بعدما عزّت المنابر على رياض نجيب الريّس، ولم يجد أهلا لتشفيه المعهود وتهشيم ما أمكن من هيئة وهيبة وصورة المُبدع العربي بتسليط الأقلام الغثّة... وكنتُ بعدَ إصدار كتابي quot;إسرائيليات بأقلام عربية quot; أحد ضحاياه الذين واظب على النيْل الشخصي منهم مِرارا وتكرارا لدرجة كان البعض يستغرب إصدارَ عددٍ جديدٍ من النقاد لا يوجد فيه شتيمة تطاولني، ولا أخفي أنني قبل الإصدار المذكور كدّت أقع بذاك المطبّ عندما طفت مجلة النقّاد على السطح بعدما غرقت مجلة الناقد في قاع الغياب وقعر النسيان، وكدّت أصدّق أن دعوة تلقيتها شخصيّا هي أشبه بامتيازٍ فخريّ من رياض نجيب الريس ابن بلدي البار {المُتلببن والمتلندن } حتى النخاع، بوسعها أن تؤسس لي زمنا من المجد القادم، وهو يُثني ذات لقاء على قلمي اللاذع وبكلمة صادمة ونابية وبلا مقدمات كلفني بأن أسخّر أسلوبي الساخر والسليط بانتهاك حرمة ذاك أو تلك دون تردد بالقول البذيء وليت المقام يسمح بنشره :/بدك اتنـ...... صاحب كل كتاب يقع تحت يدك /، وما إن قدّر لي البدء مع كبير الطبّاخين آنذاك ع.ع.ل لاستلام الإصدارات منه وتصدير المقالات إليه، حتى أذهلتني الروائح المقززة التي تفوح من ألفاظه على الدوام. وحتى في Overtim طالما أنّ الريّس راضي ومبتسم ويسير الخيلاء. وسرعان ما تصادمنا صداما مدوّيا، عندما أدرك كبير الطبّاخين صعوبة توجيهي لإعداد ما يناسبهم على حساب ما يناسبني.


وأخرج هنا من غبار الذاكرة والمفردات وأنفضها بنزق معهود، وأكرر تلاوة ما بعد السؤال المنشور في إيلاف 2/4/2009 بعنوان quot;من صادر محمود درويش؟quot;، محطة الريّس الإيلافية الجديدة التي كانت لترويج سلعة وإن بنسخة معدّلة لاحقا تعد بإقلاع واعدٍ إلى الضوء والمزاحمة والمعارك الزائلة بعدما أتخمته العتمة وطواه النسيان في شوارع الحمرا البيروتيّة.


ضالّة الريّس هذه المرّة quot;إلياس خوري quot; صيد ثمين بعد أنسي الحاج ذات quot;نهار quot; المنبر المغلق في وجه الريّس منذ إشكالاتٍ وإشكالات، وما ذنب إلياس خوري الذي اقترفته يداه حسب زعم الريس؟ لينشر على عجلٍ إصدارا تلفيقيّا للراحل الكبير محمود درويش الذي آثر حفظ النسخة الأصل بحوزة إلياس خوري ضاربا عرض الغياب ما سيصدر عن الريّس ومنشوراته الجليلة، وكنت قد قرأت القصيدة الأخيرة منشورة على إحدى المواقع الألكترونية وتنبّهت إلى الأخطاء المتعاقبة فأرجعت الأمر إلى ناقل القصيدة لا كاتبها بالتأكيد، وإذا كان النشر على صفحات الأنترنيت مغفورا بأخطائه، بسبب تعدّي الهواة والدخلاء والطفيليين أحيانا، ولكن كيف تُغفر غلطة الريس التي تعتبر بألف، وخاصة هو المتورّط في طرح أكبر كمّ من المطبوعات إلى المكتبة العربية وربما أغالي فلا رصد رسمي لدي لعدد العناوين الصادرة عن داره، بكل الأحوال كان حريّا بالريس قبل أن يطبع استدراكا لعيد ميلاد الراحل 14 آذار حسب نواياه المعلنة، أن يُدقق ويراجع أو أن يسأل أهل الذمّة والاختصاص لجهله قواعد الكتابة الشعرية وأوزانها الخليليّة، بدل تعليق الواقعة على مشجب إلياس خوري وأصدقائه الذين لم يجرؤ على ذكر أسم أيّ منهم، واكتفى باسم إلياس خوري الذي تكرر بغيظ فادح وواضح لأكثر من تسع مرّات داخل مقالة واحدة وهذا تقصّد وتعمّد من ناشر لكاتب معروف غير مسبوق.
