القاهرة: توفي يوم السبت الكاتب الماركسي المصري محمود أمين العالم عن 87 عاما بعد أكثر من نصف قرن من المعارك السياسية والثقافية. ولد العالم بالقاهرة يوم 18 فبراير شباط عام 1922 وتخرج في قسم الفلسفة في كلية الاداب بجامعة فؤاد الاول (القاهرة الان) عام 1945 وحصل على الماجستير عام 1953 عن بحث عنوانه (فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية) ونال به جائزة الشيخ مصطفى عبد الرازق وسجل بحثا للدكتوراه حول (الضرورة في العلوم الانسانية).

لكنه حرم من اعداد رسالة الدكتوراه بسبب فصله من الجامعة عام 1954 مع عدد من الاساتذة لاسباب سياسية. ثم التحق بمجلة روز اليوسف التي كتب فيها مقالات في النقد الادبي مستكملا ما بدأه مع رفيقه عبد العظيم أنيس حين ردا على مقال عميد الادب العربي طه حسين حول (مفهوم الادب). وبهذا المقال بدأت معركة في النقد الادبي تهدف الى الانتصار للاتجاه الواقعي.

وأصدر العالم وأنيس عام 1955 كتاب (في الثقافة المصرية) يردان فيه على عدد من نقاد الجيل السابق ومنهم عباس محمود العقاد وطه حسين الذي وصف الكتاب بأنه quot;يوناني فلا يقرأquot; في حين اتهمهما العقاد في صحيفة (أخبار اليوم) بالشيوعية وقال quot;أنا لا أناقشهما وانما أضبطهما. انهما شيوعيانquot;.

وعمل العالم في مؤسسة دار التحرير التي أنشأتها ثورة 23 يوليو تموز 1952 في مصر ولكنه فصل من عمله بعد اعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 لانه قال ان الوحدة لا تراعي الخصائص الموضوعية للمجتمع السوري.

واعتقل العالم مع الشيوعيين الذين اعتقلهم نظام الرئيس الاسبق جمال عبد الناصر في مطلع عام 1959 وتعرضوا لتعذيب راح ضحيته شيوعيون منهم شهدي عطية الشافعي ثم أفرج عنهم عام 1964.

وبعد الافراج حدث ما يعتبره البعض مصالحه مع النظام الناصري فعمل العالم في مجلة (المصور) الاسبوعية ثم أصبح رئيسا لمجلس ادارة الهيئة المصرية العامة للكتاب ثم رئيسا لمجلس ادارة مؤسسة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية. ثم رئيسا لمجلس ادارة مؤسسة أخبار اليوم الصحفية. وبعد موت عبد الناصر عام 1970 واختيار أنور السادات رئيسا للبلاد بدأ صدام مع السلطة الجديدة فاعتقل مع من وصفهم السادات بمراكز القوى. ووجهت له ولاخرين تهمة الخيانة العظمى وبعد الافراج عنه سافر الى بريطانيا للعمل باحدى الكليات ثم اتصل به صديقه المفكر الفرنسي جاك بيرك (1910 - 1995) واقترح عليه التوجه الى باريس فذهب ليعمل في جامعة باريس مدرسا لمادة الفكر العربي منذ عام 1973 حتى عام 1984. وخلال تلك الفترة أنشأ مع بعض المصريين مجلة شهرية هي (اليسار العربي) التي كانت تدافع عن قضايا الوحدة العربية والديمقراطية والتحرر السياسي والاقتصادي. وشارك العالم في الجبهة الوطنية المصرية المناهضة لسياسة السادات عندما بدأ مشروعه للصلح مع اسرائيل. وحكمت محكمة (العيب) على العالم غيابيا بحرمانه من حقوقه المدنية والسياسية ولم يرفع عنه الحظر المدني والقانوني الا بعد الغاء قانون العيب بعد سنوات. وتفرغ العالم بعد عودته الى مصر لاصدار كتاب غير دوري عنوانه ( قضايا فكرية) كما اختير مقررا للجنة الفلسفة في المجلس الاعلى للثقافة. وحصل العالم على جائزة الدولة التقديرية من مصر عام 1998 كما منحته مؤسسة ابن رشد في برلين جائزتها عام 2001.

