1-أبعاد حول المفهوم:

فهد الشقيران من دبي: من أبرز المثالب التي يطرحها مفهوم الأيديولوجيا حينما نقرنه بمفهوم quot;الفلسفةquot; -وهو مفهوم صلب آخر- أن المعنى الذي يكتسبه المفهوم يذهب بنا إلى حمولته التأويلية عبر التاريخ من جهة، وإلى تأويلاته المختلفة من جهة أخرى، من هنا نعرف قيمة تفريق هيدغر بين quot;الفلسفةquot; وبين quot;الفلسفاتquot;؛ ذلك أن الفلسفة هي الفضاء العصيّ على الملء، وحينما يبني المفكّر عبر الفلسفة أفكاره يبدأ تخلّق اتجاهات متعددة في التفلسف، تنشقّ تلك الفلسفات عن الفلسفة المحصّنة ضد التدجين والاختزال، لتتحول تلك الآراء إلى مذاهب أو اتجاهات أو نظريات تكوّنت عبر الكدّ في المجال الفلسفي الرحب وهي التي أطلق عليها هيدغر اسم quot;الفلسفاتquot; ذلك أن مجرّد البحث عن بعد أيديولوجي quot;للفلسفةquot; فإن هذا يقودنا إلى الخلط بين quot;الفلسفةquot; =الفضاء، وبين الفلسفات =المذاهب والمناهج والنظريات.

2-الأيديولوجيا صداع المعنى، وتوسيع الاستعمالات:
سأتجاوز صداع المعنى، في quot;مفهوم الأيديولوجياquot; ذلك أن هذا المفهوم -استطاع رغم عمره القصير أن يكون من أكثر المفاهيم استخداماً- ويكفي أن ميشيل فاديه في كتابه المهم quot;الأيديولوجيا/ وثائق من الأصول الفلسفيةquot; كتب: (مفهوم الأيديولوجيا من أشيع المفاهيم حالياً واللفظ من أكثر الألفاظ تداولاً ولكن معناه من أكثر المعاني إثارةً للجدل، ومن ثم فهو من أقل المفاهيم ثباتاً، فهو عند البعض مفهوم بل حتى مفهوم علمي، وعند آخرين معنى مبهم ومبتذل بل يمكن حتى أن يكون سبّة) ا.هـ. وأشير أيضاً إلى الرد الطريف بين quot;الأيديولوجيا والفلسفةquot; إلى كتاب كارل ماركس quot;بؤس الفلسفةquot; والذي يأتي قبالته كتاب الفيلسوف العلمي quot;كارل بوبرquot; بؤس الأيديولوجياquot; كأن ثمة شراسة حدّ التنافي بين المفهومين، وبين الرجلين وبين الفلسفتين.
يبدو بجلاء استعصاء حصر المفهوم quot;الأيديولوجياquot; بمعنىً واحد، والتعريفات التي ساقها ndash;نقلاً- ميشيل فاديه في كتابه الوثائقي آنف الذكر تبرهن على ذلك، ربما أخذ المفهوم استقراره وانتشاره بعد التحوّل الذي شهده المفهوم مع الاستعمالات quot;الماركسيةquot; وهذا يقودنا إلى التفريق بين معاني هذا المفهوم عند كل مذهب فلسفي، وإزاء كل معالجة ٍ فلسفية، لهذا نحتاج أحياناً إلى شرح لمعنى الأيديولوجيا عند كل فيلسوف حينما نسوق تعريفه للأيديولوجيا لئلا نقع في فخ التسطيح الذي يغرق فيه الخطاب السطحي البلاستيكي في الإعلام وأدوات تكرير المفاهيم العميقة بشكلٍ سطحي. ولعل الرجوع إلى استعمالات الأيديولوجيا فلسفياً وقد سرد أبرزها عبد الله العروي في كتابه الضخم quot;مفهوم العقلquot; ومن الممكن اختصار نص العروي عن الاستخدامات الفلسفية إلى الآتي:
1-استعمال القرن الثامن عشر، حيث تعني الأدلوجة الأفكار المسبقة الموروثة عن عصور الجهل والاستعباد، حيث ينظر إلى الأدلوجة مقابل العقل الفردي.
2-استعمال الفلاسفة الألمان، هيغل والرومانسيين بوجه خاص، حيث تعني الأدلوجة منظومة فكرية تعبر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخية إلى هدفٍ مرسوم في خطة التاريخ العام. فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من من التاريخ كخطة واعية بذاتها.
3-الاستعمال الماركسي، حيث الأدلوجة منظومة فكرية تعكس بنية النظام الاجتماعي، فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من البنية الباطنة، للمجتمع الإنساني، الذي يتميز بإنتاج وسائل استمراريته.

