&تحل الذكرى الخامسة عشرة لتولي الملك محمد السادس مسؤولية قيادة المغرب بعد وفاة العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني عام 1999. وعيد العرش، كل عام، هو مناسبة لتقويم للإنجازات، ورسم آفاق إنجازات المستقبل، في ضوء دروس تجارب الماضي. وهي، بذلك، وقفة جدية، فاعلة وديناميكية، تروم الربط بين الماضي القريب، وإنجازاته، وبين المستقبل المنظور والبعيد الذي تتأسس إنجازاتهما على مكتسبات المرحلتين، السابقة والراهنة. وفي هذا السياق، يمكن القول: إن مرحلة العهد الجديد، مرحلة جلالة الملك محمد السادس، هي مرحلة تحول نوعي متواصل، ومترابط الحلقات، في مقاربة المغرب لقضايا السياسة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان، بل هي مرحلة ثورة إصلاحية حقيقية في مختلف المجالات، وخاصة في المسألة الدستورية، والقضية الوطنية للشعب المغربي، كما على مستوى سياسات الدولة الافرقية التي عرفت نجاحات نوعية، رغم كل العراقيل التي حاول بعض خصوم الوحدة الوطنية والترابية لشعبنا وضعها على طريق مسيرة إنجازات المغرب على هذا المستوى. غير ان النتائج ناطقة بنفسها منذ قرر جلالة الملك أخذ المبادرة، بصورة مباشرة، في قيادة السياسة الخارجية المغربية على المستوى الأفريقي، من خلال زياراته، ولقاءاته المتكررة مع بعض قادة افريقيا، ومن خلال مبادراته في مجالات المساهمة في حفظ الأمن والاستقرار والشراكة متعددة الأوجه مع الدول الافريقية التي اعتبرها الملك في أكثر من خطاب، ومداخلة، محور التنمية المستقبلية، وأفق الحلول الناجعة للأزمة الاقتصادية العالمية وخاصة بالنسبة لأوروبا، رغم كل الصعوبات الحالية التي تجتازها القارة في مواجهة شروط التنمية الاقتصادية والسياسية في سياق ظرفية دولية غير مساعدة.

وبطبيعة الحال، فإن العهد الجديد قد عرف، أيضاً، تحولا على مستوى التحديات والتهديدات الإرهابية التي تواجه البلاد منذ الأحداث الإرهابية في الدار البيضاء في السادس عشر من ماي 2003، لكن سياسة الإجماع حول مسألة استقرار البلاد ومؤسساتها الدستورية، وآمن المواطنين، مكنت المغرب من المضي قدما في تضييق الخناق على التيارات الفكرية والسياسية التي تعمل على نشر فكر التطرف والإرهاب، إضافة إلى محاربة هذه الآفة، وتعقب مظاهرها، وتجسيداتها، في كل مجال، بل والدخول في عمليات استباقية ناجحة، مكنت الدولة من تفكيك خلايا إرهابية نشيطة أو نائمة، في مختلف أنحاء البلاد، وإحباط الكثير من الخطط التخريبية التي تهددها.

ويمكن الإشارة إلى بعض الإنجازات المفصلية في الحياة السياسية المغربية، في عهد الملك محمد السادس بشكل موجز بما يعطي صورة عامة على مدى التقدم الذي تم تحقيقه في تلك المجالات والآفاق التي تفتحها أمام المستقبل.&

أولا، على صعيد القضية الوطنية:

