quot;إيلافquot; تفتح ملف الذاكرة المرئية في العراق، وتستجلي أسباب فقرها وقصورها
حاوره عدنان حسين أحمد من لندن: تشكّل الذاكرة الثقافية رصيداً بالغ الأهمية لأي شعب من الشعوب، فكيف اذا كان الأمر يتعلق ببلد عريق ذي حضارات متعددة وموغلة في القدم مثل العراق. ولأن الذاكرة الثقافية مفردة واسعة وعميقة الدلالة، وتضم في طياتها الذاكرة المرئية والمسموعة والمكتوبة، إلا أن استفتاء quot;إيلافquot; مكرّس للذاكرة المرئية فقط، والتي تقتصر على السينما والتلفزيون على وجه التحديد. ونتيجة للتدمير الشامل الذي تعرضت له دار الإذاعة والتلفزيون، ومؤسسة السينما والمسرح، بحيث لم يبقَ للعراق، إلا ما ندر، أية وثيقة مرئية. فلقد تلاشى الأرشيف السينمائي العراقي بشقيه الروائي والوثائقي. وعلى الرغم من أن السينما العراقية لم تأخذ حقها الطبيعي على مر الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، كما لم يحضَ السينمائيون العراقيون بأدنى اهتمام من مختلف الحكومات العراقية التي كانت منشغلة بموازناتها السياسية، وبأرشفة أنشطتها المحدودة التي لا تخرج عن إطار الذات المرَضية المتضخمة. وقبل سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد كان السينمائيون العراقيون يعلِّقون الآمال على حكومة العراق الجديد التي تمترست خلف أطاريح الديمقراطية، والتعددية السياسية، والتناوب السلمي على السلطة من دون انقلابات أو ثورات يفجرها مغامرون عسكريون مصابون بعقدتي السجادة الحمراء والموكب الرئاسي، غير أن واقع الحال يكشف، خلافاً للتمنيات المعقودة، بأن نصيب الذاكرة المرئية من الرعاية والاهتمام يكاد يكون معدوماً، بل أن بعض السينمائيين العراقيين قد بات يخشى من تحريم هذا الفن الرفيع أو اقامة الحد عليه. لقد عنَّ لـ quot;لإيلافquot; أن تثير خمسة محاور أساسية في محاولة منها لاستجلاء واقع السينما العراقية عبر تفكيك منجزها الروائي والوثائقي على قلته، ورصد حاضرها المأزوم، واستشراف مستقبلها الذي نتمنى له أن يكون مشرقاً وواعداً بحجم تمنيات العراقيين وتطلعاتهم نحو حياة حرة، آمنة، مستقرة، كريمة.

المخرج طارق هاشم: لا تزال السينما العراقية تحوم في فضاء ضبابي 1

فضاء مشتت
* على الرغم من غنى العراق وثرائه الشديدين، مادياً وبشرياً، إلا أنه يفتقر إلى الذاكرة المرئية. ما السبب في ذلك من وجهة نظرك كمخرج سينمائي؟

- أنا أعتقد أن العراقيين مثلهم مثل أي شعب آخر، لديهم مواهب وطاقات فنية وإبداعية كبيرة. خذ المثقف العراقي بشكل خاص، ستجد عنده هاجس الخلق والإبداع، ويريد أن يوّثق ما ينجزه، فكيف بالسينمائي الذي يعمل في حقل التوثيق نفسه أو الذاكرة المرئية مثلما أسميتها، ولكن هناك ما يعيق عمل المثقف العراقي دائماً، ففي سنوات الدكتاتورية كانت هنالك إشكاليات كثيرة لا يمكن الحديث عنها الآن، ولا يمكن إيجازها لأنها تحتاج إلى جلسات أخر متعددة. الذاكرة المرئية هي جزء من محاولة فنية وفكرية لا بد منها. العالم المتقدم كله يوثق ويخزّن لهذه الذاكرة التي تتراكم يوماً بعد يوم، وبما أن وسائل التخزين هي وسائل حديثة وتتطور يومياً، فليست هناك أية مشكلة تقنية في هذا الجانب، ولكن ما نعاني منه أننا لم ننجز كماً كبيراً من الأفلام الروائية أو التسجيلية. هل يُعقل أننا خلال الستين سنة الماضية كنا ننجز بمعدل فيلمين روائيين في السنة الواحدة في بلد يمتلك ثاني أكبر إحتياطي نفطي بالعالم؟ لا أحد يستطيع أن يتصور هذا الرقم الضئيل جداً قياساً بثروة العراق وطاقات مبدعيه. هناك طريقة معروفة في كتابة التاريخ الإعتيادي لأي بلد من بلدان العالم، ولكن هناك كتابة أخرى للذاكرة البصرية، والسينما لها دور كبير في هذه تدوين هذه الذاكرة المرئية. المشكلة الأساسية التي تعيق المثقف حتى الآن أنه يعيش في فضاء مشتت، ولهذا فإن الإمكانيات الموجودة عند المثقف العراقي بشكل عام، والفنان السينمائي بشكل خاص لا تزال مبعثرة، وتحتاج إلى طريقة جديدة لتنظيم هذا التبعثر، ولملمة هذه الإمكانيات المشتتة في العالم. أجد نفسي مضطراً للحديث عن ثنائية الفنان العراقي في الداخل والخارج وهذا ليس عيباً أو خطأً أو تجريحاً، فهناك فنان موجود في المنفى، وفنان آخر موجود داخل العراق. كل الفنانين سواء في الداخل أو في الخارج يمتلكون خصوصية خاصة يقابلها عدد من الإشكاليات التي تتعلق بوسائل التعبير أولاً. ومن الأشياء التي تعيق الفنان الموجود في الداخل أنه لم تكن هناك إمكانية لتشكيل مؤسسات سينمائية جديدة تدعم هذا الصنف من الثقافة في البلد، كما لم تكن هناك إمكانية لتبديل المؤسسات السينمائية الخربة بكل معنى الكلمة، لأن المؤسسات السينمائية ولفترة زمنية قريبة كانت وسيلة من وسائل الترويج للنظام الكتاتوري، والتعبئة لتوجهاته التي تصب في خدمة مشاريعه الحربية سواء داخل العراق أو ضد الدول المجاورة. فأية ذاكرة ينتجها هذا النظام؟ كانت هناك مؤسسة سينمائية، ولكنها لم تخدم العمل الفني السينمائي، وإنما بالعكس شوهتهه وجعلت منه مسخاً لا تستطيع النظر إليه. ولكن السلطة جعلت من السينمائي أشبه بالجندي الذي يجب أن يكون حاضراً في كل المعارك التي يخوضها النظام، بل أن هناك تسمية مرعبة شاعت في حينه وهي أن القطاع السينمائي جزء من المعركة. طبعاً هذه إشكالية كبيرة ترتب عليها عدم القدرة على تأسيس صناعة سينمائية أو تقاليد سينمائية حقيقية. ظل الفنان السينمائي في الداخل ليس له حول ولا قوة إلا أن يعول على عطايا النظام ومؤسساته، ولهذا بقي أسيراً لهذا المأزق الكبير لأن الفنان يحتاج إلى مساحة واسعة من الحرية حتى يتأمل ويجرب أفكاره بشكل علمي صحيح. وفيما يخص التجريب يبدو لي أن هناك فهماً خاطئاً لهذا الموضوع. نحن أصلاً ليس لدينا تجربة كبيرة في الصناعة السينمائية فمن أين يأتي التجريب. إذاً، لنتفق على أن هناك محاولات سينمائية لإنتاج عدد محدود من التجارب الفردية. التجريب يحتاج إلى تأمل، ودراسة، وتواصل، وتراكم خبرة، ووسائل حديثة، وما إلى ذلك، ولكن ما الذي ستفعله إذا لم تكن لديك وسائل تقنية حديثة تتلاءم مع روح العصر ومتطلباته؟ وهذه هي واحدة من إشكاليات الفنان الذي يعيش في الداخل. أما الفنان الموجود في الخارج فعنده مشكلات أخر. صحيح أن العمل السينمائي هو عمل فردي يبدأ بفكرة فردية، لكنه شيئاً فشيئاً يتحول إلى عمل جماعي، الكاتب يكتب القصة السينمائية، ثم يأخذها المخرج ويدرسها جيداً، ثم يعطيها لكاتب السيناريو، ثم يوزعها على الممثلين والكادر الفني لتأخذ دورها إلى التنفيذ مروراً بالعديد من القضايا التي لا يمكن التوقف عندها الآن. إذاً، فالفكرة الأولى سواء أكانت قصة أو رواية تريد أن تنقلها إلى الشاشة الكبيرة تتحول من عمل فردي بحت إلى عمل جماعي قد يحتاج أحياناً إلى آلاف مؤلفة من البشر، ولهذا فإن الفرد الواحد غير قادر على إنجاز عمل جماعي لوحده. وحتى لو توفرت بعض عناصر إنتاج الفيلم السينمائي مثل الشخصيات وكوادر التصوير والإضاءة والتصميم والديكور ولكن ثمة إشكالية أخرى تواجهه وهو أنه جزء من المؤسسة الممسوخة التي أشرنا إليها سابقاً. أما الفنان في الخارج فهو لا يمتلك هذا الوسط الجماعي من ممثلين وكوادر فنية لكنه يعتمد على مهارته وشطارته من أجل أن يحقق عملاً سينمائياً، وغالباً ماً يكون منجزه ناقصاً ومبتوراً وغير مكتمل لأكثر من سبب، ومنها أن الفنان العراقي في الخارج يعيش في عالم حر، مفتوح ينتعش فيه التنافس وبالتالي فإنهم لا يتعاطون إلا مع الأعمال ذات السوية الفنية الجيدة. في أوروبا لا يوجد فيلم يتحمل الإرتجال، أو تعطيه نسبة مئوية محددة لنجاحه بسبب مساحة التنافس العالمي التي أشرنا إليها، وما يقدم الآن هو جزء من إبتكار مؤسسات كبيرة ترعى المشاريع الفنية، وتقدم التمويل لأعمال سينمائية هي جزء من الجانب الحضاري لهذه المجتمعات، فكيف يستطيع الفنان السينمائي العراقي أن يوجد نفسه ويؤسس مشروعه الخاص ضمن كل هذه الإنجازات العظيمة التي تقدم حوله. أنا أعتقد أن هذه مهمة عسيرة وصعبة. أتذكر مرة طُرحت أكثر من فكرة لتقديم فيلم أفغاني عن أفغانستان. ويبدو لي أن هناك مؤسسات سينمائية تهتم بالجانب السياسي، بالإضافة إلى بعدها الفني والحضاري والثقافي هناك بعد آخر له علاقة بمبدأ الربح والخسارة. فالسينما فن هذا صحيح، ولكنها صناعة وتجارة أيضاً من وجهة نظر المؤسسات الكبيرة التي تصنع أفلاماً، وتروج لها لكي تستفيد منها مادياً. لذلك هناك آليات لدعم أو إنتاج أعمال سينمائية من هذا النوع لأن القائمين عليها يفكرون بالتسويق والمشاهدين وأهمية الفكرة المطروحة في الفيلم. وهذه المؤسسات لا تدعم أحداً ما لم تسترد هذا الدعم بطريقة أو بأخرى. من هنا أقول على السينمائي العراقي أن يعثرعلى هذه الأواصر التي تربط بينه وبين هذه المؤسسات الداعمة في عالم شديد التنافس، كما يتوجب على هذه المؤسسات الداعمة أن تستوعب السينمائي وتحتويه في كل مكان. وفيما يتعلق بالسينمائي العراقي فإن هناك نوع من الكسل إلى حد ما، وهناك نوع من الإستسلام إلى هذا الواقع الذي يضر بالعمل السينمائي. أنا تحدثت عن هذه الإشكاليات في العمل السينمائي وعلينا أن نتجاوزها من أجل خلق الذاكرة البصرية التي تتحدث عنها.

