أي حديث عن التخلف السياسي بعيداً عن الصراع الطبقي حول المصالح الطبقية المتعارضة أبداً، إنما هو قفزة بعيدة في الفراغ خارج التاريخ. حرصنا الشديد على الإلتصاق الدائم بسكة التاريخ لا يحول دون الإشارة إلى أن القصور الفردي، والطبقي في حالة البروليتاريا حصراً، كثيراً ما لعب دوراً رئيساً في التخلف السياسي وفي إعاقة حركة التاريخ بالتالي. الفكر السياسي البورجوازي كان فكراً تقدمياً في القرن الثامن عشر لكنه أصبح فكراً رجعياً متخلفاً وكابحاً للتطور في القرن العشرين رغم أنه ظل يعبر عن مصالح الطبقة البورجوازية في الحالتين. أما إذا انتقلنا من العام إلى الخاص فلن يفاجئنا أن نجد من يفشل في التعبير عن مصالح طبقته، أو بالمقابل من يعي أن طبقته قد غدت عبئاً على حركة التاريخ فقرر الإنتقال من طبقته إلى الطبقة التي تدفع بعربة التاريخ إلى الأمام، إلى الطبقة التي تمتلك المستقبل. إن أحداً من الموصوفين بآباء الشيوعية الكبار لم يكن أصلاً من أبناء البروليتاريا، ومع ذلك كان لهم الفضل الأول في تأهيل قاطرة البروليتاريا للإنطلاق سريعاً على سكة التاريخ بالرغم من أنها لم تنطلق كما أمّلوا نظراً للتخلف السياسي لدى طبقة البروليتاريا وهو ما سمح لطبقة البورجوازية الوضيعة بالتغلّب عليها.


قبل نصف قرن تماماً ومنذ العام 1959، حين أسقطت البورجوازية الوضيعة دولة دكتاتورية البروليتاريا في الإتحاد السوفياتي، وهو ما كانت قد توعدت به قوى الرجعية والبورجوازية الرأسمالية في العام 1918 وشنت حرباً أهلية ضروساً لتحقيق ذلك دون نجاح، منذ العام 59 تعطلت قاطرة التاريخ وقد انحرفت خارج سكتها وظل العالم، كل العالم، تبعاً لذلك في حالة جمود، لا بل تراجع فعلاً وقد استهلكت الطبقات الوسطى الحاكمة في مختلف بلدان العالم خلال ربع القرن الأخير كل ما ادّخر النظام الرأسمالي الإمبريالي من ثروات هائلة خلال القرون الثلاثة الأخيرة حتى أضحت مراكز إنتاجية رأسمالية رئيسة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بحاجة لمن ينفق عليها بعد أن كانت تنتج ثروات تغطي احتياجات ثلثي سكان المعمورة. ما كان ذلك التراجع الكبير في مسيرة البشرية ليكون لولا الضعف العام في بنية البروليتاريا العالمية بصورة عامة والسوفياتية بصورة خاصة، متمثلاً بتخلفها السياسي قبل كل شيء آخر بحيث تسنّى للطبقة الرأسمالية أن تستسلم في مؤتمر الرأسماليين الخمسة الأغنياء (G5) في رامبوييه عام 1975 للطبقة الوسطى بدل البروليتاريا كما كانت تقتضي حركة التاريخ ووفقاً لمشروع لينين (1919). ليس هناك من شك في أن العامل الرئيسي من عوامل ضعف بروليتاريا العالم هو تحصيلها الفكري الأمر الذي سمح لمغامري البورجوازية الوضيعة بأن ينفذوا إلى مراكز القيادة في هيئة أركانها فتتسلم عصابة البورجوازي الوضيع خروشتشوف قيادة الثورة الاشتراكية العالمية في العام 1954 ثم لا تلبث في العام 1959 أن تعهّر ثورة الشعب الروسي المجيدة، ثورة أكتوبر، فتركض لاهثة وراء سياسة الوفاق مع الإمبريالية تحت عنوان الوفاق الدولي.