إن مبادرة الحكم الذاتي الموسع، التي اقترحها المغرب منذ عام 2007 أرضية للتفاوض، والحل السياسي للنزاع المفتعل حول الصحراء، بعدما وصل مخطط الأمم المتحدة حول الاستفتاء إلى واقع استحالة التطبيق، قد أفشلت الكثير من الخطط التي كانت ترمي إلى الدفع بالقضية إلى طريق مسدود لتبرير الحلول ذات الاتجاه الوحيد، والتي تصب الزيت على نار الأزمة التي تغذيها الشقيقة الجزائر بالأساس. ذلك انها مبادرة سياسية من الطراز الرفيع، من حيث توازنها في مراعاة مصالح سكان أقاليمنا الجنوبية باعتبارهم مواطنين مغاربة ذوي خصوصيات اعترفت بها الدولة في ديباجة الدستورالجديد من جهة، ومن حيث مراعاة الضرورة القصوى في عدم التفريط في سيادة المغرب على كامل ترابه الوطني تحت أي ظرف من الظروف، من جهة أخرى. ولعل ما ميز مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية أيضاً كونها منفتحة ومفتوحة على التفاوض في مختلف بنودها باعتبارها أرضية للحوار والتفاوض وليست عرضا نهائيا للأخذ او الرفض.

ان كل هذه العوامل جعلت العديد من الدول الأساسية في المجتمع الدولي تعتبرها مبادرة جدية، وذات مصداقية، وتندرج، بالتالي، في سياق البحث عن حل سياسي للنزاع الإقليمي المفتعل حول القضية الوطنية المغربية التي تدخل في صميم حق الشعب المغربي في استكمال وحماية وحدته الوطنية والترابية. علاوة على ان عددا من الدول الأخرى قد سحبت اعترافها بدولة الصحراء الوهمية التي سوقتها الجزائر في مختلف الساحات والمحافل الدولية، بمجرد ما تبين لها الخطأ في الانجرار وراء مناورات القيادة الجزائرية المناهضة للشعب المغربي في مسعاه للحفاظ على وحدته الوطنية والترابية.

ومن الواضح ان رفض الجزائر لهذه المبادرة البناءة، وفرض موقفها قيادة البوليساريو، قد عطل، إلى حد الآن مسلسل التفاوض من أجل التوصل إلى حل سياسي للنزاع، غير ان المغرب، التزاما منه بجوهر عناصر الحل الممكن لهذا النزاع، لم يتوان في دعوة المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته، في الضغط على الجزائر ووكلائها في تندوف للدخول مفاوضات جدية بهدف التوصل إلى الحل المقبول لدى جميع الأطراف، وليس العمل على إعادة عقارب ساعة النزاع إلى أطروحات ثبت، بالدليل القاطع، استحالة اعتمادها وقرر مجلس الأمن الدولي نبذها لفائدة الحل السياسي.&

صحيح ان القضية الوطنية قد واجهت، في بعض الأحيان، تحديات أساسية، كان يمكن أن تحدث انقلابا في الموقف الدولي لغير صالح الشعب المغربي، غير ان الصرامة المبدئية التي أبداها جلالة الملك في مواجهة مختلف التحديات التي واجهتها القضية الوطنية كانت كفيلة بتحييد عدد من التهديدات وإعادة النظر، إيجابيا، في التعاطي مع القضايا المصيرية للشعب المغربي.

ولعل أهم وأخطر تلك التحديات قد جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل ضمني في البداية، عندما دعا كريستوفر روس في تقريره إلى توسيع صلاحيات بعثة المينورسو لتجاوز مهمتها الأصلية في مراقبة وقف اطلاق النار، لتشمل مسألة حقوق الإنسان التي تندرج ضمن سيادة الدول المستقلة كالمغرب وذلك تساوقا وانسجاما مع الموقف الجزائري الهادف إلى الانتقاص من سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية. وبعد ذلك بشكل صريح وواضح عندما قدمت واشنطن مشروعا بنفس المضمون تقريبا، إلى مجموعة أصدقاء الصحراء الغربية في مجلس الأمن الدولي. وهو سلوك جعل المغرب يتصدى له بمساعدة دول صديقة حريصة على عدم انزلاق قضية الصحراء الى درك أزمة جديدة لن يتراءى، في المستقبل المنظور، أي بصيص أمل للخروج منها. وفي الحالتين معا كان دخول الملك محمد السادس بثقله في المعادلات التي أريد لها ان تسود، الدور الأبرز في دفع واشنطن إلى إعادة النظر في موقفها بما يخدم السلم في المنطقة ولا يضحي بعلاقات التعاون مع المغرب في مختلف المجالات.&

