دوما لأنّني أحمل اعتقادا في عدم ملكيّة الحقيقة، وما أنا إلاّ فرد على مسرح الحياة المليئة بالحقائق المتصارعة.. ولذلك سوف أحتكم إلى القارئ فيما نشب بين عقلي وبين عقل قبيلة العرب. إليكم قصّة يحاول الكثيرون الإشاحة بنظرهم عن مشهدها المؤرّق. ولكننا عندما استيقظنا على إنذار العالم الآخر، أصبح لزاما علينا جميعا أن نتعاطى معها.. تمنّينا أن تكون هذه القصّة كابوسا نستيقظ بعده، فنجد أنّنا مازلنا في سريرنا الوثير، وأنّ أثاث المنزل لم يبرح مكانه، وأنّ اللّوحات المعلّقة للمشاهد المفزعة من العراق وغزّة والتي خرجت كلّ شخوصها تصرخ مطالبة بثأرها في كابوسنا قد رجعت إلى غياهب أحبارها وألوانها، ولكنّ شيئا من كلّ هذا قد حصل، فإنّ ما توهّمناه كابوسا ليس إلاّ حقيقة مفجعة، وأطفال العراق ونساء غزّة قد أصبحوا بفعل كابوس الواقع جثثا سوداء منتفخة..


وبما أنّ الجثث لا تصرخ، وإنّما يصرخ فقط أولئك الأحياء المكلومون ممّن نجا من المذبحة، فإنّ سكّان دارفور لم يعد يبكيهم أحد. لماذا نبكي سكّان دارفور؟ إنّهم ليسوا من قبائل شمّر وعنزة.. وهل حياة 300 ألف من نسائهم وأطفالهم أهمّ من 100 غزّاويّ اغتالتهم آلة الحرب الإسرائيليّة اللّعينة؟ نعم، الكابوس ليس إلاّ حقيقة مرّة، فإنّ شعب دارفور الذي أعلنت عليه الحرب من حكومة الخرطوم بقيادة البشير واقعة حقيقيّة شاخصة أمام العالم. فمن هو هذا السّيد عمر البشير؟


السّيّد عمر الذي ولد قبل 64 عامل في كوخ حقير ببلدة تبعد حوالي 100 كلم شماليّ العاصمة الخرطوم سلّمه أبوه إلى المؤسّسة العسكريّة وهو طفل لم يتجاوز الثّانية من عمره، لأنّ الأب ما كان بإمكانه أن يطعمه نتيجة الفقر المدقع الذي كانت تعاني منه الأسرة. فأبوه السّيّد حسن زارع الطّماطم الفقير قد تخلّى عنه في هذه السّنّ المبكّرة إلى مؤسّسة الجيش التي كان بإمكانها إطعامه بصحن من الذّرة حتّى لا يموت جوعا كغيره من الأطفال. الطّفل عمر تناهشته الوحدة والإحساس بالفقدان ولم يجد أمامه من أجل العيش غير احتراف القتل أو التّعرّض له. أيّ أنّ الرّئيس الحاليّ للسّودان كان ضحيّة هو الآخر للفقر والعوز، فلم يعرف الطّفولة ولا الأسرة..


إنّه الضّحيّة الجلاّد. الجانح الصّغير القاتل الكبير. وقد تعمّدت التّعريف به على هذا النّحو حتّى يتسنّى لمحاميه في المستقبل أن يجدوا له عذرا مخفّفا أمام العدالة الدّوليّة. أليس هو الذي أعلن الجهاد (الحرب المقدّسة) على جزء من شعبه في الجنوب؟ أليس هو الذي شكّل كتائب الجنجويد النّازيّة ودهمها بجيشه لتقتيل وتهجير واغتصاب جزء آخر من شعبه في الغرب السّودانيّ؟
وهل خرجت من إحدى قبائل العرب مظاهرة تقول لا للتّقتيل؟ هل وقفت منظّمة حقوقيّة من مئات الآلاف من المحامين الذين تعجّ بهم بلاد العرب ليدينوا هذه الجريمة البشعة؟ أم أنّ سكّان دارفور هم من الخلعاء المباحين والمستباحين دما وعرضا؟


يقدّر عدد الذين استرقّهم العرب بين 20 و30 مليون.. وبدلا من أن يعتذر العرب للأفارقة عن قرون من العدوان عليهم، باحترافهم أسر أطفالهم ونسائهم وبيعهم في أسواق النّخاسة، يثبتون اليوم نثبت عنصريّتهم المقيتة بدفاعهم عن ذلك الجلاّد الذي حرق قراهم وهجّرهم وقتل أطفالهم واغتصب نساءهم.. البطل الصنديد عمر حسن البشير. إنّها بلا شكّ عنصريّة بغيضة سوف تزيد من الشّرخ التّاريخيّ بين العرب والأفارقة وتجعل كلّ شكل من أشكال الوفاق والتّعاون أمرا مستحيلا في المستقبل.


نحن ندين مؤتمر القمّة ونعتبر كلّ من ساهم فيه مساهما في التّغطية على الجريمة وتأييد المجرم. جامعة الدّول العربيّة هي منظّمة عنصريّة والقمّة العربيّة مشتركة في جريمة منظّمة.

إنّنا عرب وأمازيغ إفريقيا الشّماليّة لا نستطيع أن نحذو حذو الكثير من إخواننا المشارقة في نظرتهم التّمييزيّة تجاه الأفارقة، لأنّنا لا يمكن أن نعيش أقلّيّة في قارّة تتعالى على الأغلبيّة من سكّانها وهم بدورهم يعتبروننا دخلاء على قارّتهم. ربّما لا يعرف بعض إخواننا في المشرق العربيّ بعض الحقائق التّاريخيّة. فبالرّغم من غارات العرب على الأفارقة واسترقاقهم وبيعهم الملايين للأوروبّين والأمريكيّين وإخصاء الكثير ممّن بقي في خدمتهم، وموت 7 من كلّ 10 يتعرّضون إلى الإخصاء... فتحوا لنا بلادهم إبّان الحرب ضدّ المستعمر، وعندما أجبرنا على الهجرة مكثنا ببلادهم وبين ظهرانيهم منعّمين مكرّمين حتّى أنجزنا استقلالات بلداننا، ومنّا من لا يزال هناك يعيش في أمان...


إنّنا نطالب اليوم المجتمع الدّوليّ ومنظّماته للتّحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل، ولكنّنا في الوقت ذاته نرفض أن يسلّم البشير إلى العدالة الدّوليّة وهو الذي قتل 300 ألف مواطن من سكّان دارفور وشرّد مليونين منهم، وأخيرا منع عنهم حتّى الإغاثة بطرده منظّمات الإغاثة الدّولية. إنّها وصمة عار، وإنّه سقوط أخلاقيّ قبل أن يكون سياسيّا.. سقوط سوف يصمنا جميعا سياسيّين وإعلاميّين ومثقّفين وحقوقيّين.. سقوط الدّفاع عن الجلاّد وقتل الضّحيّة مرّة أخرى.
ولكن كيف يمكن تفسير هذا الموقف العربيّ الغالب من قضيّة دارفور؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقال لاحق.

د. محمّد عبد المطّلب الهوني