أذكر هنا أن أحد الشيوعيين القدامى كان قد سخر مني كثيراً عندما عزوت انهيار الإتحاد السوفياتي إلى التخلف الفكري في القيادة السوفياتية بعد رحيل ستالين، إذ كانت قد سكتت على شتائم خروشتشوف الرخيصة على باني الإشتراكية الوحيد في التاريخ وأهم قادة الحركة الشيوعية، جوزيف ستالين، عام 56، ثم قبلت بطرد جميع البلاشفة من قيادة الحزب في العام 57، وقررت استبدال دولة دكتاتورية البروليتاريا بمسخ هجين اسمه quot; دولة الشعب كله quot; في العام 59، كما أعلنت رسمياً استبدال سياسة الصراع مع معسكر الإمبريالية بسياسة الوفاق معها في العام 61 !! صحيح أن مثل هذه الأفكار المتخلفة والمنحطة إنما هي من أفكار البورجوازية الوضيعة ولا علاقة لها بفكر البروليتاريا الثوري بطبيعته، لكنها في النهاية أعلنت باسم البروليتاريا من قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي، حزب لينين وستالين، دون أن تقابل باستنكار بروليتاري واسع ذي شأن. سخر مني ذلك الشيوعي القديم دون أن يقدم تفسيراً أو تعليللاً لكل تلك الأفكار البورجوازية المنحطة التي سادت في حزب لينين وستالين في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي.


الثابت أن الطبقة الوسطى هي دائماً الطبقة الوحيدة الخاملة بين كل الطبقات الإجتماعية الأخرى ؛ فهي لم تتغير ولم تتبدل عبر التاريخ باستثناء أن الرأسماليين منعوا عليها الإنتاج المادي الصغير (Minor Production) الذي كانت تقوم به طيلة عصور العبودية والإقطاع وأبقوا على أعمالها الخدمية. هي بهذا الخمول ومع ذلك استطاعت أن تستولي على سدة السلطة في كافة أقطار العالم نظراً للتخلف الفكري لدى البروليتاريا تخصيصاً وليس لدى الطبقة الرأسمالية التي انهزمت في السبعينيات أمام تحالف البروليتاريا مع الطبقة الوسطى. ولذلك قال لينين في أطروحته quot; ما العمل quot; (1902) بأن الوعي الطبقي مورّد إلى طبقة البروليتاريا من خارجها.


البشرية اليوم في مأزق تاريخي لم تواجه مثيلاً له إلا في القرون المظلمة، من القرن السادس حتى القرن العاشر، حيث لم تتعرف البشرية خلال كل تلك الفترة الطويلة على نظام اجتماعي مستقر بعد أن بدأ نظام العبودية بالانهيار بدءاً بسقوط روما عام 476 م. يتهاوى عالم اليوم على مختلف الصعد الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية والأخلاقية دون أن يتطوع أحد ما لأن ينبّهه إلى بؤس المآل وسوء المصير. يبدو جليّاً لأول وهلة أن مكر البورجوازية الوضيعة، وهو مكر عالي الحذاقة، ما زال قادراً على إقناع العامة بأن أمور العالم اليوم هي في أفضل الأحوال، وأن لا شيء خارج السيطرة، وأن الولايات المتحدة الأميركية قادرة على خدمة ديونها الفلكية وتسديدها في نهاية المطاف، وأن الإقتصاد المعرفي ينمو بوتائر متسارعة وسيكون قريباً قادراً على أن يوفر مختلف احتياجات الإنسان عبر الضغط على أزرار ألكترونية دون أن يبذل أدنى جهد فيغدو لا حاجة للعمال من ذوي الياقات الزرقاء والأيدي القذرة الذين سيتلاشون من التاريخ نهائياً لماذا ينطلي مثل هذا المكر الخبيث على البشرية وهي ترى بأم العين الطامة الكبرى تتجلى بكل وضوح في الأفق القريب؟


