قصة قصيرة للناثر الايراني: حبيب أحمد زادة
ترجمة موسى بيدج
يرجى ممن يعثر على هذه الرسالة أن يقوم بواجبه الإنساني ويوصلها بأية وسيلة متاحة لعائلة سعد عبد الجبار من منتسبي اللواء 23 من القوات الخاصة بحرس رئاسة الجمهورية العراقية التابعة للوحدات العامة تحت قيادة الفرقة الثالثة المرابطة في قاطع البصرة.

***
بسم الله الرحمن الرحيم

عائلة الجندي المكلف سعد، الموقرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
وبعد لا أعرف إن كانت كتابة هذه الرسالة وإرسالها لكم في مثل هذه الظروف عملا صائبا أم لا، ولكن أرى أنه من الضروري ان أكتبها وأسلمها لابنكم حتى تصل لكم بهذه الصورة الغريبة.
والآن حيث مضى على الحادث أكثر من احد عشر عاما أريد أن أحدثكم عن كيفية تعرفي الغامض الى ابنكم في لقاء مكتظ بالأسرار،في هذه الأثناء اشعر بدافع قوي لكتابة تفاصيل حادثة تعرفي إليه وملابساتها وذلك من اجل إزالة الشكوك التي قد تراودكم بشان تورطي في هذه الحادثة المؤلمة.
والآن ابنكم سعد إلى جواري لعله ينتظر ختام هذه الرسالة ليحمل الحقائق لكم بنفسه. هذه اللحظات هي الثواني الأخيرة من لقائنا وبالتأكيد سيكون آخر وداع بيننا. والآن من الأفضل أن اختصر الكلام واصل إلى لب الموضوع.
بدأت الحادثة منذ وقت بعيد وبالضبط في صباح الثامن والعشرين من شهر ديسمبر عام 1981م وهو اليوم الذي رأيت فيه ابنكم لأول مرة. كنت عائدا من شاطئ نهر كارون متوجها إلى القواطع الخلفية، كنا قد انتهينا في الليلة الماضية من تنفيذ عملية كبيرة في هذه المنطقة. الغاية منها فك الحصار عن مدينتنا، قاتلنا حتى الصباح حيث وصلنا إلى ضفة النهر بعد عام من محاصرة المدينة، كانت هذه هي المرة الأولى التي تتمكن فيها قواتنا من استعادة هذه المنطقة.. أنا أيضا، وبسبب سروري بانتصارنا في عملية مصيرية كهذه، رغبت في التقاط صورة تذكارية تدل على مشاركتي في هذه العملية. حيث كنت قد أحضرت معي آلة تصوير متواضعة لم تسمح لي شدة الاشتباكات لالتقاط صورة قبلها قط..
حتى هذه اللحظة لم يحدث أي شي غريب خارج الحسبان وكانت الأمور تجري على مسارها ككل عملية عسكرية أخرى حيث كانت القوات المنهكة تنسحب وتستقر مكانها قوات جديدة عن طريق الممر السابق، إلا أن رغبة للتجوال في المناطق المحررة والتطلع الى مدى المصائب التي لحقت بها.
استحوذت على ذهني.
ومن اجل تفادي المنطقة المزروعة بالألغام اضطررت للدوران والابتعاد قليلا فواجهت طريقا رملية كان الجيش العراقي قد استحدثه من اجل الوصول إلى الطريق المعبد.
تقدمت على الشارع الرملي إلى أن وصلت إلى مفترق طرق. حيث كان تمتد أمامي الآن طريق تمنيت طوال عام بأكمله لو يتسني لقدمي كي تطأه حينما أتوجه إلى قضاء عطلتي.
حتى ذلك الحين، لم تكن الطريق مجلوة من الألغام والفخاخ المتفجرة والأسلاك الشائكة، إلا أنني كنت اعتبره منذ ذلك الحين محررا وخاليا من الخطر.