البزّة العسكرية
* أيستطيع المخرجون العراقيون المقيمون في الداخل أو الموزعون في المنافي العالمية أن يصنعوا ذاكرة مرئية؟ وهل وضعنا بعض الأسس الصحيحة لهذه الذاكرة المرئية التي بلغت بالكادquot;105quot; أفلام روائية فقط، ونحو quot;500quot; فيلم من الأفلام الوثائقية الناجحة فنياً؟

- السؤال يتضمن إجابة فيها بعض المرارة quot;بلغت بالكاد! ـ 105أفلام روائيةquot; مقارنة بتأريخ السينما منذ نشأتها أكثر من قرن. وصلت فيها السينما في العالم حتى في البلدان الفقيرة إنتاجاً سينمائياً غزيراً لأفلام إستثمرت التطور التكنلوجي في أقصى أشكاله. لم نستطيع ولظروف ذاتية وموضوعية من تأسيستقاليد سينمائية. ولاتزال كل المحاولا ت والتجارب فردية ولاتعتمد على مستوى عالٍ من الأحتراف. ولا نحتاج الى عناء كبير لنتعرف على الهوة بين السينما العراقية وبين إنجازات السينمائيين في أماكن أخرى من هذا العالم في المستوى التقني وفي مستوى السرد البصري. فلقد تنوعت التجارب وأخذت تتشكل أنواع متعددة من الأساليب في بنية الفلم فكرياً وبصرياً. أما السينما العراقية وعلينا أن نعترف بذلك لا تزال تحوم في فضاء ضبابي غير واضح الملامح بتجارب متواضعة ومشاريع غير مكتملة، ولم يتحرر السينمائي العراقي من الأحساس بحاجته المستمرة للرعاية التي تبديها المؤسسة السياسية والحكومية في دعم مشروعه الفني. إذ لم يجرؤ إلا القليل جداً من السينمائيين العراقيين بالبحث عن مصادر تمويل مستقلة، تنتزعه من سلطة تلك المؤسسات السياسية التي ساهمت ولعدة عقود في توظيف الفلم السينمائي وفي تسويق عناوينها السياسية بحجة الدور الوطني الذي يفرض على الثقافة والفن بشكل خاص في ترسيخ مفاهيم المؤسسة السياسية للأنظمة الحاكمة. ولذا إنجزت أفلام يشرف عليها رجال يلبسون البزة العسكرية، ولديهم الأوامر المطلقة في شطب وتغيير وتلفيق سيناريو خالٍ من السرد الدرامي المتقن، وخالٍ من البحث والأجتهاد الفردي للمخرج المبدع. وأصبح دور هذا المخرج هو كدور الجندي في المعركة. من أجل تأسيس ذاكرة بصرية غير مشوهة يجب أن تتحقق الشروط التالية:
1ـ تشكيل إتحاد السينمائيين العراقيين المستقل.
2ـ تأسيس معهد سينمائي يديره كادر تدريسي يتمتع بخبرة سينمائية عالية من أجل رفد الحركة السينمائية العراقية المحتملة بأجيال جديدة من السينمائيين.
3ـ التوجه الى مؤسسات وشركات إقتصادية مستقلة في دعم المشاريع السينمائية.
4ـ تشكيل تجمعات سينمائية تعمل تحت خيمة البحث عن أساليب جديدة في الفنون البصرية.
5ـ متابعة الأنجازات السينمائية العالمية بكل تنوعاتها، والتعرف على التقنيات الحديثة التي منحت الفلم السينمائي في العالم قوة السحر في القيمة البصرية.
6ـ إنتزاع حصة من عائدات النفط العراقي، وتأسيس صندوق يشرف عليه السينمائيون العراقيون أنفسهم، وخصوصا أننا في بلد يعتبر من البلدان الغنية نفطيا.
7ـ فصل السينما عن مؤسسة السينما والمسرح والتي تعتبر جزءاً من وزارة الثقافة التي تديرها وتمولها الحكومات العراقية وبالتالي سيعرض الأنتاج السينمائي الى تهديد دائم بتحويله وسيلة إعلامية حكومية.

8ـ عقد مهرجان سينمائي دولي في بغداد.