ليس من تفسير آخر لمثل هذا القبول العام لخداع البورجوازية الوضيعة سوى التخلف السياسي لدى طبقة البروليتاريا تخصيصاً وهي صاحبة الشأن الأول في الريادة وقيادة البشرية نحو عالم جديد تتحطم فيه كل القيود التي تكبل الإنسان وخاصة قيد الإنتاج. تعاني البروليتاريا في طول العالم وعرضه من تدهور مستمر في شروط الحياة كما في شروط العمل خلال العقود الثلاثة الأخيرة وما رافق ذلك من تناقص في أعدادها وانكماش مساحتها الإجتماعية وتراجع دورها في تقرير مصائر مجتمعاتها ؛ كل ذلك دون أن يبدر منها أي شارة احتجاج. لئن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على انحطاط في الوعي الطبقي وفي الفكر السياسي. ليس لنا هنا إلا أن نوافق على أن انحطاط الوعي الطبقي والفكر السياسي الماثل لدى بروليتاريا العالم يعود بصورة رئيسية إلى القيادات البورجوازية الوضيعة للأحزاب الشيوعية المفترض أنها أحزاب البروليتاريا ؛ هذه القيادات التي شاركت في انهيار المشروع اللينيني وهي ليست ذات مصلحة حقيقية في استعادة مجرى العمل الشيوعي لقواه الذاتية في الإندفاع. ليس لنا إلا أن نوافق على هذا لكن موافقتنا لا تعفي البروليتاريا العالمية من ذنب القصور الذاتي في الوعي الطبقي. صحيح أن عدوها الطبقي لم يعد الطبقة الرأسمالية كما كان الحال لقرنين طويلين قبل إعلان رامبوييه، وأن الطبقة الوسطى وبمساعدة رئيسية من الطبقة الرأسمالية هي التي اقتنصت السلطة التي كان يجب أن تؤول إلى البروليتاريا، وهو ما يزيد في ضلالة البروليتاريا، لكن صاحب المنزل اليقظ يتعرف على اللص الذي سرق منزله حتى وإن لم يكن يعرفه من قبل. البروليتاريا غير اليقظة تغرق اليوم في نوم عميق وتسرق الطبقة الوسطى منها السلطة دون أن تعي ودون أن تتعرف على اللص حتى الساعة !!


لدى وصول عصابة خروشتشوف إلى مركز قيادة الثورة الاشتراكية العالمية، بدت التصدعات في بنيان المشروع اللينيني تنذر بانهياره. إلا أإن تعالي أوار ثورة التحرر الوطني العالمية في ذات الوقت عوّض عن خبو لهيب الثورة الاشتراكية العالمية وضيّق على سلطات الردة السوفياتية فرصة التنكر للمشروع اللينيني والإسراع في نسفه من أساسه الأمر الذي لم يحدث إلا في العام 1991. رغم استفحال الصدوع في البنيان الاشتراكي في الستينيات فإن النظام الرأسمالي لم يستطع الإحتفاظ بحيويته إلى ما بعد العام 1975 حين أعلن على العالم شهادة وفاته في إعلان رامبوييه. ليس من قبيل المصادفة فقط، وقد ظهرت نذر الإنهيار التام للثورة الإشتراكية العالمية بصورة جليّة من جهة وأعلن من جهة أخرى أساطين الرأسمالية الإمبريالية وفاة النظام الرأسمالي، ليس من قبيل الصدفة أن قامت قيادة ثورة التحرر الوطني العالمية، بعد أن ورثها أنور السادات عن المناضل الكبير جمال عبد الناصر، بتسليم كل أدوات الثورة للولايات المتحدة الأميركية في العام 1977 بدءاً بزيارة أنور السادات للقدس. لا يمكن أن ينهار القطبان الدوليان ثم يبقى عالم التحرر الوطني على قيد الحياة وهو في نهاية الأمر قائم على أساس الصراع بين القطبين فيما بعد الحرب الكبرى.


مثلما كان العالم قبل إثني عشر قرناً تائهاً طيلة القرون المظلمة الأربعة، فهو اليوم تائه طيلة العقود الأربعة الأخيرة المظلمة. وقد لا يبالغ المرء إذا ما اعتبر العقود الأربعة الأخيرة هي أطول نسبياً من القرون المظلمة الأربعة المعروفة آخذاً في الحسبان ما اكتسبته البشرية من علوم ومعارف هائلة خلال اثني عشر قرناً تفصل بينهما. انهارت العوالم الثلاث التي قامت بقوة عقب الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من أربعة عقود ولم تتعرف البشرية طيلة هذه العقود الأربعة الطويلة على نظام إجتماعي بديل مستقر بعد أن شرعت البورجوازية الوضيعة السوفياتية بنقض المشروع اللينيني تحت حجج مختلفة منها أنه مشروع لا إنساني (!!) وتبيّن في نهاية الأمر أن المشروع الإنساني لزمرة خروشتشوف الوضيعة اقتضى، فيما اقتضى من أمور أخرى في غاية السوء، تصدير الفتيات السوفياتيات، وهن مَن جداتهن هزمن هتلر، كرقيق أبيض للعمل في الدعارة quot; الإنسانية quot; في دول الخليج العربي وفي أوروبا الغربية بعد أن كان الاتحاد السوفياتي يوصف لدى الأعداء قبل الأصدقاء بإمبراطورية الطفل ومملكة المرأة.

