تمر علينا هذه الأيام (9 نيسان/ابريل) الذكرى السادسة لسقوط طاغية لا مثيل له فى تأريخ البشرية، أو على الأقل فى تأريخ العراق. لا أدرى بمن أشبهه من طغاة حكموا العراق، ولكن حتى اذا قارنته بالحجاج بن يوسف الثقفي، فسيكون الحجاج ملاكا بالنسبة لما قام به صدام وحزبه (حزب البعث) من قتل وتعذيب وتشريد للعراقيين، وتدمير شامل للبنية التحتية للبلد، وخاصة فى الفترة بين دخوله فى الحرب مع ايران ودخول الأمريكان لبغداد وهروبه المهين. لم يكفه ما فعل فى تلك الفترة الأشد ظلاما فى تأريخ العراق، بل واصل القتل والتدمير اثناء هروبه، حيث كان يخطط ويوجه أتباعه ومريديه من المنتفعين والحاقدين، واستمر فى ارسال أوامره (المشفرة) حتى وهو يحاكم بعد أن أخرج من حفرة الخزي والعار ومعه السلاح الذى لم يستعمله وفضل الاستسلام للأمريكيين الذين سحبوه من الحفرة وهو يقول : (انى صدام حسين رئيس الجمهورية العراقية).

حمل القرآن اثناء محاكمته ليوهم البسطاء والبلهاء بتدينه وهو الذى لم يكن يعترف بدين أو مذهب بل حارب رجال الدين سنة وشيعة وارتكب أنواع الجرائم ابتداء من سرقة الدجاج فى طفولته وارتكابه جريمة قتل فى صباه، وبعدما استولى على السلطة قتل أعدادا لا تحصى من الناس وغدر بأقرب الناس اليه. أما جرائم الاغتصاب التى مارسها هو وولديه فهي معروفة للعراقيين.

لا بد لى أن أتطرق الى تأريخ موجز للطاغية، أوجهه الى من لا يعرفه جيدا من العراقيين أو العرب حتى يكونوا على بينة من ذلك. لقد عايشت كل تلك الفترة المظلمة المرعبة من تأريخ العراق، حيث سمعت باسمه لأول مرة بعد محاولته اغتيال الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.

ولد الطاغية فى سنة 1937 فى قرية صغيرة لم تكن معروفة قبل أن يبرز اسمه، قرب تكريت (شمال بغداد) اسمها العوجة، بيوتها من طين وجذوع النخيل، وعائلته وضيعة ومن أفقر عوائل تلك القرية. مات أباه (حسين) وصدام فى الخامسة من عمره، فتزوجت أمه من شخص معتوه عامله بكل غلظة وقسوة، ودربه على السرقة والأعتداء على الآخرين. وفى سن السابعة أصبح ماهرا بسرقة الدجاج، و بدأ اهل القرية يشعرون بقسوته، فعندما يحيطون به حاملا دجاجة سرقها ويرى أنه لن يفلت منهم فانه كان يخنق الدجاجة ويرميها أمامهم.

قسوة أهله عليه والفقر المدقع الذى عاش فيه، قد جعلته لا يثق بأحد ويكره كل الناس، خاصة الموسرين منهم. ورافقته أحلام المراهقة طيلة حياته، فكان يعشق السلطة والاستبداد ولا يقبل معارضة من أحد، ويرى أن استعمال القوة هو الحل الأفضل. وربما كان الفقر هو ما دفعه فيما بعد الى بناء القصور العديدة الهائلة والتى كلفت عشرات الملايين من الدولارات، وسماها (قصور الشعب) التى بنى معظمها فى فترة الحصار الاقتصادي حينما كان الناس يتضورون جوعا.

