البيان رقم واحد
صادر من القائد العام للقوات المسلحة الوطنية
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الشعب الكريم
بعد الاتكال على الله وبمؤازرة المخلصين من أبناء الشعب والقوات الوطنية المسلحة، أقدمنا على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصبها الاستعمار لحكم الشعب والتلاعب بمقدراته وفي سبيل المنافع الشخصية..................................

بغداد، في اليوم السادس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1377 هجرية، الموافق لليوم الرابع عشر من شهر تموز سنة 1958م.


البداية الافتراضية

يكاد ان يكون معظم العراقيين اليوم ينتمون بشكل او بآخر لجيل تموز او ما بعدها. ففي تموز من عام 1958 قارئي الكريم تغير وجه العراق جذريا من مملكة العراق تحت حكم العائلة الهاشمية الكريمة التي جاءت الى العراق قادمة من سوريا، بعد ان كان المرحوم فيصل الاول (فيصل بن الشريف حسين الهاشمي) لفترة قصيرة ملكا عليها، ونودي بجلالته ملكا على عرش العراق وبذلك تأسست دولة العراق ألحديثه في23 شهر اب من عام 1921 ودام حكمه الى ان وافاه الأجل المحتوم عام 1933
العائلة الهاشمية المباركة حكم البلاد في فترة عصيبة من تاريخ المنطقة بأكملها لا بل العالم بأسره حيث واجه العالم حربا عالمية ثانية. انتهت باندحار المانيا النازية وخريطة جديدة لدول العالم بما فيها الشرق بما فيها تقسيم فلسطين وإعلان دولة إسرائيل. اما من الناحية الأيديولوجية فقد ادى اندحار الفكر النازي العنصري الى نشوء صراع اخر. صراع فكري ذو قطبين في العالم وفي المنطقة تمخض في النهاية عن ولادة قطبين أساسيين في السياسة الدولية ما بعد الحرب يتمثلان في معسكرين قادا العالم لفترة طويلة قبل ان تنهار جمهوريات الاتحاد السوفيتي حيث نعيش اليوم في عالم العولمة والقرية الكونية الواحدة. كما ان تلك المؤسسة الملكية أسست بنيان مؤسسة الدولة العراقية الحديثة. كل هذه التغيرات أثرت في الفكر السياسي للكيانات السياسية لذا نرى ان العيد من أفكار الأحزاب القومية تجد أصولها في الفكر النازي او في الفكر الشوفيني والفاشي المبنية بالأساس على أفكار فلسفية ألمانية المصدر كانت سائدة ومقبولة آنذاك خاصة تلك الكيانات السياسية التي أسست مع نهايات الحرب العالمية الأولى مع انهيار الإمبراطورية العثمانية. اما مصطلح الاشتراكية فقد أخذت مفهومها أبعادا جديدة غير تلك التي كانت عليها أيام القومية الاشتراكية النازية فقد تحولت الى مصطلح اكثر يسارية مرتبطة بفكر الشيوعي القادم من الاتحاد السوفيتي والصين. لذا لا يمكن ان نرى تاريخ المنطقة الا بمنظار التطور السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا في تلك الفترة بعيدا عن تصوراتنا الحالية وعلومنا ومعارفنا الجديدة. ان عجلة التاريخ يجب ان يتم تحليلها من من منظار تلك اللحظة التاريخية دون مقارنة مع معطيات اليوم. هنا نرى بان الشدة التي استخدمت ابان الحربين العالميين كانت بدرجات متفاوتة مقبولة عند المجتمع الدولي كأداة حرب وصولا الى قبول استخدام القنبلة النووية في هيروشيما و ناكازاكي في حين مقارنة بتصوراتنا اليوم نرى بان من المستحيل قبول فكرة الحرب النووية او استخدام الأسلحة المحظورة دوليا كأسلحة الدمار الشامل كالتي استخدمت في مدينة حلبجة الشهيدة. نرى هنا ان هناك اختلاف في ردود فعل المجتمع الدولي حول برامج التسليح النووي لبعض دول العالم دون اخرى.


