في الذكرى العشرين لرحيل خالد الجادر علم من أعلام الثقافة العراقية
2 ـ 2
ليس هناك أي شك في أن الجادر كان عَلَما من أعلام الثقافة العراقية لم يأخذ دوره الذي يتناسب مع ما يتمتع به من إمكانيات كما إنه لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه حتى الآن، وإذا ما تم التضييق على دوره والحد منه بسبب أنظمة القهر والطغيان التي سادت معظم التاريخ الحديث للعراق فإنه بقي مُتجاهَلا رغم ما يفترض وما يُدّعى من أن أزمنة القهر قد انصرمت وولت، فلم تقم حركة سياسية أو سلطة ما برد بعض الاعتبار له بشكل ما. كانت الهجرة القسرية هي أسلوبه في الاحتجاج فقد أشّرت توقيتاتها إلى الانعطافاتِ المأساوية في تاريخ العراق، فالهجرة الأولى كانت في أعقاب انقلاب الثامن من شباط الدموي الذي انتهى به الى معتقل خلف السدة وقد أدمي ضربا من قبل بعض أفراد الحرس القومي يشاركه الزنزانة نخبة من خيرة العقول العراقية، كانت هجرته القسرية الثانية في العام 1980 التي شهدت المزيد من تدهور الأوضاع في العراق والتي تُوّجت بالحرب العراقية الإيرانية التي كانت معلما في تاريخ الخراب العراقي. وقد روى الجادر لي حين كنا في المرسم الحر إنه غادر العراق في الخمسينات قبيل ثورة تموز لفترة قصيرة تهربا من رسم بورتريه للملك.
أما ما كتب عن ا لجادر فلم يكن سوى مجهود فردي نبيل يتضمن قسمٌ منه العرفان بالجميل والقسم الآخر كتب مدفوعا بالمسئولية الادبية امام ضرورة التوثيق لهذا العَلم الثقافي الذي لم يحظ بما يستحق من الاهتمام، إلا ان هذا الجهد هو للأسف جهد مشتت، على أن مهمة جمع المقالات التي كتبت عنه ربما ستكون عملا ممتازا قادرا على أن يحيط ببعضٍ مما في شخصية الجادر من فرادة وجدية وتكريس، فهو من النادرين الذين جمعوا بشكل وثيق ومترابط بين الثقافة بمعناها العام والشامل والفن والموقف في وحدة لا انفصام لعراها.
لم يكن الجادر يجامل أو يهادن على موقفه رغم أن من الثابت حسب أغلب الكتابات عنه (وهي نادرة في كل الأحوال) إنه لم يعمل في أي حزب سياسي ولكنه لم يكن يوما بدون موقف واضح فدفع بذلك ثمنا ليس بالهين فقد أقصي بعد اعتقاله بعيد الثامن من شباط من عمادة أكاديمية الفنون الجميلة التي تسنّمها بعد ثورة 14 تموز والتي كما سمعت منه إنه كان أحد مؤسسيها، بعدها اكره على أن يقضي في الغربة بعيدا عن الوطن وقتا أكثر مما في وطنه أو انه شغل حين عودته للوطن مركزا دون ما يستحقه بكثير.
لا شك إننا طلابه في المرسم الحر في كلية الآداب كنا فرحين به وسعيدين بهذه الفرصة النادرة، وكان هو بنفس القدر فخورا بنا، فقد عبر أكثر من مرة عن شعوره بالرضا قائلا إن المستوى الذي وصلنا إليه يساوي المستوى الذي وصل إليه زملاؤنا في أكاديمية الفنون الجميلة، لكني حين أمعن التفكير أجد أن ما يمكن اعتباره حظا سعيدا بالنسبة لنا نحن الدارسين على يده، ربما لم يكن كذلك بالنسبة له، فهو لم يشغل حينذاك المركز الذي يستحقه والذي يتناسب مع قدراته الفذة .
كان من ضمن ما روى في المرسم الحر في كلية الآداب حينذاك كيف انه اعتقل وضرب بعد انقلاب الثامن من شباط وكيف أن خزانة عمادة الكلية التي كانت تحتوي على العشرات من الكتب الفنية القيمة قد حطمت وكيف أن الكتب قد أحرقت وأشار إلى أنه اُودع السجن وكان معه في غرفة صغيرة أكثر من عشرة من خيرة أساتذة الجامعة كانوا يُضربون حتى يُدمون وكان معه في نفس غرفة المعتقل الراحل الدكتور عبد الجبار عبد الله والدكتور الراحل مهدي المخزومي وآخرون.