وللعالم أكثر من 20 كتابا صدر أولها عام 1955 بعنوان (ألوان من القصة المصرية) بمقدمة لطه حسين و(الثقافة والثورة) و(تأملات في عالم نجيب مجفوظ) و(فلسفة المصادفة) و(هربرت ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود) و(الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر) و(البحث عن أوروبا)و(ثلاثية الرفض والهزيمة.. دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله ابراهيم)و(الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر) و( الماركسيون العرب والوحدة العربية) و(الفكر العربي بين الخصوصية والكونية)و(مواقف نقدية من التراث)اضافة الى ديوان شعر واحد صدر عام 1970 بعنوان (أغنية الانسان) (رويترز)

وننشر في هذه المناسبةمقتطفا منكلمته التي القاها بمناسبة منحه جائزة ابن رشد للفكر الحر 2001 / بيت الآداب - برلين 8/12/2001:

quot;... في مؤتمر دولي حول صراع الحضارات أو حوار الثقافات عقدته quot;منظمة تضامن الشعوب الأفريقية والأسيويةquot; في القاهرة في مارس عام 1997 ، اجتهدتُ في تحديد دلالة بعض المصطلحات ومن بينها مصطلح الثقافة والحضارة. كما طورتُ هذا الاجتهاد في افتتاحية الكتاب الدوري quot;قضايا فكريةquot; الصادر في أكتوبر 1999 والمكرّس quot;للفكر العربي بين العولمة والحداثة وما بعد الحداثةquot;.

ففي هذه الافتتاحية ذكرت أنني أتعامل مع مصطلح الثقافة بدلالتها الأنثروبولوجية العامة في جوانبها الرمزية والمادية والعملية أي من حيث أنها الرؤية النعرفية والوجدانية والروحية والعملية والعلمية للواقع الاجتماعي والاقتصادي والإنساني عامة التي تتجلى في أشكال السلطة ونمط الانتاج والسلوك السياسي والقمعي والابداعي في ارتباط محلى محدد. وبهذا المعنى فالثقافة تختلف باختلاف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية من مجتمع إلى آخر، بل تختلف وتتنوع كذلك داخل المجتمع الواحد باختلاف وتنوع المواقع والمواقف الساسية والاجتماعية والفكرية، كما تتطور زتنمو بتطور الاوضاع والتشكيلات القومية المختلفة. نتبين هذا في أرقى المجتمعات وأدناها في سلّم التطور التاريخي الاجتماعي العام. على أن الثقافة - كما ذكرتُ بشكل عام - تجمع كذلك بين ما هو قومي خاص بها، وبين ما هو إنساني مشترك بين مختلف الخبرات الإنسانية. وهو مشترك ثقافي نابع من الاحتياجات الاساسية العضوية والاجتماعية والموضوعية الإنسانية، ومن التفاعل النتصل بين الثقافات المجتمعية والقومية المختلفة دون أن ينفي هذا خصوصية الثقافة في كل مجتمع من المجتمعات. أما مصطلح الحضارة فقد ذكرتُ انني أتعامل معه دون تمييز دلالي جوهري بينه وبين مصطلح الثقافة بمفهومها الأنثروبولوجي. ولكنني لم أقف عند هذا المفهوم المترادف بينهما، ذلك أني أرى ومازلت أرى أن هناك تمايزاً بينهما. وأن الفارق بينهما يكمن في أن الحضارة هي ثقافة تطورت تطوراً ذاتياً مما دفعها ويدفعها غلى تجاوز حدودها المجتمعية المحلية الخاصة وإلى التوسع والامتداد، فارضة نفسها على مجتمعات وأقاليم وتشكيلات اقتصادية واجتماعية وثقافية أخرى في عصر ما، أو مرحلة تاريخية معينة. إنها نقلة متطورة من الخاص إلى العام مهما كانت حدود هذه النقلة. أي أن الحضارة في تقديري هي خصوصية ثقافية معمّمة سائدة خارج حدود نشأتها المحلية الأولى. فهكذا تشكّلت الحضارة المصرية القديمة والصينية والفارسية واليونانية والرومانية والعربية الإسلامية وغيرها من ثقافات معمّمة، تطورت ذاتيا ثم توسّعت خارج منبعها الأصلي وأخذت تسيطر على مناطق ثقافية أو حضارية اخرى. وأضفتُ إضافة رأيتها مهمة هي أنه عندما تنهار ثقافة من الثقافات أو حضارة (بمعنى الثقافة المعمّمة) نتيجة لسيادة أو سيطرة حضارة أخرى أكثر قوة وتطوراً، فإن خصوصيتها الثقافية تظل حية-