وبطبيعة فقد نجم خطر انزلاق الوضع الى ما لا تحمد عقباه عن الأمين العام للأمم المتحدة الذي عاد في تقريره الأخير أمام مجلس الأمن الدولي إلى المعزوفة إياها الرامية الى إبعاد بعثة المينورسو عن مهمتها الأساسية والزج بها في التطاول على سيادة المغرب الأمر الذي أدى، مرة أخرى، إلى تدخل الملك الذي أثار نقطة نظام حاسمة حول مستقبل دور الأمم المتحدة ذاتها في ملف الصحراء اذا ما ساير مجلس الأمن الدولي أطروحة الأمين العام التي لم تقم إلا بمحاولة إحياء أطروحة كريستوفر روس - الجزائر&

ولعل ما ميز الموقف المغربي، خلال هذه الأزمات المتتالية، الحزم في مواجهة الموقف الطاريء مع المرونة أمام كل اقتراح أو مبادرة للتجاوز وهو أسلوب نادر في العلاقات الدولية في الوقت الراهن

وسياسة الحزم المنفتح، هذه، التي اعتمدها الملك خاصة مع الدول الصديقة للمغرب قد ساهمت في إيجاد مخارج جدية وإيجابية لتلك الأزمات. بل يمكن القول إن الملك محمد السادس قد استطاع أن يميز، على مستوى العلاقات المغربية الجزائرية، ذاتها، بين مساحات الأخذ والعطاء الإيجابي في سياق العمل على بناء المغرب الكبير وتحقيق أمن واستقرار المنطقة وبين مساحة الموقف الثابت الذي لا يعرف التردد عندما يتعلق الأمر ببعض المناورات التي تستهدف مصالح المغرب الاستراتيجية وسيادته على مختلف أقاليمه الوطنية.

&

ثانيا على صعيد الحريات وحقوق الانسان

أما إنشاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان وتمكينه من الوسائل الضرورية لممارسة صلاحياته الواسعة في مجال السهر على تطبيق التشريعات المرتبطة بحقوق الإنسان والنهوض بالحريات الفردية والعامة في مختلف أقاليم المملكة، فقد لعب دورا هاما في تحقيق هذه الغاية النبيلة علاوة على كونه عاملا أساسيا من عوامل إحباط خطة الجزائر- روس الرامية إلى توسيع صلاحيات المينورسو لتشمل مسألة حقوق الإنسان، بما يشكل مساسا بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية.

وقد اثبت هذا المجلس من خلال نشاطه الحقوقي المتميز في الأقاليم الجنوبية، وعلى صعيد قضايا الهجرة، ومن خلال توصياته في مختلف مجالات العناية بحقوق الإنسان ان مبادرة إنشائه كانت في مستوى التحديات وتعكس تصورا ملكيا عميق الأبعاد ومتعددها في النظر الى مسألة حقوق الإنسان لأنه شكل، في حد ذاته، عامل اطلاق ديناميكية نوعية في المقاربة لموضوع ليس دائماً موضع إجماع في مختلف المجتمعات بما فيها تلك التي ينظر اليها باعتبارها دولا متقدمة على مستوى الحقوق والحريات الفردية والجماعية. وإذا كانت الطموحات عالية السقوف على هذا المستوى فإن ما لايمكن التغاضي عنه هو ان قطار الاصلاح والتطوير الجذري على سكته الطبيعية نحو المستقبل الأفضل في هذا المجال.