4-استعمال نيتشه، حيث الأدلوجة مجموعة من الأوهام والتعديلات، والحيل التي يعاكس بها الإنسان/الضحية قانون الحياة. فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من الحياة كظاهرة عامة تفصل عالم الجماد عن عالم الأحياء.
5-استعمال فرويد حيث الألدلوجة مجموعة الفكرات الناتجة عن التعاقل الذي يبرز السلوك المعاكس لقانون اللذة والضروري لبناء الحضارة، فينظر إلى الأدلوجة انطلاقاً من اللذة وهي ميزة الحيوان وبالتالي ميزة الإنسان الأولى.

3-العلاقة بين الفلسفة والأيديولوجيا:
يشبّه مونرو علاقة الأيديولوجيا بالفلسفة بعلاقة التبسيط بالعلم، وذلك حينما يكتب: (الأيديولوجية في علاقتها بالفلسفة تشبه علاقة التبسيط بالعلم وعندما يُرى العلم عبر التبسيط لا يعُرف غالباً، وإن كان التبسيط مديناً للعلم بأصله) ويكتب في مكانٍ آخر: (الأيديولوجيات تشكك في الفلسفات، وهي مستمدة من فلسفات سريعة ومرتجلة، مبنية على فلسفات أعمق، يُعاد تشكيلها تلبية لحاجات عاطفية متفقة إلى حدٍ ما مع التبادل ومع تقلبات سوق المال في السياسة اليومية، وثمة سمة أساسية للأيديولوجية وهي أنها تلعب بطبيعة إنتاجها دور العلامة المسجلة للسلعة). أما ميشيل سير فيرى إمكانية كون القول الفلسفي أيديولوجياً حينما يكتب: (يجوز أن يكون القول الفلسفي أيضاً أيديولوجية).

4-الخوف من تفريغ الفلسفة من الأيديولوجيا:
من أكثر الفزّاعات التي تطرح ضد تفريغ الفلسفة من quot;الأيديولوجياquot; أن فعل التفريغ هذا يؤدي إلى انتشار الفلسفات quot;الفوضويةquot; و quot;العدميةquot; وأستشهد هنا بنصّ كتبه فشفنيرادزيه في كتابه الأيديولوجيا والفلسفة (نقلاً عن وثائق فاديه) يقول كاتباً: (في المقام الأول من الضروري أن نشير إلى اتجاه يعبّر بوضوح كاف عن تفريغ الفلسفة من الأيديولوجية، ويشمل هذا الاتجاه في الواقع تيارات عديدة، يسهل تمييزها، وتقدم حججاً مختلفة. يؤكد بعض الفلاسفة مثلاً أنه لا يمكن إنقاذ الفلسفة الحديثة إلا عن طريق تحريرها من الأيديولوجية تماماً، ويحاول البعض الآخر أن يقرّ مذهب تفريغ الايديولوجية، استناداً إلى quot;العقلنةquot; الناتجة عن التقدم التقني، والعلمي، وهذا معناه quot;نهاية الأيديولوجياquot;. أما البعض الثالث يدّعي أن التفريغ الأيديولوجي ضرورة فقط فيما يتعلق بالفلسفة وعلم الاجتماع الماركسيين السوفييتيين، وهكذا فإنهم يكتشفون بوضوح الأصل الحقيقي لحبهم المدّعي للحقيقة) ثم يكتب في مكان تالي: (لا يمكن أن نرمي الفلسفة وراء ظهورنا ومن الضروري ألاّ نفعل ذلك ولكن من الممكن جداً أن نضحي بالأيديولوجية) كما تم استخدام quot;التفريغ الأيديولوجي للفلسفةquot; كوسيلة لضرب الماركسية حينما يكتب فشفنيرادزيه:(إن مذهب التفريغ الأيديولوجي هو الرغبة في سلب التأثير المتزايد باستمرار للأيديولوجية الماركسية، ووضع مشكلة الإنسان في المحل الأول، على طريقة المدارس المختلفة، اللاهوتية، والانثربولوجية الفلسفية، الفرويدية والوجودية).
من المهم التفريق بين التعريف لمفهوم quot;الأيديولوجياquot; بالمعنى الاصطلاحي العادي الموجود في الموسوعات المتاحة، وبين تناولات المفهوم التاريخية، ومعالجاته الفلسفية، وظيفته في تحريك فهم تحرك وتخلق الأفكار وتكونها، لهذا يتم الخلط إعلامياً وكتابياً بين الأيديولوجيا quot;المفهومquot; وبين الأيديولوجيا quot;التعريفquot;، وإذا أردنا أن نتعامل مع الأيديولوجيا المفهوم فإن خصائص حركة المفهوم هي التي تشكّل معنى ووظيفة تحرك وتخلّق المفهوم داخل ركام المعالجات، لم تقدم الفلسفة موقفاً موحداً من الأيديولوجيا بقدر ما قدمت صياغات لمعالجة حركة المفهوم ذاته، وهو ما بينتْه تناولات فلسفات ما بعد الحداثة لمفهوم الأيديولوجيا وهو ما سنقف معه في كتابات لاحقة.

[email protected]