بمستوى أو بآخر - داخل الثقافة أو الحضارة السائدة الجديدة. ولهذا نجد داخل الحضارة الواحدة في أغلب التجارب التاريخية الحضارية أكثر من ثقافة ثانوية هي امتداد لثقافات أو حضارات سابقة، كما نشهد داخل هذه الحضارة الواحدة اختلافات وصراعات وتفاعلات بين هذه الثقافات الثانوية والثقافة السائدة. ففي أوج الحضارة العربية الإسلامية - على سبيل المثال - في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، احتوت الحضارة العربية الاسلامية في امتدادها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً عديدا من الثقافات الأخرى مثل البيزنطية والفارسية والهندية والمصرية إلى غير ذلك. ولعلّ الاختلافات الثقافية المذهبية الدينية والفكرية والأدبية والسلوكية داخل هذه الحضارة آنذاك كانت ترجع إلى هذا الاختلاف والتنوع الثقافي والمعرفي والاجتماعي داخلها في إطار سيادتها الثقافية العامة. بل لعل هذا الاختلاف والتنوع أن يفسر لنا ظاهرة الشعوبية وغيرها من ظواهر الخلاف والاختلاف والصراعات والحوارات داخل هذه الحضارة أنذاك، ومايزال داخل البلاد العربية والاسلامية حتى اليوم.

والنتيجة التي انتهيت أليها ومازلت أتبناها هي أن في عصرنا الراهن حضارة واحدة سائدة، في داخلها ثقافات متعددة مختلفة. وهي حضارة معبرة عن نمط الانتاج الرأسمالي الذي تخلّق في رحم الأنساق الاقطاعية في أوروبا في القرن السادس عشر ثم أخذ يتوسع ويتنامى داخلها، مُطوراً ومبدعاً أشكالاً جديدة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتشكيلات القومية، فضلا عن المنجزات العلمية والتكنولوجية والمفاهيم الفكرية والقيم الثقافية والأخلاقية والجمالية، كما أخذ يتوسع ويتنامى خارج أوروبا مستخدما مختلف وسائل التدخل والغزو والسيطرة العسكرية والتجارية والثقافية. وأصبح هذا النمط الرأسمالي يمتد اليوم في كل أرجاء الأرض بمستويات مختلفة ومتفاوتة من مجتمع إلى آخر، بين من أسهموا ويسهمون في انتاج هذا النمط وإعادة انتاجه وتطويره والامتداد به وتعميمه باستمرار وبين من يسهمون إسهاما هامشيا في هذا الإنتاج وبين من يغلب على علاقاتهم بهذا النمط طابع التبعية والاستهلاك.

وهكذا أصبح هذا النمط الرأسمالي المعمَّم بمستوياته المتفاوتة والمختلفة معبرا عن حضارة العصر كله، ولم يعد يمثل حضارة أوروبية أو غربية، كما يوصف عادة، إلا من حيث نشأتها، وإنما أصبحت حضارة رأسمالية معولمة. لقد خرج المشروع الرأسمالي من سوقه أو أسواقه القومية الأولى، وأصبح العالم كله سوقا واحدة تتحلرك فيها المشروعات الرأسمالية المختلفة والموحدة، المتناسقة والمتضاربة، تنتج وتوزع عناصر إنتاجها وتتاجر وتضارب وتقيم بنوكا دولية، ومؤسسات أمنية واعلامية وثقافية وبحثية علمية، وتوجه الأفكار والقيم وتصوغ السياسات والتشريعات والهيئات الدولية وتخوض المعارك وتصطنعها أحيانا، توسعا لدائرة احتكاراتها وتعظيما لأرباح شركاتها المتعددة والمتعدِّية القومية وتعميقا لسيطرتها وهيمنتها خارج السيطرة المباشرة لدولها.

وبرغم الطابع النمطي الموحد بشكل عام لهذه الرأسمالية المعولمة، إلا أنها لا تتسم بالاستواء النمطي في تكويناتها الداخلية أي فيما بين دولها وبلدانها ومجتمعاتها وشركاتها ومشروعاتها المختلفة، بل تتفاوت بحسب الملابسات الخاصة لكل بلد ولكل مشروع من حيث المستوى الإنتاجى والعلمي والتكنولوجي او من حيث خصوصيتها الثقافية والتاريخية عامة. ونتيجة لهذا التفاوت تتسم هذه العولمة الرأسمالية بهيمنة عدد من الدول الرأسمالية الكبرى الأكثر تقدماً على بقية دول العالم بمشروعاتها وسياساتها وممارساتها العليا. وعلى رأس هذه الدول المهيمنة الولايات المتحدة الامريكية. ولكن ما أكثر ما يتم الخلط بين العولمة الرأسمالية كظاهرة تاريخية موضوعية، والهيمنة كظاهرة ذاتية مهيمنة على هذه الظاهرة الموضوعية.

هناك إذن في تقديري حضارة واحدة ذات نسق رأسمالي معمّم ومهيْكل عالميا، وفي قلب هذا النمط الرأسمالي المعولم، ثقافات أو بقايا حضارات أي ثقافات معمّمة سابقة متفاوتة كذلك من حيث المستوى الانتاجي والثقافي مما يضاعف من سمة التفاوتات الخاصة داخل النمط المعولم العام.