عندما وضعت قدمي على الطريق، اذكر بالضبط بان الشمس كانت قد بدأت بالشروق لتوها، فشرعت أصيح من فرحتي غير آبه بما يحيطني، قفزت شوقا وبندقيتي بيدي، كنت مسرورا جدا، وكان عمري آنذاك ستة عشر عاما، أي أن ابنكم كان يكبرني في ذلك الوقت بحوالي عامين. هنا, بدأت الحادثة الأساسية،لا ادري ماذا حدث! لكني التفت عن طريق الصدفة إلى الخلف, وفجأة امتلكني الذهول وبلمحة عين انبطحت أرضا كرد فعل دفاعي،يجب أن أعترف بأني شعرت بخوف كبير،ففي كل فترة تواجدي على الطريق المعبدة كان هناك جندي عراقي محملقا بي من الخلف وهو جالس، وأنا لم أكن منتبها لوجوده أبدا.
قفزت إلى خلف متاريس الطريق,وصوبت أسلحتي نحوه,كنت منشغلا بهذه الفكرة فقط (لماذا لم يستهدفني من الخلف) وهذه الفكرة بالذات مهدت للتخفيف عني نوعاً ما إذ لابد انه قد بقي وحيداً فريداً في المنطقة المحررة،وينوي تسليم نفسه.
شجعتني مجموعة هذه الأفكار لكي اهجم عليه من الخلف،مكثت للحظة،ثم ركضت من وراء السد الترابي باتجاهه،وأردت أن أقول باللغة الفارسية (ارفع يديك!)بالطبع،الآن وانتم تقرئون هذه الرسالة يكون كل شء قد اتضح لكم الى حد ما.
نعم,واجهت جثة ابنكم،الذي كان قد اجلس أرضا على ركبتيه،وربطت رقبته ومعصماه من الخلف بأسلاك هاتف ميداني إلى لوحة مفترق الطرق،والدم قد سال من تحت رجليه كجدول صغير.
في هذه اللحظة،ارتخت بندقيتي في يدي وهدأت قليلا فاقتربت أكثر منه وانتبهت إلى أن من ربطه أو من ربطوه شدوا وثاقه بقوة حيث أدمت الأسلاك معصميه ورقبته بشكل واضح جدا وملفت للنظر وعندما أفقت من دهشة الحادث سمعت للتو دوي انفجار القنابل ومدافع الهاون التي كانت تقترب في كل لحظة باتجاهنا.
رمقت وجهه البريء بنظرة كانت عيناه مفتوحتين تماما ومشدوهتين لا ادري بماذا ولكني رغبت أن التقط صورة لوجهه، والتقطها لعلها كانت من باب الاستفادة من آلة التصوير لا غير. عندما وضعت جهاز التصوير في حقيبة ظهري، كانت أصوات الانفجارات قد ارتفعت أكثر بالإضافة إلى عواء الكلاب التائهة التي كنا نسمع أصواتها كل ليلة قبل بدء العمليات من خلف خطوط العبثيين، وبوجود هذه الكلاب السائبة الجائعة ليلا كان واضحا ماسيحل بجثة ابنكم.
نظرت إلى عينية المفتوحتين وقلت له من اجل الخلاص من تأنيب الضمير: اعرف ولكن والله لو كان لدي مسحاة لكنت قد دفنتك بالتأكيد.
بالضبط كأي شخص آخر لا يريد انجاز عمل ما بإبداء حجة كبيرة.
ثم واصلت طريقي كي ابتعد عن الانفجارات التي كانت تزداد كل لحظة ما أقول لم أكن قد ابتعدت لمسافة مائة متر حتى وقع نظري على مسحاة كبيرة كانت قد انزرعت إلى المقبض جنب متراس نصف مبني على سد ترابي وقفت للحظة كنت مترددا جدا لكن لم يكن باليد حيلة فلقد كنت قد أقسمت قسما لا يمكن الرجوع عنه رفعت المسحاة بانزعاج كبير وتوجهت نحو ابنكم أريته المسحات وقلت: وهذه هي المسحاة. وبدأت بالحفر أمام إقدامه قريب إلى تلك الدرجة التي انساب الدم بعد لحظات إلى داخل القبر وكنت خلال انهماكي بالحفر ومع حركة المسحاة أتنقل بنظري بين ابنكم وجريان الدم محاذرا منه كي يمس كف حذائي العسكري ويدميه
وفي نفس الوقت كنت أتحدث مع نفسي ومع ابنكم ولا يمكنني تكرارما ورد في أحاديثي تلك لكم وذلك من اجل عدم إطالة الرسالة ولان الموضوع بدون ادنى شك سوف لن يثير اهتمامكم.
