رغم أن الإسلام جاء إلى العراق من جزيرة العرب، إلا إن معظم مذاهبه وفرقه نشأت في العراق، لاسيما بشكل خاص المذهبان اللذان يسودان العالم الإسلامي الآن المذهب الشيعي و المذهب السني، اللذان خاضا نزاعا مريرا للهيمنة على العالم الإسلامي دام عدة قرون، ابتداء من العهد الراشدي الذي شهد أحداث الثورة الطبقية ومصرع الخليفتين عثمان وعلي، مرورا بالعهدين الأموي والعباسي حيث الصراعات المختلفة المتوازية، وصولا إلى العصر الحديث الذي شهد قمة الصراعات الطائفية على الإطلاق بممثليها الرئيسيين الأتراك والإيرانيين، حيث كان العراق احد أهم ساحات هذا النزاع ومركزا لإلهامه، الأمر الذي جعل من الصراع الطائفي سمة من سمات الواقع العراقي، حيث لا يخلوا عهد من هذه العهود من تجاذبات هذا الصراع ومخاضه، وليس أدل على ذلك من استفحال وتطور العداء الطائفي الذي وصل إلى حدود خطيرة خلال الفترة الأخيرة، حيث حرك الاحتلال الأميركي للعراق صراعا طائفيا كبيرا لم تخف وتيرته حتى الآن، بعد أن كشف الصراع عن وجهه الطائفي الذي كان يستره، ليتحول إلى صراع مباشر ضحاياه السنة والشيعة معا.


إن ما يميز التفجيرات التي تحصل في العراق أنها تكاد تكون موجهة لمكون واحد، الأمر الذي يجعلها معبرة بشكل لا لبس فيه عن الهدف الماثل في أذهان فاعليها، ومما يبدو من العدد الكبير لهذه العمليات والأساليب المتبعة فيها و التفنن بالقتل، أن هدفها الأساس الإبادة، بحيث يتم الإجهاز على الطرف الأخر وقتل اكبر عدد منه، فرغم أننا لا نملك إحصائية دقيقة عن عدد التفجيرات التي شهدها العراق خلال السنوات القليلة السابقة، إلا أننا نستطيع أن نخمن أن عددها يربوا على عدة الالاف، وأنها خلفت مئات الالاف من الضحايا والأيتام والأرامل والمنكوبين، ولان هذه الأحداث واكبت الغزو الأميركي للعراق، فقد عدها البعض نوعا من المقاومة فيما عدها البعض الأخر نتيجة من نتائج الصراع بين القوى السياسية، وقد حاول الخطاب السياسي والإعلامي العراقي، التضليل على هذه الإعمال عندما قصرها بالجانب السياسي متوخيا استغلالها لأهداف سياسية، فالحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، هو أن معظم هذه التفجيرات مرتبطة بأهداف طائفية محضة، وليس هناك أي علاقة يمكن أن تربطها بمفهوم المقاومة الوطنية، فهذا النوع من المقاومة ( أي المقاومة الطائفية ) ليس غريبا عن العراق على الإطلاق، لان العراق كان مركزا لهذا النوع من المقاومة لعدة قرون، و مما يميز المقاومة الطائفية أنها لا تتوجه إلى المحتل قدر توجهها إلى الطائفة الأخرى انطلاقا من العامل الطائفي، حيث ازدهر هذا النوع من المقاومة خلال القرون الخمسة الماضية ( حقبة الصراع العثماني ndash; الصفوي )، التي نتج عنها خسائر كبيرة لا يمكن حصرها، ففي حين ترحب إحدى الطوائف بالاحتلال الأجنبي الذي يماثل طائفتها، تمارس الطائفة الأخرى دور المقاومة ضده ليس بدافع وطني بل بدافع طائفي، وعادة ما يتجه القسم الأعظم من جهد المقاومة إلى الطائفة الأخرى، بعد أن يتم اتهامها بالعمالة وتجريدها من ولاءها الوطني.


وقد تبادل سنة العراق وشيعته هذا التعاطي الطائفي الذي جعلهم مقاومين تارة ومهادنين تارة أخرى، ففي حين عد السنة الصفويين محتلين وتعاملوا معهم على هذا الأساس، اعتبرهم الشيعة محررين و ربما سارعوا لمساعدتهم استجابة لشعورهم الطائفي، ونفس الشيء يصح بالنسبة للسنة، الذين تعاطوا مع العثمانيين على أنهم محررين يتوجب مساعدتهم اتقاء لشر الطائفة الأخرى أو بغضا بهم، الأمر الذي يمكننا من خلاله أن نفسر استمرار الاحتلال العثماني وتواصله لعدة قرون.. هذا الاحتلال الذي حتمته أحوال العراق وظروفه المعقدة آنذاك، لاسيما بشكل خاص هيمنة العشائرية وسيادة الطائفية.


وبالتالي كان العامل الطائفي هو الفاعل الأكبر في الساحة العراقية خلال الفترة الماضية، بحيث يمكننا توصيف الواقع العراقي في تلك الفترة بأنه واقع طائفي وبامتياز، وربما لهذا السبب عجز العراق عن بناء مجتمع متماسك وتشييد دولته الحديثة رغم توفر الإمكانات اللازمة لذلك.


لذلك لا يمكننا أن نتجاهل هذا التاريخ الطائفي المرير ونقفز على معطياته، فالطائفية هي الداء الأخطر في الجسد العراقي والفاعل الأكبر فيه، وتجاهلها هو نوع من الفشل أو الاستسلام للموت، فإذا أردنا أن نبني مجتمعا سليما لابد أن نهتم بموضوع الطائفية وان نركز عليه تركيزا عاليا، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يمكننا من خلاله تجنب أسوا أمراض الواقع العراقي بل وأخطرها على الإطلاق مرض الطائفية المقيت.

باسم محمد حبيب