فى الرابعة عشر من عمره قتل أحد أقاربه، ووجدته الشرطة بعد أقل من ساعة نائما فى فراشه يغط فى نومه ويتنفس بهدوء، فلم يصدقوا انه هو القاتل فلم يلقوا القبض عليه (لسوء حظ العراق).
أدخله خاله الضابط المتقاعد السيء السمعة (خير الله طلفاح وسمي فيما بعد:حرامى بغداد) الى المدرسة. ودأب صدام على ضرب زملائه والاعتداء عليهم، ولم يكونوا يقوون على صده لأنه كان أكبرهم سنا وأقواهم عضلا. ثم أخذه خاله الى بغداد وأدخله مدرسة متوسطة (السنة الدراسية السابعة)، وزوجه ابنته (سجودة، ويطلق عليها حاليا: أم المجاهدين!) وهو ما يزال فى الثانوية. ثم انتمى الى حزب البعث، الذى وجد قادته فى صدام كل المؤهلات التى يحتاجونها للقتل والاغتيالات.

فى سنة 1959 اشترك فى محاولة لاغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، ولكن المحاولة فشلت، وهرب صدام الذى أصيب برصاصة فى ساقه، واختفى عن الأنظار عدة شهور، حتى استطاع الهرب الى سوريا ثم الى مصر حيث استقبلته المخابرات المصرية، وهيأوا له السكن وخصصوا له راتبا. ويقال ndash;كذبا- أنه أكمل الثانوية فى مصر.

ثم حل شباط الأسود من عام 1963 ونجح البعثيون بانقلابهم الدموي على الزعيم، وقام الحزب بتصفية كل المعارضين بمنتهى القسوة. وقام صدام بالدور الأكبر فى القتل والتعذيب بنفسه، ولم يسلم من تلك المجازر حتى المراهقين والمراهقات. أما اختطاف الفتيات من بيوتهن واغتصابهن فقد كانت من الأمور المألوفة الغير مستغربة، ومارسها البعثيون الى حد الثمالة.

لم تعمر حكومة البعثيين أكثر من 9 أشهر حيث انقلب عليهم شريكهم بالأمس عبد السلام عارف وطاردهم، ومرة أخرى هرب صدام الى القاهرة حيث بقي فيها الى أن استطاع البعثيون الانقلاب على عبد الرحمن عارف فى تموز/يوليو 1968 وأصبح صدام نائبا لرئيس الجمهورية، ولكنه فى الواقع كان هو الحاكم المطلق، وكان الجميع وبضمنهم المقربون اليه يخشون بطشه وغدره.

وبدأ فورا بالقضاء على أعداء الحزب والقتل على الشبهة ولأتفه الأسباب. وأخذ يبذر أموال العراق على الدعاية لنفسه ولحكمه ويدفع الرشاوى بدون حساب، ووصلت رشاواه حتى الى بعض رؤساء الدول والمتنفذين، ناهيك عن الكتاب والصحفيين والشعراء والمغنين الذين كانوا يلهجون بحمده والثناء عليه ليلا ونهارا وهو يزيد فى اكرامهم. والتفت الى الناحية العسكرية، فقد كان القلق يساوره من شاه ايران الذى كان يطمع بالاستيلاء على شط العرب. فأخذ يشترى السلاح بدون حساب وأنشأ المعامل للصناعات العسكرية. وتأزمت الأمورمع ايران خاصة بعد أن وافق صدام على اقامة الخميني الذى نفاه الشاه فى العراق، وعقد مع الشاه اتفاقية الجزائر التى طرد بموجبها صدام الخميني من العراق، ثم ألغى الاتفاقية بعد سقوط الشاه.

وفى عام 1979 اغتال صدام أحمد حسن البكر بعد أن أجبره على التنازل عن رئاسة الجمهورية، تبعها بتصفية أعوان البكر وكل من يعارضه أو قد يعارضه أو يشك فى اخلاصه أو يخشى منافسته، فقتل منهم المئات فى يوم واحد.