بكر صدقي قائد انقلاب 1936

مصطلح العنف:


يستخدم العنف من اجل الهيمنة لحل الأزمات والمشاكل المستعصية حلها عن طريق الحوار. تلك الأزمات التي تعصف بالإنسان فيلجئ الى استخدام القوة والشدة لمعالجتها من اجل حلها والتخلص منها. المبدأ بحد ذاته يمكن مراقبته في سلوك العديد من الحيوانات وخاصة تعامل الحصان كحيوان حيث يستخدم قائد القطيع الجديد الشدة في فرض هيمنته وسيطرته على القطيع. قائد القطيع الجديد يستخدم كل وسائل الشدة الى ان يتنحى القائد القديم وينزوي في إحدى زوايا الحظيرة حزينا منطويا على نفسه من شدة الخجل. اما نحن البشر فقد نلجأ للقوة والعنف في حل المعضلات بقتل القديم.
ان العنف المقبول يستخدم كمصطلح هنا في المجتمعات الغربية ولكنه في خاتمة المطاف عنف يستخدم فيه القوة لكم الأفواه. يعتقد الكثيرون بان الثورة التموزية ليست هي الوحيدة التي عكست التوجه للعنف وقبوله في المجتمع العراقي بل ان هناك جذور تاريخية وعوامل اخرى كثيرة تجمعت مجتمعة مكونة سلوكا عدائيا لدن أبناء العراق يتخاصمون بشدة ويتحابون بنفس الدرجة المبالغ به.
نرى ان العديد من علماء الاجتماع أمثال العلامة المرحوم د. علي الوردي يدلون بدلوهم فيوعزون أسباب تلك التغيرات في سلوك الشخصية العراقية الى وجود نوع من الصراع بين قيم البداوة والحضارة لا تزال تفعل فعلتها في تكوين شخصية الفرد العراقي العادي. رغم وجود توجهات أخر لعلماء الاجتماع تبرز أهمية ثقافة الصحراء وسكانها وانعكاس قيمهم وأعرافهم على قيم أبناء المدينة وكيف ان في واقع الأمر ان السلطة المدنية الحاكمة للمدينة قد ابعد المجرمين من المدينة ورحلوا الى الصحراء كي يكونوا بمرور الزمن قيمهم الجديدة في مجتمع البداوة في السطو والغزو وقبول القوة والشدة والعنف في غزو الاخرين من الجيران الى درجة سبي بناتهم وهدم بيوتهم وقتل رجالهم وما الى ذلك من قيم سائدة في المجتمعات البدوية الصحراوية. ان سواد تلك القيم في المجتمع يؤدي حتما الى قبول أبنائها بمبدأ العنف والشدة في التعامل ويرون استخدامها امرا طبيعيا كما حصل ويحصل الى يومنا هذا.


العنف التموزي



الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم

ان العديد من كتاب قد كتبوا مثلا عن ثورة تموز عام 1958 منهم مادحا واخر ذماما حسب انتماء وتوجه السياسي الكاتب. هناك من مدح قادتها واخرون نعتوهم بالخيانة. اما منجزات الثورة فلا يمكن فصلها عن مجمل الحركة التطورية الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت بوادرها مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة وتسارعت خطاها بعد إعلان الجمهورية صبيحة 14 من تموز عام 1958. الا ان ما خلفه فكرة تسلط الجيش على مقاليد السلطة وفرض مبدأ العنف وإلغاء المؤسسات الدستورية للبلاد ومجلسها النيابي لم يأخذ حيزا واسعا في تحليل كتابات هؤلاء المؤلفين.
ان الفكر السلطوي للمؤسسة العسكرية لا يزال متحكما على الفكر السياسي للاحزاب والكيانات السياسية الحاكمة ليس في العراق فقط بل يتجاوز حدود العراق الى العالمية.
ففي العديد من دول العالم لم تتمكن تلك المؤسسة من تحقيق أماني شعوبها بل نرى انه في العديد من تلك التجارب في سلطة العسكر على مقاليد الحكم أتت بالخراب والحروب والنزاعات على بلادهم. ان إلقاء نظرة موسعة على الخارطة السياسية للشرق اليوم يؤكد مدى صحة وواقعية هذه الصورة القاتمة لسيطرة الجيش على مقاليد الحكم مباشرة او بصورة غير مباشرة.