ولستُ في حاجة إلى القول بأن الحديث عن نمط انتاجي، لا يعني البعد الاقتصادي لهذا النمط فقط، وإنما يعني أساساً تضافر وتداخل أبعاده الثلاثة الاقتصادي والسياسي والثقافي.

حقاً، إن هذه الصورة المُهيكلة لنمط الانتاج الرأسمالي السائد المعولم، هي ثمرة تاريخ طويل يمتد منذ البدايات الأولى لنشأة نمط الانتاج الرأسمالي في القرن السادس عشر إلى الثمانينات من قرننا الماضي القرن العشرين. ففي هذه الثمانينات انتقل هذا النمط الرأسمالي نقلة كيفية من حالة العلاقات القومية والعالمية بمستوى أو بآخر، التي كانت تتمثل في عمليات متنامية من التنافس، والتوسع والاحتكار والتركيز في أشكال مختلفة من الكارتيلات والسنديكات والرستات أي الاحتكارات الكبرى داخل المجال القومي ثم بين احتكارات متعددة القومية، إلى الحالة الراهنة التي تتمثل في هيكلة العالم كله وقولبته داخل نمط الانتاج الرأسمالي بمستوى أو بآخر، ويتجلى هذا بوجه خاص في السيادة العالمية للاحتكارات الرأسمالية الكبرى متعددة القومية - التي أصبحت لها قوانينها الذاتية ومؤسساتها الخاصة غير المحكومة بشكل خاص من دوله القومية، وإن تكن غير منفصلة عنها تماما. وكثيرة هي الدراسات التي تفسر بروز هذا النسق الرأسمالي المعولم بعوامل ثلاثة موضوعية هي أولا الطبيعة التنافسية ذات التوجه الاحتكاري لنمط الانتاج الرأسمالي نفسه، والعامل الثاني هو فشل التجربة الاشتراكية التنموية السوفييتية وتفكيك المنظومة الاشتراكية التي كانت تشكل قطباً عالمياً مناقضاً للقطب الرأسمالي العالمي في الحرب الباردة التي كانت مشتعلة بين هذين القطبين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أما العامل الثالث فهو الثورة العلمية الثالثة التي أخذت تتنامى منذ الحرب العالمية الثانية وتحقق وما تزال تواصل تحقيق منجزات تكنولوجية باهرة في مجالى الاتصالات والمعلومات تكاد تزيل حدود المسافات المكانية والزمنية وتضاعف مضاعفة شبه إعجازية من قوى الانتاج وتفجر طاقات وإمكانيات واكتشافات معرفية ثورية وتغييرية لا حدود لها. وأسهمت هذه العوامل الثلاثة لا في التعجيل بالتوسع والهيكلة الرأسمالية عالمياً فحسب بل في تعميق النمط الرأسمالى نفسه وتجذيره موضوعياً وتحقيق سيادته وسيطرته عالمياً بأبعاده الثلاثة السياسية والاقتصادية والثقافة.

وفي ضوء هذا نستطيع أن نقرأ البنية النسقية العامة للوضع العالمي الراهن في الصورة التالية: هناك نمط انتاجي رأسمالي سائد عالمياً أي أنه يحقق هيكلة رأسمالية شاملة لمختلف عناصر الحياة الانسانية الاساسية جميعاً الاقتصادية والسياسة والثقافة. على أنه في إطار هذا النمط الرأسمالي السائد المعولم، هناك تشكيلات قومية وثقافية مختلفة ومتفاوتة من حيث مستوى الفاعلية الانتاجية الاقتصادية والسياسية والثقافية. ونتيجة للتفاوت بين هذه التشكيلات القومية والاجتماعية النختلفة داخل هذا النمط الرأسمالي السائد يقوم صراع بين هذه التشكيلات جميعاً بين كبيرها وصغيرها، بين التشكيلات العليا منها والصغرى نتيجة للطابع التنافسي التقليدي والتوسعي للنمط الرأسمالي عامة، كما يسود صراع آخر بين التشكيلات العليا وهو صراع ملتبس في تقديري يجمع بين التنافس والتضامن والتصارع والتحالف بما لا يخل بالتوافق النسبي العام داخل هذا النسق الرأسمالي المعولم بين هذه التشكيلات الرأسمالية الكبرى لهيمنتها على هذا النسق وتكريسه تحقيقاُ لمصالحها والتصدي المشترك والملتبس لما يزخر به من تفاوتات وتناقضات وصراعات. وبالرغم من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على هذه التشكيلات الرأسمالية الكبرى وعلى هذا النسق الرأسمالي المعولم عامة، فإنه من الخطأ العلمي في تقديري أن نتحدث عن العولمة باعتبارها أمركة كما يذهب بعض المحللين السياسيين وذلك نتيجة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة الراهنة على العولمة الرأسمالية. ذلك أن هذا القول يعلى من الجانب الذاتي في مفهوم العولمة على الجانب الموضوعي ويكاد يطمس الدلالة النسقية التاريخية العامة للعولمة الرأسمالية. وتأسيساً على هذا، فإن الصراع الدائر في عصرنا هو صراع مصالح وهيمنة رأسمالية وليس صراعاً بين حضارات مختلفة بالمعنى الثقافي الخالص لمفهوم الحضارة الذي يغلب عليه التوجه الديني وهو المعنى السائد للأسف، والذي تسعى كتابات عربية وأجنبية كثيرة أن تفسر به الصراع الدائر في عصرنا، بل أن تفسر به بعض الظواهر والأحداث المحددة مثل تلك التفجيرات التي وقعت في سبتمبر في نيويورك وواشنطن، فبهذا التفسير الحضاري الخالص ذي التوجه الديني تتم التغطية بل التعمية على حقيقة الاسباب التي أدت إلى هذا الحدث، فضلاً عن حقيقة الصراع الدائر في عصرنا.