وقبيل نهاية عام 1979، وبتحريض وتشجيع وتمويل من بعض البلدان العربية الكارهة لحكم الخميني الذى حل محل الشاه، فقد شن صدام حربا حمقاء على ايران التى هي ثلاثة أضعاف العراق مساحة ونفوسا، تلك الحرب الدموية التى جرت بين دولتين جارتين مسلمتين استمرت ثمانى سنوات وأعلن عن انتهائها فى 20 آب/اغسطس 1988، راح ضحيتها أكثر من مليوني قتيل من الطرفين، وفقد العراق مالا يقل عن مليون من خيرة شبابه، ودمرالكثير من بنيته التحتية، وشح الماء الصالح للشرب كما شح الغذاء والدواء ومات عشرات الألوف من الأطفال نتيجة سوء التغذية وانعدام الأدوية. وانهار الاقتصاد العراقي أو كاد بعد ان اقترض صدام أكثر من 80 مليارا من الدولارات من مختلف دول العالم لتمويل تلك الحرب الضروس. ثم أعلن صدام عن انتصاره فى تلك الحرب (قادسية صدام)!.

وقبل أن تنتهى تلك الحرب، وجه صدام بعض قواته للهجوم على الأكراد فى شمال العراق فى شباط/فبراير 1988، وأطلق على الحملة اسم (الأنفال)، استمرت الى ايلول من نفس السنة، واستعمل فيها الغازات السامة، فقتل من الأكراد أكثر من 150 ألف نسمة، وشرد أكثر من مليون، ودمر أكثر من 4000 قرية فى تلك الحملة.

وفى أقل من عامين تخللتها المشاحنات بين صدام المفلس والكويت التى زادت من صادراتها من النفط مما خفض أسعاره فى الأسواق العالمية، اضافة الى حفرها الأفقي ndash;على ما قيل- لسحب النفط العراقي من حقل الرميلة، بدأت تطالبه بتسديد الديون التى أقرضته اياها عندما كان (حارسا للبوابة الشرقية)، وبالرغم من أن صدام كان قد تنازل عن بعض الأراضي العراقية للكويت، الا أن الكويت أصرت على استيفاء الديون. وتأزمت الأمور، وطلب صدام حضور السفيرة الأمركية لجس النبض، فأوهمته السفيرة بأن أمريكا (لا رأي لها فى العلاقات العربية/العربية)، فتصور لجهله أنها أعطته الضوء الأخضر. وفى تموز/يوليو 1990 بدأ صدام يحشد قواته على الحدود الكويتية، ثم اجتاح الكويت يوم 2 آب/اغسطس. وفى 6 آب فرضت الأمم المتحدة الحصار الاقتصادي المدمر على العراق.

وبقيت تلك القوات فى الكويت حوالى ستة أشهردمر فيها ضباط صدام البلد ونهبوه. فى أثناء ذلك حشدت أمريكا نصف مليون جندي على الحدود السعودية الكويتية، بالاضافة الى دول عديدة أخرى وبضمنها دول عربية وهي: البحرين، مصر، المغرب، عمان، قطر، السعودية، سورية، وقف جنودها صفا واحدا مع أمريكا وحلفائها. وكان صدام يراوغ فتارة لا يصدق أن أمريكا ستهاجمه وتارة يعقد العزم على الانسحاب من الكويت، ولكن غروره واستهانته بالعراق وأهله وعدم مبالاته بنتيجة حرب كانت لا تختلف عن معركة بين عملاق وطفل غرير. فركب رأسه وقرر البقاء، فأنذره بوش الأب بأنه سيعيد العراق الى العصر الحجري اذا لم ينسحب. نصحه بعض زعماء العرب بالانسحاب ورفض. انتهت مدة الانذاريوم 15 كانون الثاني /يناير 1991 وبدأ القصف الجوي الشديد للمنشئات العسكرية والمدنية العراقية يوم 17 واستمر 41 يوما القيت فيها على العراق أكثر من 88 ألف طن من القنابل فى أكثر من 100 ألف غارة جوية، وعم الخراب البلد.

وفى يوم 24 شباط/فبراير 1991 شجع الأمريكان العراقيين على الانتفاضة على صدام والقضاء على حكمه، وفى يوم 1 آذار/مارت ndash;أي بعد يوم واحد من ايقاف القتال من قبل الأمريكيين- بدأت انتفاضة الجنوب من البصرة وامتدت بعدها الى أكثر مدن الجنوب، هاجمتهم قوات صدام التى جاء بها من الشمال فقتل حوالي 130 ألف انسان ودمر بيوت سكان الآهوار التى جففها فيما بعد. وقامت انتفاضة أخرى فى الشمال قام بها الأكراد وبدأت من كركوك، فسحقتهم دبابات صدام وقتلت منهم حوالي 100 ألف حسب تقدير منظمة هيومان رايتس ووتش، ودمر أعدادا لا تحصى من القرى.