&

ثالثا المسألة الدستورية

إن رفع تحدي ما سمي بالربيع العربي لم يكن ليكون ممكنا لولا أن مسيرة الإصلاح بالبلاد قد كانت شاملة فأسقطت رهانات الكثيرين حول احتمال انزلاق المغرب إلى الفوضى، كما وقع بالنسبة لبعض المجتمعات، رغم سعي بعض القوى الحثيث في ذلك، غير ان يقظة القوى الحية الوطنية والديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني في البلاد استطاعت، في تلاحم ملموس، مع الثورة الإصلاحية للدولة تحت قيادة الملك محمد السادس إحباط تلك النوايا دون أي تفريط على مستوى التشبث بضرورة إنجاز الإصلاحات السياسية الهيكلية التي تضمن للبلاد التقدم على مختلف المستويات الأخرى انطلاقا من ان تجارب الشعوب قد أثبتت، بما لا يدع مجالا للشك، ان انسداد الأفق السياسي هو أخطر عامل يمكن أن يواجه مسيرة شعب من الشعوب إلى الأمام. وعلى هذا المستوى تلعب القضية الدستورية دورا محوريا في دعم هذا المسار التحرري أو عرقلته.&

وفي الواقع، فإن المسألة الدستورية لا تحدد قواعد اللعبة السياسية والديمقراطية في البلاد فحسب، بل إنها قاعدة انطلاق لكل الإنجازات المرتقبة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتجديد عناصر الوحدة والهوية الوطنية. وقد جاء الدستور الجديد ليكرس هذا التحول النوعي في مسيرة الاصلاح الدستوري.

لقد كان الصراع دائماً يثار حول الدستور الممنوح والدستور الذي يصدر عن مجلس تأسيسي في البلاد. وفي محاولة لتجاوز هذا الإشكال تم تشكيل لجنة موسعة من الشخصيات السياسية والقانونية والمجتمع المدني كلفت ببلورة مشروع دستور جديد للبلاد مسترشدا بخطاب التاسع من مارس الذي أعطى الخطوط العريضة وأعلى سقوف حرية اللجنة في المبادرة، وكان ان صاغت المشروع الذي سيصبح دستورا معتمدا للبلاد منذ استفتاء فاتح يوليوز 2011.

ومن الملاحظ ان الدستور قد عمق في فهم وتحديد الهوية الوطنية ومقاربتها من خلال مختلف مكوناتها وروافدها بما يجعلها هوية ديناميكية منفتحة على كل الإسهامات التي توخى تطويرها وجعلها حية ومناهضة لكل أشكال التمييز والتقوقع والانكفاء القاتلة للحياة والمغلقة لآفاق التطور والتقدم إلى الأمام.&

ان رحابة هذا المفهوم قد مكنت المغرب من القيام بقفزة نوعية على مستوى دعم وحدته الوطنية، ذلك ان مختلف مكونات وروافد الهوية وجدت نفسها في صلب هذه الهوية كما ينص على ذلك دستور البلاد وليست كما مهملا أو زوائد يمكن الاستغناء عنها في أي وقت من الأوقات بحسب اتجاهات رياح الأهواء لهؤلاء او أولئك.

ولا يضيف المرء جديدا إذا أشار إلى الحرص الملكي عند إطلاق أوراش الإصلاح السياسي والاجتماعي والهوياتي الكبرى على إدراجها ضمن منظور حداثي ديمقراطي متقدم كما هو الشأن بالإصلاحات المرتبطة بقضية المرأة في مختلف المجالات وبإصلاح منظومة القضاء والتعليم والانخراط الواعي المسؤول في معركة تعزيز الحريات وحقوق الإنسان على الأسس المتعارف عليها دوليا وضمن احترام الخصوصية الثقافية والتاريخية للشعب المغربي التي لم تكن في العمق معادية لتيار التقدم والتطور على مختلف المستويات.

وخلاصة القول: إن المغرب الذي دشن مرحلة تحول حداثي ديمقراطي متميز في عهد الملك محمد السادس قد قطع أشواطا مؤسسة للمستقبل في مسيرة سياسية إصلاحية متوازنة ودؤوبة وصامدة في وجه كل تقلبات الظرفيات والتحديات.

&