على أن التفسير بمقولة صراع الحضارات هي مقولة تفسيرية قديمة، وان ارتبطت حديثاً بمقولات صموئيل هنتنجتون بين عام 1993- 1996 حول صدام الحضارات وبكتابات فوكوهاما حول نهاية التاريخ.

يقوم جوهر اطروحة فوكوهاما على القول بالطبيعة البشرية الثابتة في الوضع الراهن السائد الذي يتمثل في الليبرالية والسوق الرأسمالمية. وهو يستفيد من مفهوم هيجل حول نهاية التاريخ، بل يكاد يستنسخه بما يتلاءم مع الواقع الراهن. فكما أن فكرة الكلية المطلقى تنزل من عليئها التجريدي لتتجلى وتتجسد واقعياً في صورتها المطلقة في الدولة البروسية، فكذلك التاريخ البشري عند فوكوياما، إذ تتوالى على طبيعتها الثابتة بعض الأعراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو الثقافية الناقصة أو المنحرفة حتى تتجلى وتتجسد أخيراً ونهائياً في نظام الليبرالية والسوق الرأسمالية. ولهذا فشلت - كما يقول فوكوياما - كل المراحل والانظمة التاريخية السابقة، وبخاصة - وهنا مربط الفرس - النظام الاشتراكي السوفيتي - كما يقول - مع الطبيعة البشرية الأصلية وانحرافه عنها. وهكذا تكاد الليبرالية والسوق الرأسمالية عنده أن تكون المرادف العملي والتجسيد الموضوعي التاريخي للطبيعة البشرية. وفي هذا - كما يقول - تتحقق نهاية التاريخ. ونهاية التاريخ عنده لا تعني نهاية الحياة البشرية، وانما تعني استقرارها وتأييدها وتجسدها العام في نظام الليبرالية والسوق الرأسمالية. هذا بتركيز شديد 0 هو جوهر دراسته عن نظرية نهاية التاريخ وآخر الانسان التي نشرها عام 1993. على أن له مقالة آُخرى أصدرها بعنوان quot;إعادة نظر: آخر إنسان في زجاجةquot;. في هذه المقالة يرى أن التكنولوجيا البيولوجية الجديدة تكشف عن إمكانية تغيير الطبيعة البشرية ذاتها ونشأة كائنات جديدة غير بشرية. على أنه في حالة الأوضاع الراهنة التي يقف عندها التاريخ تعبيراً عن الطبيعة الانسانية الثابتة أو عند تغيير الطبيعة البشرية وبداية تاريخ ما بعد بشرى، فإن نظام الليبرالية الرأسمالية سيظل هو النظام السائد في التاريخ البشري الراهن وفي التاريخ غير البشري بعد ذلك. ولقد كتبت إن هذه النظرية تكاد تجعل منه مجرد سمسار إعلانات إيديولوجية خالصة لترويج بضاعة الهيمنة الأمريكية في عصر الهيمنة الراهنة.