الطقس شبه المقدّس
* فيما يتعلق بـ quot; الذاكرة البصرية quot; كان غودار يقول quot; إذا كانت السينما هي الذاكرة فالتلفزيون هو النسيان quot; كيف تتعاطى مع التلفزيون، ألا يوجد عمل تلفزيوني ممكن أن يصمد مدة عشر سنوات أو أكثر؟ وهل كل ما يُصْنَع للتلفاز يُهمل ويُلقى به في سلة المهملات؟

- دعني أبداً من القول بأن التلفزيون يقع خارج إطار الطقس الجماعي، وربما يعتبر جهازاً رخيصاً. فحينما تدخل قاعة سينما، وفي منتصف العرض تنهض لكي تغادر هذه القاعة سينظر إليك الجمهور نظرة إزدراء لأنك كسرت هذا الطقس شبه المقدّس، ولكن حينما تجلس لكي تشاهد التلفزيون يمكنك أن تطفئه أو تهمله في أي وقت، فالتلفزيون ليس له طقوس مقدسة، وأحياناً ربما يعرض التلفزيون فيلماً مهماً يستحق المشاهدة، لكنك تمسك بالريموت كونترول وتغيّر القنوات بحسب مزاجك الذي لا ينتبه إلى افلام أو برامج قد تكون مهمة فعلاً، ولكن لكون مسألة مشاهدة التلفزيون مزاجية فأنت قد تترك فيلماً جيداً وتذهب لمشاهدة البورنو أو برنامجاً رياضياً أو طبياً وما إلى ذلك، الأمر الذي جعل من التلفزيون وسيلة رخيصة. وبالمقابل تستطيع أن تجعل من التلفزيون جهازاً مهماً عندما تقرر مشاهدة الأشياء الإبداعية والجميلة والمفيدة. ولا يمكننا أن نتغافل عن نظرة المبدع المتعالية على الاشياء الرخيصة. هذه الأشياء برمتها هي التي جعلت من التلفزيون وسيلة بلا ذاكرة. هناك محطات كثيرة تقدم أفلاماً جيدة، لكنها تعتمد على الدعاية في قطع الفيلم ولأسباب مادية، أي أنها تسخّر الفيلم من أجل الحصول على الأرباح المتأتية من الإعلانات التي تؤرق المشاهد في أثناء مشاهدتة للأفلام أو المسلسلات الجيدة. وهناك من لا يوافق على عرض هذه الدعايات التي تفسد متعة مشاهدة الفيلم، غير أن القنوات تفكر بالربح المادي أولاً، ولا تعير شأنا لتذمرات المشاهد أو إعتراضاته التي تذهب مع أدراج الرياح. وهذا لا يعني أن السينما لا تفكر بالربح المادي، كلا فهي في جزء كبير منها صناعة وتجارة، ولكن السينما لا تخرّب على الإطلاق. أنا أومن بأن أي إنجاز فني للبشرية ينطوي على التنوع والثراء، ولكن عندما يعطي قيمة للعمل الفني مثل السينما وأجوائها وطقوسها، وأنا أنحاز للسينما في هذا الجانب، ولا أدافع عن التلفزيون، كما أنحاز لهذه الشريحة من الفنانين الذين يكرسون أعمارهم للفن الحقيقي، وهذه الشريحة ليست قليلة، بل هم سلالة يتوارثون الإبداع من جيل إلى آخر. إن لكل شيء مكانة الحقيقي، وإلا لما كانت هناك حاجة للمتاحف، فالتحف والنوادر الفنية لا بد أن يحتضها مكان مثل quot;اللوفرquot; ولا يمكن لك أن تضع الأشياء القيّمة في مكان رخيص لا قيمة إعتبارية له. هناك أعمال تقدّم في التلفزيون، ولكن هذه الأعمال لا تغري الفنان السينمائي لأنها مسطحة، وسريعة الزوال. فعندما تشاهد فيلماً في السينما تقول إن هذا الفيلم هو ليس نفس الفيلم الذي رأيته على الشاشة الصغيرة لأن الجانب التقني الفيزيائي أو الكيميائي أو الذي له علاقة بالتكوين يخربه التلفزيون بحيث يجعله مسطحاً، وكأن الشخصية جالسة بالقرب منك، بينما يميل الإنسان بطبيعته إلى مشاهدة الأعمال السينمائية أجواء وطقوس محددة لا توفرها إلا السينما المحتفية بعتمتها.

استثمار التلفاز وتطويعه
* كيف نشيع ظاهرة الفيلم الوثائقي إذاً، أليس التلفاز من وجهة نظرك مجاله الحيوي. هناك المئات من الأفلام الوثائقية التي لا تحتملها صالات السينما، ألا يمكن إستيعابها من خلال الشاشة الفضية؟
- أنا لم أنكر فضل التلفاز، لأن هذا الجهاز ممكن إستثماره، وتطويعه. وطبعا أنا لا أستطيع، ولا يمكن لي أن أقارن بين الـ quot;أي. آر.تيquot; الألمانية والفرنسيةوأية قناة تلفازية أخرى. هناك قنوات متخصصة مثل الـ quot;أم تي فيquot; التي تقدم موسيقى فقط. هذه القنوات المهمة تغريني، وتغري أي مخرج مبدع وسأكون ممتناً لو أنها قدمت أي فيلم من أفلامي التسجيلية. أنا بالمناسبة لا أسعى إلى الوصول إلى هذه القنوات المهمة جداً، لأنني بالأساس ليس لدي مثل هذا الحلم أو هذا الوهم بحيث أتمنى العالم كله سوف يشاهد أفلامي الوثائقية أو الروائية، لأنني مؤمن بأن لكل شريحة إجتماعية، أو لكل مجموعة بشرية في العالم لديها إهتمام خاص، ولديها قنوات إعلامية خاصة ومفضلة. وهذا التنوع الموجود في التلفزيون هو مثل التنوع الموجود في السينما. فأحياناً تذهب إلى السينما لكي تشاهد فيلماً كوميدياً أو درامياً أو أكشن. والتلفاز يقدم نفس الشيء، ولكن إذا أستعمل التلفاز بشكل صحيح ربما يغريني وأقدم فيه فيلمي التسجيلي أو الروائي، ولكن على المخرجين ألا يتوهموا بأن أفلامهم ستصل مئة بالمئة إلى الجمهور سواء عن طريق السينما أو التلفزيون.