يزدحم العالم اليوم بالمفكرين والمحللين الاستراتيجيين وممتهني السياسة ومدّعي الماركسية ومع ذلك لم يكتشف هؤلاء من أدعياء العلم والمعرفة زيف دعاوى الطبقة الوسطى بأن نظامها القائم أساساً على ما يسمى باقتصاد المعرفة لا يطعم خبزاً، وهو المعرّف باقتصاد السوق بعد أن لم يكن هناك سوق وقد انهارت وتعطل منظمها، قانون القيمة الرأسمالية، ولم يعد نافذاً. لم يكتشفوا بعد أن نظام الطبقة الوسطى إنما هو نظام العطالة والبطالة، نظام الفقر والجوع والرذيلة الذي لا يعمل إلا في تفكيك المجتمعات مهما اختلفت درجة تطورها. إنه لمما يثير الدهشة حقاً أن تمر أربعة عقود دون أن يتعرف جمهرة المفكرين والمحللين الاستراتيجيين وأدعياء الماركسية على نظام اجتماعي مستقر يخلف النظام الرأسمالي الذي انهار في سبعينيات القرن الماضي !!


قوى التقدم التي برزت بقوة قبل الانهيارات الكبرى للعوالم الثلاثة تمثلت أولاً بالبروليتاريا العالمية وفي طليعتها البروليتاريا السوفياتية بقيادة البلاشفة وعلى رأسهم لينين ثم ستالين، وهي القوى التي أشعلت الثورة الاشتراكية العالمية التي تحدث عنها كارل ماركس وفردريك إنجلز، ثم البورجوازية الرأسمالية في العالم الثالث التي أشعلت ثورة التحرر الوطني استطراداً لانتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب الكبرى وقد جرّت خلفها البورجوازية الوضيعة ومنها الأحزاب التي أعلنت ارتباطها بمشروع لينين للثورة الاشتراكية العالمية تحت عنوان الشيوعية.


بانهيار العوالم الثلاثة تراجعت قوى البروليتاريا على مستوى العالم ففي العالم الإشتراكي قامت البورجوازية الوضيعة بسد كل مسالك الثورة فكان أن أسقطت دولة البروليتاريا السوفياتية وجمّدت أدوات الإنتاج البروليتاري لصالح الإنفاق العسكري والفلاحي بدرجة أقل كما في مشروع خروشتشوف المعروف quot; إصلاح الأراضي البكر والبور quot; فخبا لهيب الثورة الإشتراكية وانعكس ذلك بالطبع على طبقة العمال بتغريبها عن فكرها الثوري. أما في العالم الرأسمالي فكانت أزمة العام 1971 الناجمة عن انفكاك المحيط عن المراكز الرأسمالية بفعل التحرر الوطني والاستقلال وقد شكلت الضربة القاصمة للطبقة الرأسمالية كما لطبقة البروليتاريا. مؤتمر الخمسة الأغنياء (G5) الذي عقد في رامبوييه 1975 لإنقاذ النظام الرأسالي لم يتمكن إلا من إعلان الموت الرحيم للنظام الرأسمالي عن طريق عزل النقد عن السوق البضاعية وهو ما عطّل دورة الإنتاج الرأسمالي. الموت الرحيم للرأسمالية يرافقه بالطبع الموت غير الرحيم لطبقة البروليتاريا. وهكذا تحوّل عشرات ملايين العمال من طبقة البروليتاريا إلى الطبقة الوسطى الخاملة دائماً وأبداً بسبب طبيعة إنتاجها المحصور بالخدمات، وظلت بقايا البروليتاريا حيث هي تعاني من العزلة الإجتماعية.


