في الذكرى 22 لرحيله

بات من غير المهم أن نعرف من أطلق الرصاص على ناجي العلي. ولكن، المهم أن حنظلة لم يمت... هذه الحقيقة كانت غائبة تماماً عن أذهان من قرر اغتيال صاحب حنظلة quot;الضميرquot; رغم أنه أعلنها صراحة، وبمرارة: quot;حنظلة: هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت: إنني قد أستمر به بعد موتي.quot;*... ناجي العلي المولود حيث ولد السيد المسيح، بين الناصرة وطبرية، كان يعرف أنه مشروع شهيد مؤجل.

كان ناجي العلي ndash; quot;وما يزالquot; - يرسم المرارة والغضب، الجوع والفقر، مهازل الاستسلام والمفاوضات المتخاذلة، السلام الزائف ومسرحيات الانتخابات المحسومة سلفاً ودسائس الطاولات المستديرة، فهل كان هذا كافياً لاغتياله؟... ربما، ولكن كل تلك التسميات بتبعاتها الكارثية هي في الحقيقة من بنات أفكار صاحب القرار وصنيعته، فهل هتكت ريشة هذا الفنان النحيل عِرض البنات؟... هل هتكت ريشته عِرض مشروع التسوية وحاولت التحرش بعذرية الاستسلام؟... إذا كان quot;شر البلية ما يضحكquot; فللبلية صُناعها...

quot;في بداية وعيي السياسي كنت أظن بأني، مع نفر قليل من أصدقائي في المخيم، نستطيع تحرير الجليل. كنت ولا أزال مقتنعاً بحرب التحرير الشعبية لأنني قد وصلت مبكراً إلى الكُفر بالأنظمة وبجميع المؤسسات التابعة لها من عسكرية وسياسية وإدارية وثقافية...quot; هكذا يترجم لنا الفنان الشهيد وعيه السياسي المبكّر، وعي جعله يبتكر العديد من الشخصيات، فاطمة، الرجل الطيب، حنظلة، لتكون حاضرة على أوراقه، معلنة رفضها لمنظر الدم وابتسامات القادة وهم ينتصبون مزهُوِّينَ فوق ضحاياهم... فنان يعرف كيف تنبثق نبتة الأمل من وسط الخراب... هناك وحين كانت بيروت تشهد دمارها اليومي، خرج ناجي العلي صباحاً بعد موجة قصف عنيفة حصدت العديد من الأرواح الحالمة، وصار يتفحص الموقف، فـ: quot;وجدتُ كل البيوت مصابة من فوق ومن تحت، وبعض الجدران أضيفت إليها شبابيك جديدة... رسمت زهرة مقدمة لبنت - رمز بيروت ndash; من الفجوة التي أحدثتها القذيفة مع عبارة quot; صباح الخير يا بيروت.quot;... هذا الفنان الذي كان يرسم بكثافة علّه يلحق بكثافة المصائب المتلاطمة بتتابعها، كان يشعر بالقصور اتجاه الكثير من المواقف! فأي أحداث وصراعات وانحدارات تعاني منها هذه الأمة حين يصبح الفنان يرسم quot;كالمحموم ، حتى تمنيتُ أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى .. بعشرين يداً .. وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب...quot;

ناجي العلي الذي ما زال يعيش بيننا، والذي سالت دماءه في مثل هذا اليوم على الأسفلت اللندني قبل 22 سنة، لم يكن عسكرياً، ولم يشترك بحرب، لم يشترك بصنع قرار. وكثيراً ما كان يردد: quot;لست رجلاً عسكرياً ولم أطلق رصاصة في حياتي...quot; لم يكن سوى فنان خَبِرَ طعم الوجع، فنان يعرف أي نبتة تسقيها دموع اليتيم والمشرَّد وفي أي أرض. quot;أشعر أن وعيي شديد التشبث بالأخلاق. وأنا منحاز كلياً لأخلاق الفقراء والمحكومين، أحاول أن أنحاز لهم بعملي عبر وسائل عديدة بينها التكرار والطرق المتواصل على حديد الواقع القوي... ولأنني رسام يتحتم عليَّ أن أوجه ريشتي نحو ما أظنه بائع دماء شعبنا لعلها تتحول يوماً إلى نصل يمزق عن وجهه القناع، ويكشف مدى قبح ملامحه الحقيقية.quot;

هذا الفنان الشجاع الذي نتذكره اليوم، خلَّف وراءه أكثر من أربعة آلاف لوحة، فهل يحتاج من يمتلك أكثر من أربعة آلاف قنبلة سخرية تهتز لواحدة منها عروش الطغاة أن يطلق رصاصة!؟ أي حرب غير عادلة تلك التي نتحدث عنها؟ الحرب بين الرصاصة والريشة، هي عين الحرب التي تدور كل يوم بين الدبابات والطائرات من جهة، وبين حجارة صغيرة بيد طفل من أبناء جلدة الفنان الشهيد من جهة أخرى. quot;سنوات طويلة مرت وأنا أرسم .. شعرت خلالها أنني مررت بكل السجون العربية، وقلت quot; ماذا بعد ذلك ؟quot; كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاً عن لوحة واحدة .. فكل لوحة أشبه بنقطة ماء تحفر مجراها في الأذهان.quot; فهل كان الملف المزموم جهة القلب بين الزند والأضلاع لحظة اغتياله يحتوي على تلك اللوحة؟... هل كانت المسافة بينه وبين مبنى الجريدة تعادل مسافة السنوات ورحلة المفاوضات والمخططات بين 1948 والزمن الذي مزقه صوت الرصاص؟... مسافة قصيرة أراد القاتل أن يقطعها على من رسم وبتوقيع البسطاء من الناس يافطتهم المحتجة الساخرة بمرارة quot;من راقب الأنظمة مات هماًquot; ليستر عري المسافة الأبعد.

إلا أن الرصاصة التي وجدت لها منفذاً تحت عين ناجي العلي اليمنى، لم تخترق وجه حنظلة quot;الطفل الذي ولد وهو في العاشرة من عمره، وسيظل دائماً في العاشرة، حتى يعود، إلى وطنه، حين ذاك، سيكبر حسب قانون الطبيعة.quot; وحتى ذلك الحين سيبقى حنظلة ذلك الطفل الذي يكشف عري الأباطرة على اختلاف الأزمنة....


* المقاطع الواردة على لسان الفنان الشهيد مأخوذة من حديث صحفي منشور على موقع
http://najialali.hanaa.net/

حسين السكاف
[email protected]