الحلقة الاولى
الظهيرة، هيَ فترة السبات في مواقيت اليوم المراكشيّ. إذ ذاك، تلبِّسُ عليكَ المدينة بهدوئها، المُخادع. فما أن ينتصف النهار، حتى تزحف الهاجرة رويداً فوق أفق الحاضرة؛ تزحف بهدوءٍ، مُخلبَس ـ كحيّة الحاوي، المُرقطة، المنذورة لنظارة quot; ساحة الفناء quot;. بإتجاه هذه الساحة، الذائعة الشهرة، تتجه خطاي العجولة، فما هيَ إلا دقائق حسب وأجدني متباطئاً في منهكة الحرّ الذي لا يرحم. الجادّة الضيقة، المفتوحة الجانبَيْن على شتى الدروب والمؤطرة شتى المحلات، لا تلبث أن تفضي بخطوي إلى جادة اخرى، رئيسة، أكثر رحابة، تعلن إسمها لاحقاً على لوحة معدنية كبيرة؛ quot; شارع فاطمة الزهراء quot;. ها هنا مواطيء الأقدام، جميعاً، تهتدي بعلامة نجم القطب، المراكشيّ : جامع quot; الكتبيّة quot;!
بدوره، يلتحف الجامعُ بأتون الشمس، اللاهبة، التي ترقِمُ منارَته الوحيدة، العظمى، بوَشي ٍ مذهّب، مائل إلى اللون الأخضر الزاهي، المقدّس. وعلى العكس من الهدوء النسبيّ، المُحتبي تلك الدروب، الفائتة، فإنّ الضجيج اللاعج في صدر المدينة، يُنبي بالوصول إلى ساحتها الأكبر. قرع الطبول، المتواتر إيقاعه من هذه الناحية، يُعيد إلى ذاكرتي يوم quot; كرنفال السامبا quot;، الصيفيّ، في مدينة الشمال الإسكندينافي التي لطالما طوَتْ غربتي بجنحَيْها، الناصعَيْن ـ كثلج شتائها المَديد، المُمضّ. ها أنا ذا هنا، أخيراً، على الجادّة الفارهة، المؤدية إلى quot; ساحة الفناء quot;. خلف ظهري مباشرة ً، تتناهض منارة جامع quot; الكتبية quot;. على الناصية اليسرى للجادة يَركن quot; منتزه علاء الدين quot; : إنه مجمعُ المطاعم الراقية، بحسب شهادة لائحة أسعاره، الباهظة، المرفوعة مثل راية منتصرة أمام بوابته الكبيرة. على الأسوار القرميدية، الكامدة، المطوقة ذلك المجمع، تسترسل جدائلُ عرائش المجنونة والبوكسيا والياسمين، المشكوكة بلآليء أزاهيرها، مهيمنة عليها ظلالُ الأشجار المثمرة من رمان وتين وحمضيات.
موقف العربات التقليدية، quot; الحنطور quot;، المترامي على طول الجهة المقابلة، يُفعم الجوَّ برائحةٍ قويّة، نفاذة، لروث الخيول. هذه الحيوانات، المُسترخية في كسل، كانت تفصحُ عن عطالة فترة الظهيرة، بينما أصحابها يقيلون بدورهم في أفياء واحة النخيل، المُنمْنمَة، المُهيمنة مع أشجار اخرى على الناصية اليمنى للجادة تلك، المفتوحة على الساحة الكبرى. للوهلة الأولى، كان عليّ أن أحسّ بخيبةٍ لمشهد المكان، طالما تبدّى لعينيّ مقفراً من دواعي المَسرّة، الغامرة، المُلتصقة بإسمه؛ اللهمّ إلا بعض المظاهر المُبهجة : جوقة قارعي طبول وزرناية، ترَقّصُ أشخاصاً بألبسة بهاليل؛ وأفرادها من أكثر المنغصين على الجوّال تسكعه في الساحة، بإلحاحهم الثقيل على دراهمه. ثمة مجموعة حواة، ترَقصُ بدورها على أنغام الناي أراقِمَ زاحفة من أفاع وكوبرات؛ وهيَ الزواحف الأسيرة، الناشرة في جوّ المكان رائحتها الزنخة، المثيرة غثيان المرء. إلى أعدادٍ متناثرة من قارئات الكفّ ومُدّعيات كشف السِّحر ومحترفات النقش بالحناء، المتكوّمة كلّ منهن على أدوات تجارتها، مُحتمية من شمس الهاجرة بمظلة قماشية وقد أحاط بها الزبائن السيّاح أو بعض المارّة الفضوليين.