و مقارنة بفناني العراق الآخرين من الذين لا يتفوقون عليه فنيا وفكريا مثل جواد سليم وفائق حسن بل وحتى مقارنة بفنانين مثل الدروبي فإن الجادر لم يحظ باهتمام نقدي أو دراسة مكثفة، كما لم يُصر إلى تحليل جاد وموسع لأعماله الزيتية والتخطيطية.
حتى الآن لم تقم أية حكومة عراقية بإطلاق اسماء فناني العراق الكبار ومثقفيه على معالمها الحضارية أو شوارعها أو ساحاتها فلم نسمع أو نقرأ أن هذه الساحة أو ذاك الشارع يحمل إسم خالد الجادر أو جواد سليم.. الخ، فما الذي سوف يقوله بهذا الخصوص المتحمسون الذين يرون أن كل الشرور قد زالت بسقوط الديكتاتوريات وزوال الأنظمة العسكرية؟ هل إن اطلاق اسم احد من أعلام العراق الثقافية هو مهمة صعبة مرتبطة بما لا أدري من الصعوبات المالية والسياسية التي يجري تعدادها كلما جاء ذكر الاستحقاقات؟ وهل جرت مرة مناقشة هذه الفكرة في البرلمان العراقي؟ وهل أن حزبا ما يدعي الدفاع عن المثقفين ناهيك عن تمثيلهم قد قدم مبادرة بهذا الخصوص في الوقت الذي تحمل شوارع بغداد والمدن العراقية وساحاتها أسماء لا معنى لها فارغة من المعنى مثل quot; النهضة quot; وquot; الكفاح quot; وquot; النضال quot;.. الخ أو أسماء شخصيات ثانوية لا دور تنويري لها البتة؟
يبدو من حيث الجوهر أن مواقف جميع الحكومات العراقية لم يتغير من الثقافة ورموزها.
قدرة الجادر على تحليل العمل الفني
الجادر: تخطيط رقم واحد
إذا ما كان بعض فناني العراق البارزين مثل فائق حسن يتمتعون بمهارة تقنية ولكن ليس لديهم ما يوازيها من المعرفة النظرية والنقدية والتحليلية فإن الجادر امتلك قدرة تحليلية ونقدية استطاع، تأسيسا عليها، من أن يشير إلى طرق الخروج بالعمل الفني من اشكالياته ودفعه إلى الأمام. لعله من الأفضل مثلا رؤية فائق حسن يعمل والتعرف على اسرار تقينات الزيت من خلال مراقبته إثناء علمه لأنه لا يمتلك قدرة لغوية تمكنه من تحليل العمل كما انه لا يمتلك ثقافة عامة، إلا أن الجادر يمتلك كلا الخاصتين: القدرة على اعطاء مثال تطبيقي بمراقبة طريقته في العمل أو الاستماع إلى طرحه اللغوي لمزايا عمل وعيوبه والتحليل الذي غالبا ما يلجأ اليه اثناء التقييم، هاتان المهارتان اللتان يتوفر عليهما الجادر تشتركان في تكوين وحدة تعليمية مجسمة قادرة على الإحاطة بأسرار العمل الفني.
عدا ذلك فإن لدى الجادر معرفة بالعديد من اللغات مثل الانكليزية والفرنسية وسّعت أفقه المعرفي والنقدي وهو مطلع جيد على الموسيقى والبالية وقد رسم موتيفات عن الباليه تذكر بأعمال ديغا، ولعل زملائي في المرسم الحر يذكرون كيف إنه جلب إلى المرسم جهاز الغرامفون والعشرات من الاسطوانات وكان يرى إن الاستماع إلى الموسيقي يعمق اهتمام الفنان التشكيلي بعمله، وعلى يده تعرفنا، زملائي وأنا، على سمفونية ريميسكي كورساكوف شهرزاد التي كنا نكثر من الاستماع اليها اثناء العمل، وحين ابدينا اعجابنا بكمانها المنفرد ومحاكاتها للروح الشرقية رأى الجادر إنها سمفونية بسيطة واننا سنغير رأينا إلى ما هو اعمق بعد أن نتعرف على الموسيقى الكلاسيكية بشكل اوسع وخصوصا اعمال بتهوفن، تشايكوفسكي، موتزارت، باخ، فرانز ليست وآخرين وكانت توقعاته في محلها.