وتكاد نظرية صراع الحضارات أن تكون تأسيساً وامتداداً لنظرية فوكوياما في نهاية التاريخ رغم ما بينهما من اختلاف ظاهر، ذلك أن فوكوياما يقول بنهاية التاريخ على حين أن هنتنجتون يقول بتجديده ومواصلته. ولكن ما يجمعهما هم أن النظريتين تكرسان النظام الليبرالي الرأسمالي، باعتباره هو وحده ممثل الحضارة الانسانية في مواجهة كل شىء غيره أو الباقي the rest كما يقول. ونظرية هنتنجتمن في صراع الحضارات لا تفرق بين الثقافة والحضارة، إذ تتوحد دلالتهما وإن غلب على نظرية هنتنجتن عنصر الدين. وتفسر نظرية هنتنجتن بأنها برزت كبديل للحرب الباردة بعد انتهائها وضرورة استمرار الصراع والصدام.

فلقد كانت الحرب الباردة دائرة بين نظامين معارضين هما النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، أي حول رؤيتين فلسفيتين عامتين مختلفتين يجمعان بين الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي. ولما تم حسم الصراع لمصلحة الروية الليبرالية الرأسمالية التي تمثلها أساساً الولايات المتحدة الأمريكية، لم يتوقف مع ذلك الصراع في العالم وإن اتخذ شكل هيمنة النظام الرأسمالى على العالم. ولهذا كانت نظرية هنتنجتون لإعطاء الصراع الجديد بعداً إيديولودياً مختلفاً عن البعد السياسي والطبقي الذي كان سائداً في مرحلة الحرب الباردة. ولهذا يقول هنتجتون أن أساس الاختلاف بين الحضارات هو التاريخ واللغة والدين ولكن الدين هو أهم عناصر الاختلاف، وذلك لإضفاء صفة الدين على هذا الصراع بين الحضارات في هذه المرحلة. ولقد برز العنصر الديني بروزاً حاداً في تفسير ما حدث في سبتمبر الماضي.

وفي تقديري أنه ليس ثمة في عصرنا الراهن حضارات معتلفة يحتدم بينها صراع على أساس ثقافي ديني كما يذهب هنتنجتون. فليس ثمة صراع بين مسيحية الغرب وإسلامية وكونفشيوسية الشرق، وليس ثمة صراع حضاري ديني بين أمريكا واليابان مثلاً رغم اختلاف الخصوصيات القومية والثقافية والتراثية بينهما. وليس ثمة صراع حضاري بين أمريكا من ناحية وايران أو العراق، أو ليبيا أو بقية البلاد العربية الاسلامية والاسلامية عامة من ناحية أخرى، وإن اتخذ هذا الصراع مظهراً دينياً أو عرفياً أو ايديولوجيا ما أكثر ما تضخمه الولايات المتحدة الامريكية لتصطنع به أعداء موهومين تغيّب بهم حقيقة الصراع مثل ضخيمها لخطورة عداء التيار الاسلامي لها بعد انهيار عدوها الاشتراكي القديم الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، في الوقت الذي كانت تدعم فيه أشد عناصر التيار الديني الاسلامي تعصباً وتزمتاً في أفغانستان في ذلك الوقت ثم تعود هذه الأيام لإعلان حرب عالمية ضد حلفائه القدامى من قياداته ومنظري نظامه الحاليين! ... وفي الوقت الذي تجمل من نفسها من ناحية أخرى حامية لحقوق الأقباط المصريين ومدافعة عنهم في مواجهة ما يعانونه من اضطهاد طائفي ديني من جانب مواطنيهم المسلمين كما تزعم، وفي الوقت الذي تتواطأ مع الاحتلال الاستيطاني العدواني التوسعي للدولة الاسرائيلية الصهيونية التي تنتهك الشروعية الدولية وتطرد الشعب الفلسطيني مسلميه ومسيحييه من أرضهم وتمارس أبشع صور المذابح الجماعية والقمع والتعذيب والتجويع والطرد والقتل والإبادة لأبنائه أطفالاً ونساءً ورجالا. كما كانت تستخدم القوات العسكرية لحلف الأطلسي (الناتو) في مظهر خادع لحماية مسلمي كوسوفا من الاضطهاد الصربي، وهي في الحقيقة كانت تفاقم من محنتهم لتغطية هدفها الأكبر وهو تغيير علاقات القوى السياسية والعسكرية لمصالحها في منطقة البلقان وفي أوروبا عامة. فضلاً عن تحويلها للناتو من قوة عسكرية محدودة المهام بحدود أوروبا إلى قوة عسكرية وسياسية بديلة لمجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ذات صلاحية ومشروعية مفروضة على نطاق العالم. وها هي ذي تستخدم حلف الأطلسي هذا في عدوانها الأخير على الشعب الأفغاني، واستعداداً لعمليات عدوانية أخرى في بعض دول منطقة الشرق الأوسط العربية وغير العربية باسم القضاء على الارهاب بغير سند شرعي دولي. إنها في الحقيقة تمارس الارهاب الدولي تحت ستار محاربة الارهاب بهدف تدعيم هيمنتها وتعظيم مصالحها.