أما في بلدان العالم الثالث فقد انعدمت الفرصة أمام البورجوازية المتطورة لتستكمل استقلالها الإقتصادي المفترض وترتب عليها إذّاك أن تستنكف من مشروعها السيادي وتتحول إلى كومبرادور وضيع يقف عملياً ضد كل الأفكار السيادية. ما يتوجب أن يستولي على الإهتمام في هذا السياق هو أن البورجوازية المتطورة سرعان ما تعرّفت على موقعها الجديد وتحولت إليه وذلك بسبب امتلاكها مصالح حقيقية تحرص على المحافظة عليها. أما البورجوازية الوضيعة المفلسة والتي لا تمتلك أية مصالح ذات وزن فإنها ترفض رفضاً قاطعاً الإعتراف بالانهيارات وبالتغيرات في العلاقات الدولية وعلاقات الإنتاج مهما كانت صادمة مثل انهيار الإتحاد السوفياتي ؛ تأبى أن تتعرّف على موقعها الجديد الذي يتحتم أن تتموضع فيه لأنه سيكون موقعاً وضيعاً ولأنها لا تمتلك مصالح حقيقية تحرص عليها كما أسلفنا. وحتى الجماعات quot; الشيوعية quot; منها التي كانت تصطف وراء البورجوازية المتطورة في مشروعها الوطني الإستقلالي وتؤكد ارتباطها الشرعي والوثيق بمشروع لينين بنفس الوقت، هذه الجماعات تأبى أن تتعرف على موقعها الجديد بالرغم من أنها فقدت كل شرعية لها بانهيار المشروع اللينيني، هذا عداك عن انهيار المشروع الوطني الاستقلالي.


نظراً للإفلاس الفكري والإجتماعي لقوى التقدم في الطبقات الموروثة من العوالم الثلاث المنهارة، سواء بالنسبة للبروليتاريا في العالمين الاشتراكي والرأسمالي، أم لطبقة البورجوازية الرأسمالية في العالم الثالث وتابعها الوضيع، البورجوازية الوضيعة ومنها أدعياء القومية وفيالق الشيوعيين، نظراً للإفلاس الفكري والإجتماعي لكل هذه الطبقات الموروثة من انهيار العوالم الثلاث، فإن عالم اليوم يعاني من أزمة لا نظير لها إلا تلك التي لفّت العالم بظلمة دامسة طيلة أربعة قرون بداية من القرن السادس الميلادي. البورجوازية الوضيعة بمختلف تشكيلاتها غير راغبة في التعرف على مستقبلها الوضيع ولذلك تصف الأزمة الماثلة بأنها أزمة النظام الرأسمالي مع أنها الأزمة الناجمة عن انهيار النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي معاً. ما كانت مثل هذه الأزمة لتكون لو ظلت الثورة الإشتراكية متعالية الأوار كما كانت بقيادة عظيم البلاشفة جوزيف ستالين. استفحلت الأزمة ليس لأن المراكز الرأسمالية تنتج ما يفيض عن حاجتها من البضاعة كما هو الحال في أزمة النظام الرأسمالي بل لأنها تنتج أقل من حاجتها ومع ذلك تقوم الولايات المتحدة الأميركية بطباعة مئات الأطنان من الدولارات التي لا يستطيع العالم استيعابها.


أي دراسة علمية لطبيعة المأزق الذي تواجهه البشرية للخروج من الأزمة الراهنة لا بد أن تأخذ في اعتبارها أهم معطىً ماثل في الأزمة الراهنة وهو أن هذه الأزمة الفريدة بخصوصيتها إنما هي انعكاس لما يمكن تسميته بتآكل أو إهتراء الطبقات المعهودة في هيكل المجتمعات الرأسمالية وما قبل الرأسمالية وما بعدها أيضاً. الطبقة الرأسمالية انهارت مع انهيار نظام الإنتاج الرأسمالي في السبعينيات ؛ ومع انهيار النظام الرأسمالي انهارت أيضاً أو تآكلت طبقة البروليتاريا فيه. أما في البلدان الإشتراكية فقد انهزمت البروليتاريا شرّ هزيمة في الثورة المضادة التي قادها سيء الذكر نيكيتا خروشتشوف بجيوش العساكر والفلاحين. البورجوازية الرأسمالية الوطنية في البلدان النامية انهارت مع انهيار ثورة التحرر الوطني في السبعينيات أيضاً. البورجوازية الوضيعة والطبقة الوسطى بصورة عامة تسلمت قيادة العالم في السبعينيات وحاولت جاهدة أن ترسي نظاماً بديلاً عن الرأسمالية والإشتراكية (الطريق الثالث) وفشلت كما أكد الرئيس الأميركي بل كلنتون عقب محادثات مغلقة استمرت ثلاثة أيام في لندن مع قادة اليسار الأوروبي، بلير وجوسبان وشرويدر في العام 99 ؛ الأزمة الماثلة اليوم بصورة مالية ومصرفية إنما هي نتيجة حتمية لافتقار الطبقة الوسطى لأي نمط من الإنتاج قادر على توفير أسباب الحياة لأي مجتمع.