باختصار كان العمل على وشك الانتهاء وكنت منشغلا في نفسي أتساءل هل أصبت اتجاه القبله في أول قبر حفرته في عمري؟ فجأة وبدوي انفجار هائل ووجدت نفسي ممددا في حفرة القبر وابنكم سعد قد أصبح غطاءا لي اعترف باني شعرت بخوف لا يوصف فقد كنت في نقطة بعيدة عن قواتنا وخالية، وفي داخل القبر ومع جثة وجها لوجه، دفعت سعد بصعوبة كبيرة وانحنيت جانبا كان انفجار قذيفة مدفع خلف ظهر ابنكم قد تسببت بسقوطنا على تلك الحالة عندها أمعنت النظر في وإذا بخيوط دماء ارتسمت على معطفه توا تدل على إصابته بعدة شظايا جديدة وكان قد أصبح حاجزا بين الانفجار وبيني والأفضل أن أقول بين الموت وبيني.
هنا ازداد تعاطفي مع ابنكم أكثر من ذي قبل، أنهيت الحفر بسرعة وتأهبت كي أضعه في قبره فتراءى لي بأنه من الأفضل إن اجرده من معطفه العسكري وأغطي رأسه به كي يمنع التراب عن وجهه فانهمكت بهذا العمل فلاحظت شيئا بين أسنانه فإذا بها قشور لأربع رصاصات عبئت في فمه لكن لم يعد التعلل جائزا، لففت المعطف حول رأسه فتشت جيوبه فعثرت على هويته الشخصية ورسالة كان قد كتبها لكم ولم اعثر على أي شي آخر، حررت يديه من الأسلاك وبدأت بإلقاء التراب عليه
وفي تلك اللحظة شعرت بان هذا الإنسان الغريب سيرقد بعيدا عن عائلته في قبر مهجور سوف لن يقرا احد الفاتحة عليه أبدا، ولكن حتى أنا لم يكن يتوقع مني أن أقوم له بشئ أكثر من مواراته الثرى.
على أية حال نصبت اللوحة المكسورة على قبره ثم ابتعدت عن المكان بسرعة فيما بعد وفي أول استراحة لي خلف الجبة طبعت صورته ووصفتها في ألبومي الخاص وكلما تصفحت الألبوم وعند وصولي إلى صورته اسميه (الميت الذي أنقذ حياتي وانأ أنقذت جثته) وعلى الرغم من إني قرأت اسمه في هويته الشخصية إلا أنني كنت أشير إليه باعتباره جنديا عراقيا فقط... مرت أعوام طوال على تلك الحادثة وكانت الحادثة برمتها قد تبدلت شئ فشيئا إلى ذكرى فقط إلا أنني تعرفت عن طريق الصدفة على أخوة مهمتهم هي تبادل جثث القتلى العسكريين العراقيين مع جثث شهدائنا وكان يتم استبدال جثة بجثة عند الحدود وحدثتهم بموضوع سعد وقرر أن أقوم اليوم باطلاعهم على محل دفنه.. عندما وصلنا للموقع في الوقت المقرر كنت اعلم مسبقا بأنه يجب أن لا أتوقع بقاء اللوحة على القبر إلا أن مفترق الطريق كان باستطاعته أن يكون معينا وبعد الحفر مرتين أخرجنا ابنكم من تحت التراب ومن الاحتمال انه سيكون على هذا الوضع الذي ستشاهدونه حين وصول هذه الرسالة إليكم إلا أن أهم نقطه دعتني للكتابة هي لم تكن في الحقيقة أية من هذه المواضيع إنما كان السر الذي اكتشفناه حين إخراج ابنكم من القبر عندما نزع الاخوه بقايا المعطف الملفوف حول رأس سعد القوا عليه نظرة ذات مغزى وقالوا: (هارب آخر) سألتهم ما معنى هذا الكلام؟ فأشاروا إلي أمثلة من تجاربهم في العثور على الجثث وقالوا أن الخراطيش الأربعة بين الأسنان المقفلة تدل على رمي الشخص بالرصاص بسبب هروبه وهم كانو يضعون القشور على تلك الحالة عقب إعدامه كي يتعظ الآخرون فشرحت لهم حالة جلوسه فقالوا : لابد أنهم أطلقوا الرصاص على ركبتيه قبل إعدامه.