إن الصراع الدائر في عصرنا ليس صراعاً حضارياً بل هو صراع مصالح اقتصادية وتوسعية وهيمنة داخل حضارة رأسمالية سائدة واحدة. هو أولاً صراع مصالح بين الدول الرأسمالية الكبرى نفسها من أجل المزيد من الربح والتوسع وإدارة أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والقيمية المتفاقمة. وقد برز ويبرز الجانب الثقافي من هذا الصراع في ظواهر عديدة مثل quot;الاستثناء الثقافيquot; الذي فرضته فرنسا وكندا في اتفاقية الجات. وهناك ثانياً الصراع بين هذه الدول الكبرى والذول النامية. هذا الصراع الذي يتخذ أشكالاً متنوعة من تدخل وعدوان عسكري وفرض شروط سياسية واقتصادية ورؤى ثقافية لتكريس سيطرتها واستتباعها لهذه الدول النامية وطمس خصوصيتها الثقافية القومية وإعاقة تطورها التنموي الذاتي، واتخاذها قاعدة لتمكين هيمنتها على العالم، مستخدمة لتحقيق ذلك مختلف الوسائل السيايسة والاقتصادية والاعلامية والتآمرية فضلاً عن العدوانية العسكرية. وما أكثر الأمثلة الفاقعة والفاجعة لسلوك الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل ما يتم اليوم باسم الحرب العالمية الرابعة ضد الارهاب العالمي أن يكون نموذجاً فذاً لسياية العدوان والصراع والهيمنة التي يمارسها هذا الحلف الرأسمالي الاوروبي الأمريكي العالمي اليوم. إنها ليست حرباً صليبية ضد الإرهاب الاسلامي، وإنما هو غطاء أيديولوجي للخداع والتعمية عن الحقيقة. وفي تقديري أن كلمة الصليبية لم تكن فلتة غير مقصودة، ولميكن تهجم رئيس وزراء ايطاليا على الدين الاسلامي جهلاً أو غفلة. بل كانت تغذية مقصودة لهذا الغطاء الايديولوجي، الذي لا يطمسه الاعتذار عن الفلتة اللفظية، أو الاتهام غير المقصود ما يزعمون. في تقديري أن العملية جزء من مخطط كبير حاولت به الرأسمالية العالمية والولايات المتحدة بوجه خاص، أو استفادت به واستغلته للتصدى لتصاعد الادانة الشعبية العالمية لسياسة العولمة التجارية والاقتصادية التي أفضت وتفضي إلى تفاقم الأخطار البيئية والأزمات الاقتصادية والفروق الطبقية في العالم. لقد كان مؤتمر quot;ديربانquot; في جنوب افريقيا الذي انعقد في 29/8/2001 لإدانة العنصرية عامة، والعنصرية الصهيونية بوجه خاص والذي ضم 3 آلاف منظمة غير حكومية فضلاً عن 1500 دولة، قمة التعبئة الديموقراطية الشعبية العالمية المتاهضة لسياسات العولمة عامة والولاايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص.

وقد سبق مؤتمر ديربان العديد من التحركات الجماهيرية في سياتل(Seattle) وفي ايطاليا وانجلترا ومناطق أخرى في العالم ضدهذه السياسات، وخاصة سياسة منظمة التجارة الدولية. ومع مؤتمر ديربان كانت هذه الموجه الرافضة لهذه السياسات، سوف تأخذ سمتاً أكثر ارتفاعاً وأشد عمقاً جماهيرياً. ومن الصعب تصور أن قرون الاستشعار الرأسمالية العليا في غفلة عن ذلك. ومن العبث الدخول في بحث حول من الذي قام بالعملية الارهابية ضد الرموز الاقتصادية والسياسية والعسكرية العليا في بيويورك وواشنطن. فإن مثل هذه العمليات الكبرى لا يتم السؤال فيها حول ن الذي قام بها، وإنما السؤال هو ما أسبابها وما دوافعها ثم من المنتفع والمستفيد عمليهً منها؟ وهنا استعيد قراءة لحديث لهنري كيسنجر Hernz Kissinger في جلسة خاصة لمجلس الشيوخ الأمريكي يوم 28/1/1975، يقول فيه كيسنجر quot;إن الإرهاب هو سلاحنا الأساسي للحفاظ على مصالحنا وأن القتل مبرر في عرفنا فالتخريب مبرر لدينا والمؤامرات مشروعة عندنا وإذن ما المشكلة ما دام كل شىء مبررquot;!! وأعود إلى سؤالي: quot;من المنتفع اليوم عملياً مما حدث؟quot; قد لا استبعد أن تكون مجموعة بن لادن بمستوى أو بآخر قد اشتركت فيها، أو قامت بها، ولكن هذا لا يمنع أن يون الأمر قد تم بتشجيع وتيسير - في الخفاء - من شبكة من يهمهم الأمر في الخواتيم! وهكذا يصبح الضحية في الظاهر العملي هو العليم بالأمر والمشجع والفاعل الخفي غير المباشر إلى تحقيقه، ويصبح الفاعل الظاهر المباشر هو المتهم الوحيد في النهاية!؟ هل هو مكر التاريخ كما كان يقول هيجل أم هو مكر السياسات المصلحية؟!