هذه المعرفة الواسعة منصهرة في وحدة فكرية جعلت الكثير من اعماله تغادر السطح إلى ما هو اعمق كما سنرى، كما تعكس لوحاته عمقا ثقافيا وروحيا. الوحدة الفكرية هذه مبنية على تعدد أوجه ثقافة الجادر من جهة وقدرته، من جهة اخرى، على دمجها معا وتوظيفها في كل موحد يسم اعماله وقدرته النقدية وملامح شخصيته الجذابة على حد سواء.
لا أزال وبفضل النموذج الذي قدمه أمام ناظري حريصا في الدروس التي أقدمها للرسم بالالوان المائية والاكريلك على تخصيص نصف الساعة الأخير من كورس الرسم لتحليل اعمال الدارسين من الناحية اللونية والتكوينية مع إشارات إلى تاريخ تطور الأساليب الفنية حتى بات ذلك تقليدا يطالب به الدارسون أنفسهم.
فالعمل الفني يتطور حين ينصهر في الفنان جانبان: المهارة والقدرة النقدية، وهذه الأخيرة قد لا تكون بالضرورة لدى الفنان مقالا مكتوبا او كلاما منطوقا ولكنها من الممكن، بل من الضروري، أن تكون فعلا نقديا يصار إلى تنفيذه على القماش او خامات العمل الفني الاخرى وآلية معتمدة للخروج بالعمل الفني من مرحلة سابقة تم تجاوزها إلى عمل آخر يحمل دائما ما هو جديد.
الجادر كان عدا ذلك مطلعا على تاريخ الفن بشكل كبير وشامل، ورغم إن شهادة الدكتوراه التي حصل عليها كانت عن تاريخ الفن الإسلامي إلا أن إطلاعه على تطور الفن التشكيلي العالمي والاوربي بشكل خاص كان واسعا ويمكّنه من تقديم سلاح نظري يدعم القدرة التشكيلية وقدرته التدريسية التطبيقي منها والعملي.
الأعمال الزيتية والتخطيطات
تخطيطات الجادر تمثل أعمالا فريدة من حيث الأسلوب. لم تكن تخطيطاته دائما تحضيرا للوحة زيتية أو عملٍ كبير بل كانت اعمالا فنية متكاملة قائمة بذاتها.
بشكل عام يمكن تقسيم تخطيطاته إلى نوعين:
الأول: الأعمال التي نفذت بالخط الخارجي والتي تكون خالية من التفاصيل والظلال. هذا الأسلوب من التخطيط معروف وسائد في فن التخطيط في القرن العشرين وخصوصا لدى بيكاسو وماتيس والذي يعتمد الخط الخارجي. يعكس هذا الفن مهارة فالعمل ينجز مرة واحدة ويتجنب الفنان إجراء أية تعديلات عليه.
اما الاسلوب الثاني الذي يسم اغلب أعمال التخطيطات لدى الجادر فهو العمل بالحبر والذي يتضمن الكثير من التفاصيل والظل وانصاف الظلال (نصف تون).
حسب ما رواه الجادر فانه، لتحقيق بعض أعماله من هذا النوع، يستعمل قطعة خشب من صناديق التفاح المستورد (حينذاك من التفاح اللبناني الذي يوضع في صناديق صغيرة)، كان الخشب المقصود أبيض اسفنجيا يمتص الحبر جزئيا. يقوم الجادر بأخذ قطعة من هذا الخشب بحجم القلم تقريبا ثم يقطع الخشبة بشكل مائل مشابه لقصبة الخط العربي وحين يغمس الخشبة في الحبر يستعمل جزءها المدبب المشبع بالحبر السائل لملئ المناطق الداكنة طالما أن الحبر لا يزال كثيفا وثقيلا، ثم ما يلبث أن يستعمل جزء الخشبة العريض بعد ان لا يبقى الكثير من الحبر السائل فيه وانما بقية من حبر شبه جاف وبواسطة سحبات خفيفة لتحقيق النصف تون خصوصا على الورق المحبب حيث يعلق الحبر شبه الجاف بالأجزاء البارزة من الورق المحبب فيما تبقى الأجزاء العميقة بيضاء كما نلاحظ في التخطيط رقم واحد.