اليوم صدى الأمس

اللوحة السياسية العراقية اليوم تكاد تختلف تماما عما كانت عليه صبيحة يوم الثورة التموزية. لكننا نرى مخلفات مهمة تركتها تلك الأيام في التركيبة الفكرية للأحزاب العراقية خاصة تلك التي تشترك في دعواتها المتكررة الى إنشاء قوى من الميليشيات، مقاومة شعبية/ جيش الفلاني، حرس قومي، جيش شعبي، فرسان صلاح الدين وخالد بن وليد، جحافل خفيفة.....، كل ذلك لترهيب الآخرين من المعارضين باستخدام الشدة والعنف بحق هؤلاء ممن لا يحملون نفس توجه الحزب او السلطة الحاكمة او لفرض فكر الحزب مهما كانت توجهاتها، قومي،علماني، يساري، يميني، متطرف، ديني، بالقوة وباستخدام العنف. هذا النوع من التفكير أي تأسيس الميليشيات ظاهرة من ظواهر الحياة السياسية في العديد من دول المنطقة انتشرت في العراق خلال و ما بعد ثورة تموز واستمرت الى يومنا هذا. هذا الفكر الغير ديمقراطي يكاد ان يكون مهيمنا على فكر الأحزاب السياسية على الساحة العراقية اليوم كذلك. حتى اننا نرى ان الأحزاب الصغيرة وقادة التكتلات والكيانات العرقية تحاول اليوم عسكرة منتسبيها وتسليمهم أسلحة تحت ذريعة حماية الحزب وأعضاءه ومؤسساته. ان هذا المنحى الغير ديمقراطي في المجتمعات يؤدي الى عسكرة المجتمع ويغيب هيمنة وسلطة الدولة ومؤسساتها الأمنية المشروعة والسلطة القضائية والتنفيذية ليحل مكانها سلطة الجماعات المسلحة، أي المافيا كشبكات الجريمة المنظمة، من أحزاب سياسية وعشائر او حتى عائلات ومجموعات.

اللوحة السياسية الحزبية في العراق لا تزال تلونها مبدا استخدام القوة والشدة في التعامل مع الاخر باعتبار ان السلاح هي اللغة التي يجيده الاخر المعارض. اما الحوار فسيأتي بعد الصراع وكنتيجة لاستخدام الشدة. يقول المثل الكوردي quot;تعرف الركلة مكان اخصم البندقيةquot; في إشارة واضحة لاستخدام القوة في فرض الرأي على الاخرين كي يطيعوا الحاكم او المتسلط. لا ريب ان المثل البغدادي الذي يقولquot; اذا هوى وسقط الحمل تهافت سكاكين القصابين عليهquot; تعبير اخر على ان الضعيف لا يرحم في مجتمعاتنا وان تمجيد القوة والعنف هما عرفان سائدان في المجتمع وان فكرةquot;حيل بيهمquot; سائد في العرف الاجتماعي العراقي حيث تمجيد القوي المتسلط. يجب الاستدراك وذكر ان مفهوم العنف يستخدم في العديد من دول العالم وهي ليس مقصورا بالعراق وبالشعب العراقي فقط بل يتعدها الى كافة شعوب المعمورة ولكن نراه يسود في فترات تاريخية معينة ثم تزول. يبقى مفهوم الكفاح السلمي الذي خاضه على سبيل المثال المهتاما غاندي نموذجا انسانيا بديعا ومفخرة للفكر الإنساني المعاصر.
كان فكرة الثورة التموزية الأساسية معاديا لهذه المقولة وتلك التوجه فزعيم الفقراء الشهيد عبد الكريم قاسم حول الفقراء الى السد المنيع للثورة معتبرا إياهم أبنائها الحقيقيين. وربما كان التاريخ سيغير مجراه اذا كان الزعيم قد امر بتسليح المواطنين للقضاء على الانقلابين يوم انقلاب 8 من شباط من عام 1963. حيث بدا فترة من اسوء الفترات التاريخية في حياة الشعب العراقي قاده الى الحروب والنزاعات داخليا وخارجيا الى يوم نيساني احتل فيها العراق عام 2003 من قبل قوات التحالف.