سيقول قائل ولمَ quot;تنطّحت quot; تلك الغادا للذود عن حمى إلياس خوري، وسأوجز ما أمكن من هو إلياس خوري ومن هو درويش بالنسبة إليه.


كنت قد رفعت عزائي مدوّنا في إيلاف بتاريخ 12/8/2008 بمقالتي الأسبوعية آنذاك حيث كنت واحدة من كتّاب إيلاف مبعث اعتزازي حتى اللحظة،عنونتها في حينه quot; بعيدا عن رغوة الكلام، إلى أثنين أرفع أصدق العزاء quot;مشيرة إلى إلياس خوري وعبد القادر الجنابي، وإلياس خوري لم يكن أقل غضبة من الريس تجاه إصداري اللغم quot;إسرائيليات quot; آنذاك، لكنه لم يخرج يوما عن حدود اللباقة والرقي في التعبير عن وجهة نظره تجاه ما ساءه من مجازفتي تلك، ومحاولة مني في اختصار للوقائع أذكر جيدا إلياس خوري عندما قصد معرض الكتاب اللبناني للحصول على الإصدار أولا وليعبّر لي عن استيائه موجِزا قوله بمخاطبتي quot;محمود لا يستحق منك ذلكquot;، وحاول بكلّ ما أوتي من سليقة وسجية وصدق أن يثنيني ذات لقاء عابر جمعتنا به أرصفة الحمرا، لكنّ الكتاب كان قضيّتي كما ظلّ محمود همّ إلياس الأكبر، إلى أن كان عزائي في إيلاف، ولأنه سامٍ كإنسان أولا وكأديب يصعب أن يتكرر، أرسل لي على الجوال خاصتي كلمة شكر مكثّفة وبراقة، أكثر ما أسعدني بها، هذا الكيان الباسق الذي لم يدركه الغرور بل لم يراوده عن عليائه سوى التواضع، وأقول التواضع ليس لأنني لا أستحق الشكر، ولكن لأن قامات أدبية لم تبلغ حدّ quot;القزمية quot; قياسا لإلياس خوري كتبت عنها بمزاجية ناصعة، ولم تكلّف خاطرها بكلمة quot;شكرا quot; على بساطتها.


مضت فترة من الزمن لا بأس بها على كامل التفاصيل المبيّنة أعلاه، لأفاجأ باليوم الأول من العام 2009 باتّصال هاتفي يبادرني صاحب الصوت بالقول: أنا إلياس خوري أحببت أن أقول لك كل عام وأنت بخير، لا أخفي شهقتي الضمنية، وذهولي، وارتباكي، وتعثّري في ردّ التحيّة بأحسن منها، وكطفلة تلّقت استحسانا مدرسيا شعرت بغبطة عامرة، ثمّ دعمها بثناء آخر، تكتبين جيدا غادا لكن ينقصك أن تستمعي لحوار مختلف، سألته: موجود لديك، أجاب: بكل تأكيد، تبعته بسؤال آخر: وهل لديك وقت لفنجان قهوة للخوض في الحوار المختلف، أجاب: بثقة مماثلة، بكل تأكيد. وانتهت المكالمة على موعدٍ تحددّه الأيام القادمة، وتأخرت الأيام القادمة كونها حبيسة مزاجي الغائم أحيانا والمتقلّب دائما، إلى أن باغتتني لحظة نهوض، اتصلت بإلياس راغبة بلقائه، كانت الساعة قرابة الخامسة مساء، قال: متى ألقاك؟ سألته: متى شئت؟، قال: بعد ساعة يناسبك؟، وخشية مصادرتي تحت براثن مزاجي ثانية، قلت بعد ساعة، وأجهل في قرارة نفسي، لم كان تعجيل الموعد، وصلت الأشرفية بعدة مخالفات سير، لوصولي المتأخر كالعادة عن أي موعد كان أو سيكون، كان إلياس بكلّيته في maison du cafeacute;، كان هو ببساطة، إلياس خوري لا أكثر ولا أقل، سلسا كجدول بدون ادّعاء، وواضحا كجبل بدون تعالٍ، بدون رتوش سألته: ألم تعد غاضبا مني، حانقا، مستاءً أو كاره؟