بعد نصف قرن و نيف من السنين تتوالى على العراقيين الذكرى السنوية للإنقلاب العسكري الأشهر الذي غير تاريخ العراق و الشرق القديم و بدرجة مرعبة و أدت نتائجه المريرة لسلسلة من الكوارث التي كان أكبرها وقوع البلد بأسره بعد عشرات السنين تحت مذلة الإحتلال الأجنبي و تهاوي كل الدعاوي الفكرية و السياسية التي دعت لتمجيد ذلك الإنقلاب الأسود الذي تجمع فيه و من أجله ثلة من المغامرين العسكريين من ضباط الجيش العراقي المتفاوتي الأهواء و الأمزجة و الرؤى و حتى الإرتباطات الخارجية!

و لم يكن يجمعهم أي جامع سوى شهوات السلطة و الحقد و التآمر و روح الغدر التي يحملونها في نفوسهم و إستمرارا أو تمشيا مع موضة الإنقلابات العسكرية التي غزت الشرق مع حركة ضباط 23 يوليو 1952 المصرية التي قامت هناك لإنهاء حكم أسرة محمد علي التي بنت مصر الحديثة رغم كل نواقصها و مثالبها و أخطائها.. ففي فجر ذلك اليوم التموزي البغدادي الأغبر المشؤوم من عام 1958 تحركت كل نوازع الغدر و الضغينة و الحقد و قامت زمرة من الإنقلابيين بقيادة كل من العميد الركن عبد الكريم قاسم آمر اللواء 19 و العقيد الركن عبد السلام محمد عارف آمر اللواء العشرين بالهجوم و السيطرة على عدد من النقاط الستراتيجية في بغداد كدار الإذاعة ووزارة الدفاع ومن ثم بدأ الهجوم على قصر الرحاب الملكي و الذي كان بيتا بسيطا للغاية مقارنة بقصور الملوك المعروفة، و كانت المجزرة المخزية و المرعبة و التي لا أتردد أبدا عن وصفها بكونها النسخة العصرية لمأساة ( أهل البيت ) في كربلاء! إضافة لكونها مجزرة لم تكن هنالك اية دواعي لها و لا أسباب حقيقية و لا مبررات موضوعية بل كانت عملا خسيسا و جبانا فتح بوابات العراق على الحجيم و أسس لظاهرة سيادة الشقاة و المجرمين و القتلة على مقدرات الناس، بل و تحول أولئك المجرمون و المتخلفون لطبقة حاكمة فيما بعد لاقى العراق على أياديهم الويل و الخسران العظيم.

فأبيدت برصاص الإنقلابيين و بأوامر صريحة من قادتهم العائلة الهاشمية العراقية المالكة، وقتل النساء و الأطفال وحتى الخدم بوحشية ليس لها من نظير سوى ما نشاهده في جرائم البرابرة و التتار، ولم يكتف القتلة بذلك العمل المخزي بل إستدعوا كل نوازع الشر و حفزوا كل نفسيات الحقد لتكتمل صورة المشهد المخزي و المأساوي في ذلك اليوم بمناظر بشعة و مرعبة للجثث البشرية المسحولة بالحبال في شوارع بغداد و منها جثة المغفور له الشهيد الأمير عبد الآله بن علي الوصي على عرش العراق إضافة لجثث العديد من المسؤولين وحتى بعض ضيوف العراق أيضا!! في واحدة من أخزى و أسوأ مشاهد التاريخ العراقي المعفر بالدماء.

و كانت قمة التراجيديا المرعبة مع جثة باني العراق الحديث و أحد أعظم رموزه و قادته وهو المرحوم الشهيد رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد الذي فشل القتلة في إعتقاله ووضع حدا لحياته بنفسه و كانت نهايته المأساوية صورة بشعة من صور الغدر و الجريمة و العار... ذهب النظام الملكي العراقي برموزه و قياداته التاريخية المخلصة لذمة التاريخ.. و لكن هل حقق الإنقلابيون سعادة الشعب العراقي؟

وهل غيروا أوضاعه نحو الأفضل ؟ و هل إستطاعوا أن يلامسوا مجرد ملامسة الأوضاع التطورية التي كان عليها العراق أواخر أيام الحكم الملكي و التي كانت تهيئه لإنطلاقة حقيقية فيما لو ترك له المجال ؟الجواب سنجده في التصفيات الدموية التي ضربت العراق و جعلت الإنقلابيين كالوحوش الضارية يأكل بعضها بعضا و أعادت العراق لقبضة التخلف و الدكتاتورية و العشائرية ثم الطائفية المريضة الزاعقة!!.. لن أتحدث طويلا عن تفاصيل الوضع العراقي بعد سلسلة الإنقلابات لكوني حاليا في إجازة سفر و لكنني حرصت على كتابة هذا المقال لأعزي الشعب العراقي و العائلة الهاشمية الكريمة بذكرى الشهداء الذين سقطوا في ذلك اليوم الأسود و في طليعتهم المغفور له الملك فيصل الثاني بن غازي بن فيصل بن الحسين، و الأمير عبد الآله بن علي و الشهيد نوري السعيد و كل الشهداء الذين سطوا ضحية الغدر و التخلف و الهمجية، و لعل العزاء فيما حصل تمثل في أن تكون دماء العائلة العراقية الحاكمة بمثابة الفدائي ألأول لدماء العراقيين التي جرت من بعدهم كالأنهار... فرحمة الله على الشهداء الأبرار... و الخزي و العار للقتلة و المجرمين الذين ضيعوا العراق و شعبه....؟

داود البصري

[email protected]