نشبت على هامش انتشار فايروس إنفلونزا الخنازير معارك أخرى عقائدية وفكرية، أشد ضراوة وبأساً، رغم طابعها الدونكيشوتي، أحياناً، ولا علاقة لها بالمرض quot;الوبائيquot; البيولوجي والعضوي الأصلي الذي داهم الأنام، في غفلة من الزمن والأيام، بقدر ما لها علاقة بأمراض وأوبئة فكرية وعقلية مستفحلة ومستوطنة ومتسرطنة، تأبى أن تنزاح وتنداح، وتجثم على عنق هذه المنطقة الموبوءة بـquot;الفايروساتquot; الكثيرة والأساطير والمبهمات.

وحالما تم الإعلان عن تفشي الوباء، الذي قيل في وسائل الإعلام، أنه وصل إلى إسرائيل، أي على مبعدة quot;رمية حجرquot; من المحروسة، انبرى رهط من هناك، وشمـّر عن ساعديه، لتصفية حساباته العقائدية ضد الخنازير ذاتها، مهدداً ومتوعداً إياها، وليس ضد الفايروس القاتل، الذي يعتبر، حسب ما نعتقد، مجرد quot;همروجةquot; إعلامية، أخرى، ومفبركة، دأبت الأوساط الغربية، على إطلاقها، من وقت لآخر، بغية إشغال الرأي العام، بقضايا هامشية وثانوية، بعيدة كلياً، عن بؤر الأحداث الملتهبة والكوارث الأخرى التي تسببت فيها نفس هذه القوى العالمية وتجرّمها وتدينها بشكل مطلق، وانعكست مآس وويلات على صعد حياتية واجتماعية واقتصادية، تسببت في هلاك وموت الملايين اقتصادياً ومعاشياً، وفعلت فعلها بالناس، أكثر بكثير مما فعله الفايروس quot;الدرويشquot;، والمسكين(أمام هول ضحايا العراق مثلاً)، والذي لم يتجاوز عدد ضحاياه أصابع اليد، حتى اليوم، وفي العالم أجمع من أقصاه إلى أقصاه.

ولا ضير من استذكار الشروط العالمية في ظل الكلام الجاري عن فايروس الخنازير، والمناخ الدولي يغص اليوم برزمة من الأزمات التي تتسبب فيها الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، والفضائح المجلجلة تلاحقها في حلها وترحالها، وتحاول التعتيم عليها وغض الطرف عنها، من غوانتانامو وقصص التعذيب، إلى غزة، والمذابح التي ترتكب اليوم في سوات وقصف المدنيين العزّل في أفغانستان، والعراق، وقصص الفساد المالي والإداري والإفلاس المالي، والانهيارات الاقتصادية والسرقات الكبرى، وقصص أخرى لا تقل فظاعة، يعج بها المشهد الأممي.

ولعل البعض يتذكر، في هذه اللحيظات العابرة، كيف أطلقت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وفي أوج حروبه الوحشية الفتاكة لكن quot;المقدسةquot; هي الأخرى، صفارات الإنذار حيال، ما قالوا عنه خطر داهم في حينه، وهو فايروس، انفلونزا الطيور، وتمّ الأمر لهم، وأُشغل الناس عن الجرائم والفظائع والأهوال المرعبة التي كانت ترتكب في العراق، من جهة، ولتعويم وإنقاذ شركات طبية خاسرة، وتصريف أدوية كاسدة لديها جنت من خلال ذلك المليارات، وضخـّت الأموال في شرايينها، ورفعت أسهمها في البورصات المتهاوية، من جهة أخرى.(تم بيع عشرات الملايين من الأقنعة الطبية الواقية حصدت بعض الشركات الطبية الغربية المفلسة بفعل الأزمة العالمية الملايين من ورائها، هكذا وبرمشة عين). نفس الأمر ينطبق أيضاً، على quot;همروجةquot; الجمرة الخبيثة الـ Anthrax، التي تبين أنها ليست سوى فقاعة إعلامية من إياها، التي شغلوا بال وانتباه العالم بها حتى مرّ ما يجب تمريره، ولا حس ولا خبر، ولا quot;من شاف ولا من درىquot;. ألا يحق لنا أن نتساءل اليوم، وببراءة طفولية مفعمة، أين هي الجمرة الخبيثة، ولماذا لا يوجد إنفلونزا للطيور، وامـّحت آثارها هكذا، وصارت في خبر كان، ومن دون أية ضجيج ومقدمات؟

وبالعودة إلى الحرب الدونكيشوتية التي شنتها بعض القوى السلفية ضد حيوان الخنزير، وأسرعت على الفور لإصدار حكم بالإعدام على الخنازير في مصر، دونما سبب مقنع ووجيه، وإعلان الحرب المقدسة عليها، وكأن بينهم وبينها عداوات، وثأر تاريخي مستحكم، وكأنها هي المتسببة بالفقر، والفساد، والرشوة، والمحسوبيات، وفايروس C الكبد الوبائي القاتل الأول في مصر، ومرض السل، وفضائح المبيدات المسرطنة، والأورام السرطانية المنتشرة، التي تفتك سنوياً بعشرات الألاف من أبناء المحروسة وهذا مالم يفعله فايروس الخنازير حتى اليوم، ولن يفعله غداً. وهذا الحيوان، وفايروسه، لم يتسببا حتى اللحظة بقتل أي مصري، ولكن هل لنا أن نتساءل كم تسبب الفساد والتسيب والإهمال الحكومي والإداري بضحايا؟ ولعلنا نستذكر على الفور غرق العبارة المصرية السلام 98، ووفاة أكثر من 1200 شخص كانوا على متنها، بلمح البصر، هو غيض من فيض فايروس quot;غول الفسادquot;، الذي يفتك بالناس، والتي لم تشهر أية سكين من ذات الأبواق لذبحه؟

ولن ننسى تلك المعركة التي لا تقل كارثية، والتي افتعلها الداعية والشيخ الوهابي من أصل سوري، محمد المنجد، حين أعلن، هكذا، وفجأة، الجهاد والحرب المقدسة على الفئران quot;الفويسقةquot;، كما أسماها، في المانيفستو السلفي الشهير الذي أصدره، مطالباً بالتخلص من شخصية أفلام الكارتون المحببة والمعروفة لدى الأطفال quot;ميكي ماوسquot;، في غمرة أحداث عظام كبار، تمر بها المنطقة، وجنود quot;الصليبيين والكفارquot;، حسب خطاب الداعية السلفي نفسه، يذرعون أرض الإقليم، جيئة وذهاباً، وquot;البلاوي الزرقاquot; الأخرى تنبع من حوله وquot;حواليهquot;، ولكن، وبكل أسف، لم يجد أخونا بالله، وقتها، سوى الفئران المسكينة ليشن حربه المقدسة عليها.

إن أمة أعداؤها هم الجن والعفاريت والفئران والخنازير، لهي، وبالتأكيد، مصابة بما هو أبعد وأخطر من إنفلونزا الخنازير بكثير. أمة تضاءلت أحلامها، واختزلت آفاقها، وقلصت نضالاتها، وانحصرت اهتماماتها وأظهرت إبداعاتها، فقط، بشن حروب عبثية ووهمية على الفئران والخنازير، وربما على quot;شويةquot; خنافس وصراصير في المستقبل الواعد القريب، إن شاء المولى العلي القدير، أمة لا يعتقد بأنه سيكون لها أي مكان بين منازلات ومعارك أمم وشعوب الأرض أجمعين، أو أنها ستربح أية معركة أخرى، وفي أي ميدان من الميادين.

نضال نعيسة

[email protected]