فقبل مؤتمر ديربان كان هناك تراكم عدائي ضد الممارسة الرأسمالية للعولمة عامة وللولايات المتحدة الأمريكية خاصة. بل كانت الولايات المتحدة هي المتهم الأول في كل ما تراكم بسببها من جرائم سياسة واقتصادية وعسكرية ضد العديد من شعوب العالم، وبإنجاز هذه العملية الإرهابية الكبيرة، تحول موقع الولايات المتحدة الامريكية من متهم إلى ضحية! ومن ضحية إلى رأس دعوة لحرب عالمية شاملة للانتقام لا ضد حفنة من الارهابيين منا يقال بل من أجل استعادة الهيمنة الأمريكية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً على مستوى العالم مرة أخرى بل أقوى مما كانت، على الأقل في الوقت الراهن. وكادت هذه العملية أن تكون تنفيذاً مخططاً دقيقاً لنظرية هنتنجتون في صدام الحضارات، ولهذا كان لا بد أن يكون الدين والدين الاسلامي خاصة، بطلها وشهيدها في وقت واحد!

وما أشد الاندفاع لتعميق مفهوم هنتجتون للصدام بين الحضارات، أو لتعميق الهوة بين الدين والعلمنة، أو بين الشرق والغرب أو بين الاسلام والمسيحية إلى غير ذلك. ما أشد هذ الاندفاع في صوره المختلفة الذي ينتهي إلى التعمية والغفلة عن حقيقة المأساة، جذورها ، أسبابها، المستفيدين الحقيقيين منها بل والغفلة هما يجب عمله من استمرار شحذ اليقظة لحقيقة الصراع في عصرنا، وحسن التصدي الموضوعي الفكري والعملي له.

ولهذا... فلنحرص على الدعوة إلى الحوار الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي والعلمي، لا إلى شحذ الصراعات الدينية وتفجيرها وتغذية الكراهية العرقية والعنصرية بين الشعوب، توعية وتعميقاً للتضامن الانساني، دفاعً عن قيم العقل والحق والعدل والحرية والتقدم والإبداع والتجدد في حضارة العصر. إنها حضارة رأسمالية استغلالية جشعة، تكاد تجعل من وحدة الحضارة الإنسانية - هذا الكسب التاريخي العظيم - لا قرية كونية واحدة كما يقال - بل غابة متوحشة. ولكن مواجهتها ليست بإدارة الظهر لها أو بإنكارها أو بالمواجهة الارهابية الانتقامية لبعض مظاهرها التي يكون ضحيتها ذائماً المدنيون الأبرياء والتي لا تفضي - كما علّمنا التاريخ - إلى تغيير ايجابي جذري بل إلى عكس أهدافها. على أن مواجهة هذه الرأسمالية المعولمة لا تكون كذلك بالتسليم بها والاندماج الهيكلي السلبي فيها، وإنما بالمواجهة العقلانية النقدية الحقة وبالامتلاك المعرفي والعملي لحقائق العصر ومنجزاته العلمية والتكنولوجية، والتضامن العلمي مع كل القوى الفاعلة المنتجة والعالمة والمبدعة والمجتمعات المدنية والديموقراطية في العالم ومع اتجاهات الهيئات والتنظيمات الشعبية والوطنية والديموقراطية والدينية المستنيرة والاشتراكية والشيوعية والعلمانية والتقدمية عامة من أجل تدعيم وتنمية الممشروعية الدولية، وتفعيلها والدفاع عن الخصوصيات الثقافية والهويات القومية، وقيم العدل والسلام والحرية وحقوق الإنسان مع النضال من أجل تنمية مشترك ثقافي إنساني عالمي يتيح تحويل العولمة الراهنة إلى عولمة بديلة ديموقراطية تضامنية تحترم التنوع والاختلاف وقيم العقل والعدل والحرية وحقوق الانسان والسلام والتفتح الانساني إلى غير حدquot;.