ـ quot; ولكن، أهذا كلّ شيء هنا؟ quot;
قلتُ لنفسي عندئذٍ، مُتحيّراً. بيْدَ أنه ما كان قد خطرَ بعد لبصري حقيقة، أنّ هذا المكانَ ميدانٌ شاسع، مُترامي الأطراف، يضمّ ساحاتٍ عدّة وقد شملها إسمٌ واحدٌ : quot; ساحة الفناء quot;؛ منسوبٌ للجامع الصغير ذي المئذنة القديمة، الفاترة الفخامة والسموّ. وإسم هذا الجامع لا علاقة له بفعل quot; يفنى quot;، بل هوَ مُشتق من مصدر quot; الفناء quot; : أي البهو الواسع. ذلك يُحيل، بطبيعة الحال، إلى ما يُعاينه المرءُ من مساحة خالية، رحبة الغضارة، تحيط بسميّها ذاك؛ quot; مسجد الفناء quot;، الضئيل الحجم. في تقصيّ عن تأريخ هذا المكان، علمتُ أنه كان ذا شأن في زمن إزدهار مراكش ـ كعاصمة إسلامية، مرهوبة الجانب؛ أنه كان مَعقِدَ أصحاب الأراضي الزراعية، علاوة على الناس العاديين، البسطاء، الذين كانوا يُتابعون بفضول ـ وليسَ بدون رعب ـ منظرَ رؤوس أولئك الخائبي الحظ، من المحكومين بالإعدام، وهيَ تتهاوى بسيف الجلاد، القاسي، ثمّ ترفع على الأثر مدميّة، رثة، ليعلق كلّ منها في مكانه، المعيّن، من أبواب المدينة، العديدة. أثرٌ من الدماء تلك، لا بدّ ويتماهى الآن مع حمرة التربة، المتواشجة بإسم quot; مراكش quot;، التليدة المجد ـ كما يتواشجُ المجدُ، أحياناً، ببغي الحكام وطغيانهم. وعلى كلّ حال، فمما لا ريبَ فيه أنه ما كان ليدور في خلد الأقدمين، من قاطني المدينة، أنّ ساحتهم الأثيرة ستغدو يوماً بمثابة quot; كعبَة الكون quot;؛ مَحَجّاً للبشر، المُتبايني اللون والجنس والدين، القادمين إليها من مختلف الأمصار والبلدان والقارات.
quot; ساحَة الفناء quot;، إذاً. وإنها لتستحقّ نعتاً آخر؛ ساحة الحبّ. إستيفاءً لحقّ نعتها هذا، لا بدّ أن أنوّه بما إنطبَعَ في الذاكرة من مشاهد فيلم quot; الحبّ الضائع quot;؛ وتحديداً ذلك المشهد الآسر، حينما تشاء المصادفة جمعَ quot; مدحت quot; (النجم رشدي أباظة) مع حبيبته quot; ليلى quot; (الممثلة العظيمة سعاد حسني). وكان بطلنا، في المشهد ذاته، على شرفة الدور الثاني لأحد المقاهي المُحيطة بالساحة (أهوَ quot; كافيه دو فرانس quot;، ربما؟)، يرمي ببصره إلى أسفل؛ أين الجموع المُحتشدة، المتوزعة بين حلقات الراقصين والحواة والباعة، فإذا به يلمح حبيبته ثمة وكانت تتفرج أيضاً على إحدى العجائب، التي يحتويها المكان: تلك المصادفة، المُقدّر لها أن تتلع قدحَ العشق، المعتق، بين بطليْ فيلم quot; الحبّ الضائع quot;، لكأنما أجيزَ لها حظ التكرار في المكان نفسه ولكن في زمن آخر؛ هنا، أمام quot; مقهى فرنسا quot;، وفي هذه الظهيرة بالذات من الصيف المراكشيّ!
