ظلت طموحات إيران الإقليمية تنمو بوتيرة متصاعدة منذ أيام الشاه وتزايدت مع وصول أصحاب العمامات الدينية الذين تربعوا على سدة الحكم بعد الثورة الإسلامية ليغيروا توجه الثورة الإسلامية من ثورة إسلامية إلى ثورة شيعية. والواقع أن الحلم الإيراني بإعادة بناء الامبراطورية الفارسية لا زال هاجساً يسكن تفكير وطموح قادتها، والشواهد كثيرة على ذلك إذ سيطرت إيران على رموز فاعلين في المنطقة لتمرير أطماعها وتصدير سياساتها الساعية لفرض هيمنتها في المنطقة، وتحولت إيران إلى لاعب رئيسي في المنطقة بهدف فرض المزيد من هيمنتها وبحثاً عن خلق المزيد من التعقيدات رغم امتلاكها لكافة حلول تلك التعقيدات. فهي المستفيد الأول من الفراغ في العراق بعد تحول ميزان القوة لصالحها وتسعى جاهدة لمد نفوذها العقائدي الشيعي في طوق إقليمي كبير يمتد من اليمن جنوباً وحتى الشام شمالاً إلى جانب قيامها باحتلال جزر إمارتية حيث تسعى جاهدة لاختراق تيارات وجماعات وأحزاب في عدة دول بالمنطقة تحت الغطاء الديني لأهدافها. ورغم وجود أزمة الانتخابات التي مرت بها إيران مؤخراً، إلا أنه لا يُتوقع تغييراً للسياسة الإيرانية إذ أن هنالك أهدافاً استراتيجية وعقائدية لا تتغير بتغير الوجوه. وخلافاً للخطاب السياسي الإيراني المعلن بمناصرة الإسلام وخدمة أهدافه ومنازلة واجتثاث الصهيونية ومحاربة الشيطان الأكبر، فإن هنالك طموحات وأهداف إقليمية كامنة في ثنايا هذا الخطاب، والمؤسف أن يتحدث البعض بهذه (الانتقائية) عن منهج الإسلام، لأن ذلك المنهج يفرض عليه اتساق الفكر مع السلوك، أما اتخاذ الإسلام مجرد ساتر لتحقيق أغراض فهذا منهج لا علاقة له بالإسلام.


إن المحاولات الإيرانية الحثيثة لامتلاك السلاح النووي ما هي إلا أحد المؤشرات الهامة لبلوغ الحلم الإيراني، ورغماً عن التطمينات التي يقدمها الإيرانيون للعالم بسلمية برنامجهم، إلا أن الأمر يغلفه الكثير من عدم المصداقية للنوايا الإيرانية. والواقع أن امتلاكها للرادع النووي ودخولها النادي النووي ربما تكون مسألة وقت ليس إلا، حيث نجحت وببراعة كبيرة في إدارة (أزمة) هذا الملف من خلال توزيع الأدوار بين أجنحة قياداتها وانتهاج سياسة(حافة) الهاوية تارة والنفس الطويل مع الغرب تارة أخرى. وإزاء ذلك الطموح والمد الإيراني، فما المقابل العربي له في ظل اختلال ميزان القوة بعد إقصاء القوة العراقية من الساحة الإقليمية؟

إن السياسات العربية الخارجية ظلت سالكة في أطرها (الطوباوية) والمثالية المفرطة في محيط لا يعترف إلا بالتفوق والقوة والنفوذ وكثيراً ما تكون غير مستصحبة لعوامل التاريخ والجغرافيا التي تحتم على العرب انتهاج سياسة خارجية واقعية وقائدة في محيطهم الإقليمي، فالدول العربية بثقلها وإرثها الديني والتاريخي وبمواردها وموقعها هي دول محورية فاعلة ومؤثرة في محيطها الإقليمي والإسلامي، ولا يمكن أن أن تنكفئ على ذاتها كدول قطرية، لا سيما أن الإنكفاء والانزواء العربي قد كان له دوماً تداعيات سالبة، كما أن السياسات العربية الخارجية قد تجمدت عند مرحلة ورؤية معينة، وهي الرؤية التي تنظر للعالم وتتعامل معه وكأنه عالماً ملائكياً طاهراً تحكمه المبادئ والأخلاق، ففي الوقت الذي تنادي فيه الاستراتيجيات السياسية العالمية بالنفوذ وبالصراع، فإن العرب يتحدثون بلغة الأخلاق والقيم عن التعايش والسلام الدائم، فهذا العجز في مفاصل الدبلوماسية العربية كلها قد أحدث فراغاً أغرت الآخرين لملئه وبقي دور العالم العربي هامشياً، فإما أن يقوم العرب بأدوار ثانوية أو يقفون في صفوف المتفرجين.

ختاماً، فإن مقتضيات الواقع الإقليمي والدولي والدور المحوري للدول العربية، وتداعيات المد الإيراني في المنطقة تحتم إضفاء أطر وأدوار ومفاهيم جديدة للسياسة الخارجية العربية، فليست السياسة الخارجية مهمة نبيلة تغير أوضاع العالم، بل هي في منظور أنصار الواقعية السياسية فن لإدارة هذا العالم وتطويع هذه السياسة بما يفضي إلى حفظ وتدعيم محاور الأمن القومي العربي من كافة المهددات والأخطار في عالم ليست فيه عدوات دائمة أو صداقات دائمة بقدر ما فيه من مصالح دائمة لشعوبه.


د. خالد النويصر
كاتب ومحام ومستشار قانوني
[email protected]