وبنظرة ألقيتها على العظام المكسورة انكشفت لي حقيقة أخفته عني ملابسه ولحمه لفترة احد عشر عاما.
اعلم إن هذه الحقائق مرت مزعجة للغاية وخاصة إنها تخص نجلكم إلا أن معنوياتي الأخرى ليست أفضل من حالكم ففي فترة الأحد عشر عاما هذه سافرت مرارا خارج مدينتي ومن هذه الطريق وفي كل مرة اجتزت فيها هذا المفترق حرمت روح ابنكم حتى من قراءة الفاتحة الأمر الذي أتمنى لو ليسامحني الله تعالى عليه ومن اجل كتابة هذه الرسالة إلا أنني لم أكن متهيئا من قبل ذلك استخدمت استمارات تسجيل مواصفات الجثث وكتبت على ظهرها،ولو كنت تنبأت إني سأكتب لكم لكنت بدون شك قد أحضرت الرسالة والصورة التي التقطتها لجثة ابنكم في اللحظات الأخيرة وأرفقتها بهذه الأوراق وقد يكون رأي احد الإخوة صائبا حيث يقول بان من الأفضل دفن الحقيقة هنا وان لا أكون سببا لأثارة مشاكل وإزعاج أكثر لكم، ولعل وقوع هذه الرسالة بيد الغير تؤدي إلى عدم تسليم جثة سعد لكم وكما تلاحظون فقط لجأت الى هذه الطريقة غير المألوفة من اجل إرسالها حتى تقلل من نسبة الخطر إلى أدنى مستوياته.
ها أنا اكتب عنواني في هامش الرسالة حتى تتصلون بي بأي طريقة ترتأونها كي أرسل لكم صورة ورسالة سعد الأخيرة، لا ادري ما رأيكم بإخفاء الرسالة في عظم الساق المكسور لابنكم، و فيما اذا لم تصل الى أصحابها الحقيقيين لطريقة إخفائها هذه والرسالة وسعد يدفنان معا ولا تصل الحقيقة لكم أبدا أيتها العائلة الموقرة لا زلت في صراع مع نفسي بسبب كتابتي لهذه الرسالة ولكن في هذه الجمل الأخيرة فحسب أتمكن من القول مرة أخرى بأنه لو أن مثل هذا الحدث وقع لي قبل عشرة أعوام لما بادرت بكتابة الرسالة أبدا إلا أن لدي أنا الآخر طفل فبإمكاني أن أدرك أن من حق أي عائلة أن تطلع على الدقائق الأخيرة من عمر ابنها تقترب لحظات وداعي الأخيرة مع ابنكم سعد واعلم باني من الآن فصاعدا كلما عبرت من هذا الطريق سأمعن النظر بتلك النقطة وسيغمر قلبي حزنا ثقيلا من جراء لقاء طال احد عشر عاما مع غريب تعرفت عليه قبل عدة ساعات من وداعي له فقط.
والآن ارتفعت أصوات الإخوة احتجاجا لإطالة الكتابة وأخيرا أترككم وسعد في أمان الله الذي هداني في ذلك اليوم إلى تغيير مسيري ولقائي بسعد ومن ثم العثور على المسحاة ومن بعدها اكتشفنا اكتشاف سر الأعوام الإحدى عشر.. على أي حال قد يوصل الله نفس هذه الرسالة لكم أيضا.