و كما ذكرنا في ما تقدم من هذا الموضوع من أن الجادر يزاوج في بناءه للتكوين بين الاشكال المبررة واقعيا (الجدران، البيوت، الشبابيك، الأبواب..إلخ) وبين ما هو مبرر جماليا أو تجريديا فيعمد إلى رسم اشكال مجردة لا معني لها الا تشكيليا، حين يقول: يجب أن يكون هنا شكل ما لا ادري ما هو.
هذا العمل التخطيطي والكثير من الاعمال الزيتية تعكس هذا المثال، لاحظ عزيزي القارئ الكتلة المقوسة الى اليمين، بهذا يؤكد الجادر ما يعتمده فكريا في تطوير أسلوبه في أن الواقع هو نقطة الانطلاق دون أن يكون على الرسام أن يكون مذعنا لكل ما يقدمه الواقع له.
أعماله الزيتية
ينقل الأستاذ فراس عبد المجيد في موضوعٍ منشور عن الجادر قوله انه كان يرسم برومانتيكية، وقد مكنته باريس من الانتقال من الرومانتيكية إلى الواقعية، أما الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد فقد كتب عن لوحات الجادر بأنها تعبيرية.
لوحات الجادر وخصوصا التي تمثل القرى العراقية ببيوتها الطينية المتراصة إلى جانب بعضها البعض كانت في الغالب ذات سماء داكنة منذرة كما كتبت مرة في موضوع quot; الملامح العامة للفن التشكيلي العراقي في عقدي الثمانينات والتسعينات quot; تذكر المرء بأجواء القصيدة السيابية: quot; أكاد اسمع العراق يذخر الرعود quot; هذه اللوحات بقيت تحمل في طياتها ما يمكن اعتباره من بعض الوجوه جوا رومانسيا وما يمكن اعتباره تعبيريا ايضا بما يتطابق مع وجهة نظر آل سعيد، ولكن المدارس الفنية التقليدية والتي نشأت في القرون الثلاثة الاخيرة حتى اوائل القرن العشرين لم تعد قادرة على تغطية التشظي الذي باتت عليه أساليب الفنانين فردية وشخصية ينبغي أن تركز على الملامح الاسلوبية قبل كل شيء، بهذا يكون اسلوب الجادر وفنه كما هو فن الكثير من فناني النصف الثاني من القرن الماضي لا ينضوي تحت أي من المسميات التقليدية وإنما أسس أسلوبه الفردي.
بعض اعمال الجادر في التخطيط أو تلك المرسومة بالزيت هي أعمال ذات رسالة إنسانية تذكر بأعمال الفنان الفرنسي ميليه الذي تناول حياة الفلاحين وطريقة حياتهم وروابطهم الأسرية بنوع من التعاطف الانساني كان سائدا في مجال الادب أيضا كما في الروايات التي كتبها جارلس ديكنز أو فكتور هوغو، واذا ما كان موضوع اللوحات ذات الهم الانساني مطروقا فإن أسلوبها لدى الجادر معاصر تماما. يتعاطف الجادر مع ضحايا الظلم الاجتماعي ومنهم الفلاحون الذين عانوا من ظلم الاقطاع على وجه الخصوص، ربما بسبب ذلك كان يرسم الكثير من التخطيطات لصحيفة 14 تموز الناطقة باسم الجمعيات الفلاحية.
القرية العراقية
يعكس اهتمام الجادر بالقرية العراقية كموتيف اهتمامه بأن يعكس العلاقات الاجتماعية السائدة وتلاحم الأجساد البشرية والتعاطف والتضامن الدافئ الذي ربما يكون التعويض الوحيد عن الظلم الاجتماعي والاستغلال وغياب الرعاية المؤسساتية.