صنّاع الثقافة
* في السابق كانت الدكتاتورية هي الشمّاعة التي نعلّق عليها أخطاءنا. ما هو عذرنا كسينمائيين في ظل العراق الجديد؟ وهل هناك بصيص أمل في التأسيس الجدي لذاكرة بصرية عراقية ترضي الجميع؟
- الذاكرة البصرية العراقية لن تحفر عميقاً في تأريخ السينما العالمية على المدى القريب، وهذه ليست نظرة تشاؤمية، بل هي واقعية قبل كل شئ. المشاكل السياسية والإجتماعية والأقتصادية التي لحقت بالعراق والتي إمتدت أكثر بكثير من ذلك الرقم الذي يردده السياسيون 35 سنة. . . ونشهد حالياً الفوضى وبأقسى حالاتها في تعميق الكراهية وتفوق الشر على فعل الخير، وتأسيس ثقافة جديدة هي ثقافة القوة والعنف التي زرعها كل الغرباء منهم من ينادي بالديمقراطية التي إقترنت بعنجهية quot;الدبابة قراطيةquot;، ومنهم من يسعى الى تغليف الأنسان العراقي بطقوس دينية لا تخدمه في زمننا المعاصر، بل تجعله أسيراً لأوهام مرعبة وتزرع فيه كراهية لهذه الحياة الفانية.
تأريخ الشعوب وحضارتها لا يدوِّنه السياسيون، بل صناع الثقافة وهم من يتحمل مسؤولية بناء الحياة بشكل أفضل، وهم من يزرع كل ما له علاقة بالجمال وببهجة الحياة التي نحيا، بنظرة تأملية يحكمها العقل بدحر ثقافة العنف وعنجهية القوة المطلقة في عصر الفوضى الخلاقة التي يروج لها أولئك الذين جعلوا من الأنسان سلعة رخيصة وكائن ليس له قيمة. وجعلته يؤمن بأبدية تلك السلطة المطلقة التي يقودها تحالف القوى الشريرة والذين يتحكمون بمصيره.
أزمة الذاكرة البصرية في السينما العراقية ربما ستبدد لو أننا نعيش في بلد مستقر أو في مرحلة بناء دولة طبيعية كباقي الدول، حينها ستبدأ الثقافة بشكل عام وبتنوعاتها، والسينما بشكل خاص في إيجاد الطريق الصحيح في التشكل والتطور، ولكني أعتقد أن هذا المشروع مؤجل على مستوى الدولة كذلك يوجد شعور بالأحباط من قبل السينمائيين العراقيين أنفسهم. إذ هجر الكثير منهم الوطن لأنقاذ إنفسهم من رعب الموت والتصفية الجسدية على الهوية. وتحولت دور السينما العراقية الى مبولة لعصابات القتل، وأهداف سهلة لدبابات حافظي الأمن المفقود، وحمل الموسيقيين على إخفاء آلاتهم الموسيقية، وفرض على الفنون التشكيلية بتجسيد فضاءات لأحداث وشخصيات دينية ليس لها علاقة بالزمن الحديث.
حتى في العديد من الدول المستقرة والسينما في الدول الأوروبية تحديداً بدأت تنحسر يوما بعد يوم، وبدأ إنتاجها السينمائي يقل بفعل الأحتكار الذي حققته السينما الهوليوودية في إستقطاب العديد من صانعي السينما وعلى تنوع جنسياتهم بانجاز أفلام تصل تكلفتها الأنتاجية كتكلفة إختراق الفضاء. فكيف في بلد لم يتأسس بعد ولا يزال يتمزق في كل ساعة؟