الا ان الصراع الفكري المستوحاة من تلك الخريطة السياسية والتي تمثل انعكاسا مباشرا لها، تلك التي وصفتها في مقدمة مادتي هذه، قلب العراق وأهلها الى معسكرين متقابلين متصارعين هما المعسكر اليساري والمعسكر القومي أحللا كلاهما استخدام العنف والقوة في حين بقى المعسكر الديني يؤدي دوره الايجابي في توعية الناس دون الدخول بصورة مباشرة في خضم ذلك النزاع وخاصة فيما يخص استخدام القوة الا إننا يجب ان لا ننسى صراع المؤسسة الدينية الشيعية آنذاك كان بصورة خاصة مع ما كان يسمى يالمد الأحمر، الشيوعي، كان صراعا ثقافيا اكثر من ان يكون مواجهة مسلحة ودموية.
ان الصراع بين المنتمين الى تلك المعسكرين جاء بالخراب على البلد وأبنائها كما جاء بنفس تلك النتائج المأساوية على مجمل المجتمع الدولي من حروب وصراعات إقليمية ودولية ونزاعات.


الشهيد محمد باقر الصدر

معظم الصراعات الإقليمية والدولية كانت تاخذ طابعا فكريا في صراع المنتمين الى المعسكر الاشتراكي من ناحية والمعسكر الرأسمالي من ناحية اخرى. اللوحة السياسية العراقية كانت تمثلها اليسار في الحزب الشيوعي والقومي الاشتراكي في الناصريين والبعثيين اما الانتماء فقد شمل معظم ابناء النسيج السكاني العرقي والعقائدي للمجتمع العراقي. كان القوميين ينتمون الى القوميات الأساسية العراقية من عرب وكورد وتوركمان بينا توجه مسيحيي العراق الى الفكر القومي العربي القادم من سوريا وتركيا بالمقابل توجه القومين من عرب العراق الى مصر الناصرية. الخلاف بين القومين، عرب وكورد وتوركمان، وقوى اليسار مقرونة بالأداء السيئ للمؤسسة العسكرية أدى الى حوادث عنف مؤسفة في موصل وكركوك عام 1959.



الشهيد المقدم عطا خير الله

بقى ان نعلم ان طبيعة أبناء المجتمع العراقي محافظة ويعتبر التقاليد والمورث الاجتماعي والثقافي والأعراف مهما جدا في تعين انتماءه الفكري والسياسي وليس غريبا ان يتوجه الشيوعي الماركسي الى الصلاة يوم الجمعة دون ان يرى هناك أي تناقض في انتماءه الديني والفكري وحياته الروحية. لذا كان من المهم للأحزاب السياسية العراقية ان يكون لهم دوما خطا سياسيا يتماشى مع الفكر الإسلامي بل نرى ان العديد من النخب المسيحية ليس فقط في العراق (امثال ميشيل عفلق،شبلي شميل، الياس سعاده، الياس فرح، شبلي العيسمي، طارق حنا عزيز واخرون) يرفعون راية الإسلام الموشح بالعروبة في فكرهم السياسي كما حصل مع مؤسس حزب البعث حين أشهر إسلامه حسب بعض الروايات.

مجرد أمنيات مؤجلة

ان كل ما نراه اليوم في الساحة العراقية من تطورات وحوادث ترجع اصولها الى مخلفات نظام تراكمي من أعراف وتقاليد وعادات اجتماعية وعشائرية بعيدة في أعماق التاريخ والزمن تؤمن باستخدام القوة والشدة والعنف في التعامل مع الاخرين.
لكن هل كان العراق الأرضية الخصبة وأبناء الرافدين حطبها منذ ايام ابو العباس المكنى بالسفاح؟
كل تلك التراكمات التي انغرست في وجدان العراقي يكاد ان يكون عاملا موحدا للفكر العراقي المعاصر في قبوله ومطالبته باستخدام درجة من العنف في الأداء السياسي والاجتماعي وحتى التعامل اليومي بين الناس.

سيزول حتما مظاهر الشدة والعنف من الشارع العراقي بمرور الزمن. ستعود كذلك العافية تدريجيا الى مفاصل المجتمع وذلك عند زوال العنف وبدا بوادر الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي وسواد مبدا التسامح بين جميع مكونات النسيج السكاني للمجتمع العراقي الموحد. يجاريها انتعاش الحياة السياسية الديمقراطية و سواد الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وانتشار التعليم بين أبناء المجتمع.
كل ذلك كفيل بتغير حتى سلوك البشر لكني أتساءل:
أكل هذه مجرد أماني؟.............. عزيزي ايها القارئ الكريم حتى بعد مرور أكثر من أربع عقود على ذلك اليوم التموزي الدامي.

توفيق آلتونجي
السويد