اذا ما حللنا عمله التخطيطي أدناه فسنجد انه يمثل ذروة تكوينية: ثلاثة أجساد صغيرة إلى اليمين ثم ثلاثة أجساد أخرى متدرجة الطول على يمين الأم (يسار المشاهد) وعلى خلاف هؤلاء الثلاثة الذين يبدو عليهم البؤس والمسكنة هناك جسد صغير لطفل صغير يبدو، على خلاف اخوته، عنيدا مشاكسا. الأم تحمل رضيعا، الشباك ودوره في إكمال التكوين. الأم هي المركز، يتحلق حولها الصغار في يوم بارد كما تتحلق أفراخ الدجاج حول الدجاجة الأم. ثمة ثمانية صغار! ولكن الام تبدو صبية يافعة، تحمل هذه الالتفاتة إشارة إلى العلاقات الاجتماعية في الريف والزواج المبكر. هنا يوجد تاريخ اجتماعي كامل، هنا يوجد دفئ انساني وشحنة عاطفية وحب للموضوع بما لا يمكن للعين أن تغفله.
الجدران الطينية للقرى والمدن والأحياء القديمة التي تغيرت واكتسبت تضاريسها بفعل الزمن وتعاقب السنين وعوادي الطقس ما ترك آثارا عليها ربما يكون هو الذي أوحى للجادر بنوع من التكنيك سنجده في أعماله التخطيطية والزيتية على حد سواء، فكما ذكرنا من استعماله للنصف تون الذي يمثل نصف الظل أو الانعكاسات الثانوية للضوء على سطوح الجدران والتي نفذها بواسطة خشبة من صناديق التفاح فإنه لتحقيق نتائج مشابه بواسطة الزيت يلجأ أيضا إلى التكنيك الجاف بواسطة سحب فرشاة كبيرة محملة بلون زيتي كثيف (غير مخفف بواسطة المذيبات) على سطح خشن رسم بالزيت وترك حتى جف، سحبة الفرشاة الأخيرة التالية التي يتم تنفيذها برفق وبدون ضغط تسمح للون الجديد بأن يعلق بحبيبات اللون السابق المخالف (فاتح على داكن والعكس) دون أن يزيله. تشبه سحبة الفرشاة هذه مسار ضوء المذنب الذي يتلاشى في سماء داكنة مخلفا حبيبات من الضوء. كان الجادر يحب العمل بفرشاة كبيرة ويترك هامشا للعفوية ولكنها تلك التي يحققها بتكنيك مدروس.
اللقاء الأخير
بعد التخرج من كلية الآداب زرت الجادر مرتين كانت هي الأخيرة قبل أن يعود إلى التغرب واسمع بخبر رحيله بعد ذلك بسنوات وأحظر اربعينيته في أوائل العام 1989، كانت الاولى في المعرض الكبير الذي أقامه على القاعة الكبرى في المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان) في بغداد في شتاء 1971. كان المعرض شاملا ولم تكن جدران القاعة كافية فتم تقسيمها بحواجز ( partitions) وعرض فيها عشرات اللوحات تمثل مراحل مختلفة من تطور فنه.
و كانت الزيارة ثانية في مرسم كلية الآداب الذي انتقل إلى مكان آخر من الكلية. كنت متخفيا لأسباب سياسية وكان هو يعرف بذلك وقد عرض علي تقديم المساعدة وموادا للرسم وطلب مني الاستمرار تحت كل الظروف، لم يكن الأمر سهلا فلم ارسم الا القليل من اللوحات ولم يكن من السهل علي وعليه أن أزوره بانتظام رغم أني كنت تواقا لذلك.
و في أواخر سنة 1988 سمعت بألم بخبر وفاته وحضرت أربعينيته، شاهدت هناك الدكتور مهدي المخزومي والشاعر رشدي العامل والدكتور وليد الجادر وقد رحل جميع هؤلاء بعده بفترة قصيرة.
حضر اربعينية الجادر نخبة من الفنانين والكتاب منهم محي الدين زنكنه، ضياء حسن ونوري الراوي الذي القى كلمة مؤثرة وآخرون. كانت الفنانة السيدة وداد الاورفلي التي كانت احدى طالباته تجلس إلى جانبي وتنتحب وتهمس quot; قتله الظّلام quot; أي الظلمة.
أقامت الفنانة الاورفلي على القاعة التي تديرها في بغداد معرضا له ضم العديد من اعماله بعد أن أقام له اخيه الراحل وليد الجادر معرضا استعاديا كبيرا في احدى قاعات مركز صدام للفنون في بغداد.
و أنا استعيد ذكراه اليوم اتذكر ما قاله الجواهري بحق زميله الدكتور عبد الجبار عبد الله:
أهز بك الجيل الذي لا تهزه نوابغه حتى تزور المقابرا
تحية لذكراك العطرة
[email protected]