، ردّ بعفوية وصدق قلّ نظيرهما، وهو ينظر إلى ساعة يده: الآن تخطّت السابعة مساء، وفي السابعة صباح الغد ستكون رحلتي إلى نيويورك، ولأن رحلتي ستمتد هناك إلى قرابة الأربعة أشهر، فقد عزّ علي تأجيل الموعد معك، نحن اليوم ببداية عام جديد، وما تبقى لنا من عمر لا يتسع لمواصلة مزيد من الغضب أو الحنق على أحد، حتى وإن كان أنتِ، هاهو محمود رحل، فهل ما زلت تكرهين محمود، وبدأت كالبلهاء أقدم أغلظ الأيمان على حبي الشديد لمحمود ردّ بسخرية: بلا تجليط، أخبرته: أنّ تناولي لموقف محمود برؤية خاصّة يختلف عن شعوري له كشاعر مميز وإنسان جميل، كان اللقاء بمجمله من أجل محمود وعلى شرف محمود وكرمى لمحمود، وكلّ ذلك لا يعلمه لا محمود ولا ورثته ولا محاميه الخاص ولا حتى رياض الريّس، كان يدافع عنه بشراسة، يسترسل بالحديث عنه ويمر الوقت وتقلقه الساعات القليلة التي تفصله عن سفر طويل، يحتشد اللون الأحمر على صفحة وجهه، وفي أعماقي أخشى عليه من شدّة الانفعال، وأغبط محمود على زميل حرفه وحرفته وحبره وحياته على هذا quot;اللياس quot; النادر حقّا، ثمّ ختم القول بهدوء ما بعد العاصفة: غادا يجب أن تعملي شيئا لمحمود، شيئا يستحقه، وأنت الفاعلة لما لم يستحق، صمتّ...، ثم سألني: هل ستعتذري لمحمود عمّا فعلتِ؟ فكري بطريقة صدقيني هو يستحق، ثم واصلت صمتي، كنت خجلة ليس مما فعلت ولا عمّا سأفعل إن قدّر لي الفعل في أي وقت كان، خجلة من إلحاح إلياس النبيل، ثم سألني: غادا، محمود كان قد بلغ من الشعر والعمر والحضور والزمن عتيّاً، هل كان يرضيك أن ينخرط في المقاومة ويحمل السلاح ويجوب الجبهات، كان من حقه أن يختار نمطا جديدا لحياته بعدما دخل السجن وعرف النزوح والألم والشقاء، كان من حقّه أن يستريح، لم أتفوّه إلا بمزيد من الصمت، وبإمكانية استثنائية على الإصغاء، كنت أستمع لنبض إلياس وهو يردد عن محمود، لحركة الدم في شرايينه وهي تنتفض لأجل محمود، ومنذ ذلك اليوم وحتى هذا المساء وأنا أتساءل كيف أفي إلياس حقه في أن يستريح من أجل محمود وليس أمامي سوى أن أطلق الرصاص على إصداري فتزهق روحي، ويقيني حينها أنني لن أجد صديقا واحدا سيبذل نصف ما يبذله إلياس لأجل راحة محمود الأبدية، وأجزم أنني سأفوز بمزيد من غضب إلياس لما سردته هنا، لأنه ذكّرني أنني عندما أقدم على فعل جديد من أجل محمود فليكن بتنسيق مع ذاتي، وليس بتحريض فائق منه، فهل بعد كلّ الذي ذكرت فعلا إلياس خوري يحتفظ بمخطوط محمود ليتسلّق على اسم الراحل وشهرته؟ كما ورد في مقال الريّس quot; وانحصر تدخلنا كناشرين في أمر واحد هو إصرارنا على رفض quot;حكاية إلياس خوريquot; فمحمود درويش لا يحتاج إلى مَن يتسلق على تركته الأدبية.quot;، في الوقت الذي يشرّع الريس لنفسه استثمار محمود درويش حتى ما بعد الرمق الأخير، فهل سيوزّع كتاب محمود مجانا للقارئ كحسنة أو صدقة جارية على روح الراحل مثلا؟