عانى العراقيون بشدة من المقاطعة الاقتصادية، وفى البداية رفض صدام مشروع أمريكي دولي عن السماح للعراق بتصدير النفط واستعمال النقود لشراء الغذاء والدواء للشعب المسحوق، ولكنه عاد وقبل به. واستمر على توزيع كوبونات النفط على المطبلين والمزمرين له. واشتدت المعاناة بسبب شحة ماء الشرب والأدوية والكهرباء، تلك الشحة التى بدأت مع هجومه على ايران التى أغارت طائراتها على محطات توليد الطاقة الكهربائية وتصفية الماء ردا على قصف صدام لها.

لم يتوقف صدام عن تهديد جيران العراق وخاصة الكويت، واستمر يتبجح عن قرب انتاج قنابل نووية عراقية. ووضع الكثير من العراقيل أمام المفتشين الدوليين الذين كانوا يبحثون عن اسلحة الدمار الشامل، ومع أنه أخذ يتساهل معهم أكثر يوما بعد يوم حتى أنه سمح لهم بتفتيش مخدعه، ولكن الأمريكان فقدوا كل ثقتهم به وبحكومته، وخافوا أن تتأثر مصالحهم النفطية فى المنطقة العربية، فطلب منه بوش الابن بمغادرة العراق والا سيواجه هجوما جديدا.

وكالعادة، رفض صدام هذا الطلب وفضل أن يحترق العراق والعراقيين. فبدأ الغزو الأمريكي للعراق يوم 20 آذار/مارس 2003، وفى 9 نيسان تم تحرير بغداد من صدام وعصابته واحتلتها القوات الأمريكية. أما (القائد الضرورة) و (سيف العرب) و(صقر العرب) و (حارس البوابة الشرقية) فقد فر هاربا على رأس ضباطه من المعركة وبقي متخفيا الى أن أخرجه الأمريكان من حفرته التى أعدها وجهزها لنفسه، وكانت معه بندقية آلية ومسدس وثلاثة أرباع المليون من الدولارات، ولم يحاول الدفاع عن نفسه أو الثأر لولديه اللذين كانا أشجع منه وقاوموا الأمريكيين حتى قتلوا. قدم الى المحاكمة التى استمرت من 19 تشرين أول/ اكتوبر 2005 وانتهت فى 5 تشرين ثاني/ نوفمبر 2006، وحكم عليه بالأعدام ونفذ الحكم فيه فى الثلاثين من كانون الأول/ديسمبر 2006 جزاء وفاقا على ما اقترفته يداه من جرائم بحق الشعب العراقي والانسانية جمعاء.

ولم يسلم العراقيين من شروره حتى بعد موته، فقد اتفق أعوانه من البعثيين مع السلفيين على القيام بالهجمات الانتحارية، فقتلوا مئات الألوف من العراقيين معظمهم من المدنيين بدون تمييز، ودمروا المساجد والأسواق والبيوت والمراكز الحيوية والبنية الخلفية للبلد، ودقوا اسفينا بين السنة والشيعة وحرضوا بعضهم على البعض الآخرونشروا بينهم العداوة والبغضاء. وعند كتابة هذه السطور فى يوم الاثنين 6 نيسان الجاري حصلت سبع تفجيرات فى بغداد وضواحيها بلغ عدد ضحاياها حوالي 200 بين قتيل وجريح وكلهم من المدنيين البسطاء الذين كانوا يبحثون عن أعمال تقيم أودهم وأود أطفالهم وعوائلهم.

كل هذا وما زال عدد كبير من الناس وخاصة من العرب غير العراقيين يمجدون (فارس العرب) و(الشهيد أبو الشهيدين) !!. وللناس فيما يعشقون مذاهب.

عاطف العزي