الساعة تنتصف السادسة عصراً. وأكون وقتئذٍ بمحاذاة مقهى quot; كافيه دو فرانس quot;، المحروس بعَقدٍ من العربات الأنيقة، التكساسيّة الطراز، والمتحدّية قيظ الهاجرة بما تقدّمه لزبائنها من عصير البرتقال، الطازج. بإزاء هذا المكان، المنذور للموعد المُقترَح، كان سيلٌ من الدراجات النارية، المُسرعة والصاخبة الضجيج، ينسابُ في رواحه وغدوه عبْرَ الساحة وما يُجاورها من الأسواق التقليدية : وماذا بمقدور المرء، وهوَ يلمح الإشارة الحيّية، الملوّحة من الجهة المُقابلة، إلا أن يُجاهد في إختراق السيل ذاك؟ وإذاً، كان علينا من بعد التدرّجَ بخطانا، المُتماهلة، المُوَقّعة على الإسفلت المُلتهب، قصداً نحوَ المقهى نفسه، الموسوم. وهيَ ذي كلمة صادحة ـ كإيقاع محلّق ـ راحت تتردد في سمعي بإلحاح وشكوى : quot; الصُّهْد..! quot; (وتعني الحرّ الشديد، بالعامية المغربية). quot; كافيه دو فرانس quot;، من جهته، يقوم على أدوار ثلاثة؛ الأرضيّ، وهوَ الذي يحوي المقهى، المتكرّم على صفة الذكورة؛ بينما يضمّ الدور الثاني مطعماً على جانبٍ من الفخامة؛ والدور الأخير، الذي كنا الآن نرتقي درجاته، المُرخمة، سيُفضي إلى كافيتريا خاصّة بالعائلات، تطلّ على مشهد المدينة، الساحر.
عند هجعَة الغروب، يتجلى قرصُ الشمس وشياً برتقالياً في مطرف السماء، الصاحيَة، المُهيمنة على المشهد. منظر quot; ساحة الفناء quot;، يكون اللحظة تحت وقع البصر مُذهلاً بأضوائه الساطعة، الناشرة إيناعها بكلّ الألوان الرائعة، المُمكنة. أما الأصوات عندئذٍ، فما عادَ مصدرها ضوضاء الموتورسيكلات والسيارات، بل هيَ أصداء شجية، تخلب اللبّ، لموسيقى محلية وأمازيغية، من فرق الهواة والمحترفين، التي جعلت quot; ساحة الفناء quot; نشيداً ليلياً دائماً، أسطورياً. وما عتمتْ سحابة متكاثفة من جمر الشواء اللذيذ، النافثة رياها في أنوفنا، أن دعتْ شهيّتنا إلى الموائد العامرة، والعشوائية في آن، المتراصفة ثمة على حدّ الميدان الكبير. بيْدَ أنني، وإحتفاءً باللقاء الأول في حضرة هذه الساحة، أقترحُ تناولَ عشائنا في الدور الثاني من quot; كافيه دو فرانس quot; نفسه؛ في مطعمه ذاك، الراقي نوعاً. هنا، سيُتاح لي ـ وللمرة الأولى أيضاً ـ تذوّق أحد أشهر أطباق مطبخ موطن الأطلس، العريق : إنه quot; الطاجين quot;، المستوحي إسمه من الإناء الفخاريّ، الخاص، الذي تعدّ فيه الوجبة الفاخرة، المكوّنة أساساً من الخضار واللحوم، والممكن تحضيرها في أصنافٍ مختلفة. وقد تسنى لي، في الأيام التالية، رؤية أعداد متنوّعة من الآنية تلك، الخزفية، خلال جولات تسكعي في الأسواق؛ وكلّ منها يوحي منظره برأس إنسان مُعتمر قبعة مدببة، ذات ثقب واسع في قمتها. الطاجين، إذاً، طبقٌ تقليديّ، لا يجوز للزائر أن يفوّته؛ وهوَ على كلّ حال طبق لا يُفارق قط لوائح المطاعم، شعبيّة كانت أم وجيهة. وبما أنني خضتُ جيداً في لجة المطبخ المغربيّ، أستطيع الجزمَ بأنّ هذا الطبق، الشهير، يكون أكثرَ لذة وأصالة، حينما يتناوله المرء في المطاعم الشعبية؛ خصوصاً تلك المهملة بوداعة على ناصية quot; ساحة الفناء quot;؛ ساحة الحبّ، المُستعاد!
للرحلة صلة..