ما لا مندوحة عنه في مواجهة المأزق الماثل هو التسليم بحقيقة مفصلية في علوم الإقتصاد والسياسة والتطور الإجتماعي ألا وهي أن سائر الطبقات التي أتينا على ذكرها باستثناء البروليتاريا قد انقضى عصرها تماماً (expired) ولن تظهر في تاريخ البشرية مرة أخرى مثلها مثل طبقتي السادة والعبيد أو طبقتي الإقطاعيين والأقنان وقد اندثرت جميعها. إندثارها لا يتأتى من موقف سياسي تتخذه جهة متنفذة، فاندثار الطبقات الإجتماعية لا يتحقق جرّاء مواقف سياسية مهما كان أصحابها ذوي نفوذ، بل يتم جرّاء تقادم طراز إنتاجها. الطبقات التي أكدنا اندثارها لم تعد طرائق إنتاجها ذات دور في تقدم المجتمع أو في حياته، وهي تندثر لهذا السبب تحديداً. نمط الإنتاج البروليتاري الجمعي المتحرر من الملكية الرأسمالية هو بالطبع أفضل وأرقى أنماط الإنتاج المختلفة التي مارستها البشرية عبر تاريخها الطويل ؛ ولذلك فإن استعادة البروليتاريا لحيويتها أمر لا مناص منه طالما حافظت الإنسانية على تقدمها واستمرارها في الحياة. ليس لدينا أدنى شك في أن دولة دكتاتورية البروليتاريا ستظهر قريباً في سائر أطراف الأرض لتقيم الديموقراطية الإنسانية بمعناها المطلق شرط ألا يسبق ذلك حرب نووية ترجع بتاريخ البشرية إلى نقطة الصفر، تشنها الطبقة الوسطى في كل من روسيا والولايات المتحدة انطلاقاً من مبدأ شمشون في تهديم الهيكل.


لطالما يتوقف مستقبل البشرية جمعاء على تبكير إحياء البروليتاريا على الحرب النووية المدمرة بغض النظر عن كل المزاعم المخالفة، فإن هذه الحقيقة وحدها تلقي على سائر المهتمين بمستقبل الإنسانية وبتقدم الشعوب وتطوير مجتمعاتها مسؤوليات فريدة لم يسبق أن واجهوا مثلها. ترتب عليهم الإنخراط بصورة ملحّة وعاجلة التفرغ لدراسة كل الشروط التي تساعد على إنجاز وتسريع مثل هذا الإحياء الحيوي المنشود. يبرز في هذا المساق شرطان مهمان جديران بالبحث والتطوير. أولهما قيام الشيوعيين المؤهلين بالعلوم الماركسية بتشكيل فدرالية عالمية تنظر في مختلف الطرق الكفيلة بإعادة الحياة للبروليتاريا من خلال نشر الوعي الطبقي بين فلولها وتحديد أسباب هزيمتها في الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي وأولها فقرها في العلوم الماركسية. أما الشرط الثاني فهو أن تصل الطبقة الوسطى إلى مصيرها في الإفلاس التام حين لا تعود البروليتاريا قادرة على الاستغناء عن شيء من إنتاجها لنهب الطبقة الوسطى مثلما يحدث شيء من هذا في الأزمة الماثلة في الولايات المتحدة فتضطر إذاك أن تنتقل قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى إلى طبقة البروليتاريا، من منتجي الخدمات إلى منتجي السلع.


لقد أدرك ماركس وإنجلز ولينين وستالين تعقيدات التناقض بين البروليتاريا والطبقة الوسطى وصعوبة عبوره، وثار نقاش حاد في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1950 حول الموضوع وطالبت قيادات بارزة خلال المناقشة باتخاذ إجراءات حاسمة لصالح البروليتاريا من مثل إلغاء طبقة الفلاحين لكن ستالين استمهل الحزب لبضع سنوات فقط لاتخاذ مثل ذلك القرار الخطير. بعد تلك البضع من السنوات جاءت النتيجة عكس ما كان الحزب يخطط. ألحقت الطبقة الوسطى بقيادة خروشتشوف هزيمة نكراء بالبروليتاريا وبحزبها وتم طرد جميع البلاشفة من القيادة في العام 57. ليت شيوعيي اليوم يدركون راهنية تناقض البروليتاريا مع الطبقة الوسطى وخطورته ويولونه ما يستحق من اهتمام فيكفوا عن الرطين بالاستعمار والعولمة الامبريالية وما إلى ذلك من مفردات بائدة.


فؤاد النمري

www.geocities.com/fuadnimri01