يُصدر كتاباً يُحلّل فيه ظاهرة القائمة، ويُعطي باللّوفر سلسلة محاضراتٍ حول هذه الظاهرة

تقديم وترجمة: عبداللّطيف الوراري

في عامه السابع والسبعين لا زال المفكّر والروائي الإيطالي يواصل نهمه للمعرفة. بموازاةٍ مع كتابه quot;رجاءً لا تتخلّصوا من الكتبquot;1، وهو حوار أجراه معه جان كلود كاريير، سوف يصدر لصاحبquot;إسم الوردةquot; كتابه الطريف quot;دُوار القائمةquot; 2، وهو كتابٌ يغتني بالصور والرسومات، بقدرما يُحصي جميع ضروب القوائم الفنّية في الرسم والأدب، من بروغيل إلى وارهول، ومن هوميروس إلى جورج بيرك. بهذا الخصوص، يحلُّ إيكو ضيفاً على متحف اللُّوفر بباريس من 2 نونبر إلى 13 دجنبر، وسط برنامج هائل يشمل محاضراتٍ ومعارض وحفلات موسيقية وأشرطة سينمائية. في الحوار التالي، الذي أجرته معه لوبوان الفرنسية، ينقلنا إيكو إلى واحدٍ من انشغالاته المعاصرة، والخاصّ بموضوع الكتاب في ضوء التحدّيات التي يفرضها زمننا. يستدعي إيكو، هنا، ثقافته الموسوعية بأسلوب يؤثر الإقناع في من لا زال بهم شكّ في قيمة الكتاب وخطورته. وهكذا يسوق لنا قبساً رفيعاً من هذه الثقافة: الأنترنيت، الكتاب الألكتروني، الورق، مارشال ماكلوهان، القديس أوغسطين، أرسطو، بورخيس، الويكيبيديا ومجرّة غوتنبرغ.


س.: يوحي عنوان كتابكم quot;رجاءً لا تتخلّصوا من الكتبquot; بمعنى أنّ هذا quot;التنطيفquot; ممكن...
إيكو: لا أعرفُ من عثر على هذا العنوان، لكني أٌعجبْتُ به. ويظهر أنّ شركة سوني، التي وضعت نصب عينيها كتابها الإلكتروني الجديد، قد التمست في هذا النصّ الدعاية لتشكيلةٍ من منتخباتها، لكن ما وجدْتُه روحيّ للغاية. إذا ربطنا الأمر باختفاء الكتاب، فإنّنا بصدد القصّة القديمة، ذلك الاستيهام الذي يُخالط، منذ سنوات الثلاثينيات، الأرواح المعاصرة، ولا سيّما أرواح رؤساء التحرير. ثمّة آلاف المحاضرات والمؤتمرات حول هذه المسألة، وهو ما أكرّره دائماً: الكتاب مثله مثل الملعقة والمطرقة والدولاب أو الإزميل، فحينما اكتشفناها لأوّل مرة لم نكن نرى ما يمكن أن تؤدّيه على نحوٍ أفضل. سوف يتطوّر الكتاب ربّما داخل مكوّناته، وربّما ازدادت صفحاته أكثر، وإن كان سيبقى كما هو. ولذا، كيف للمرء أن يستغني، حقيقةً، عن هذا الموضوع المكتمل الذي يمكن أن يحمله معه إلى أيّ مكانٍ شاء، ويستخدمه في أيّ ظرفٍ كان، على فنن شجرة أو في جزيرة خلاء، صانعاً منه لحظة حبّ داخل مقصورةٍ أو أثناء عطلٍ كهربائيّ؟ ثمّ هناك الرغبة واللّذاذة التي يمكن أن تجلبهما الكتب إذا لمسناها، أو أحسسْنا بها، أو تصفّحناها، أو قيّدنا على هامشها، أو ثنينا زوايا صفحاتها، ثمّ فيما بعد أعدْنا اكتشافها وقراءة ما بحواشيها، وهذا كلّه ما لا يقبل استبداله.

س.: متى اشتريْتُم أوّل حاسوب؟
في عام 1983م، إن لم يختلط عليّ الأمر: كان الحاسوب ابتكاراً لمنفعةٍ خارقة، وكم سُررْت وأنا أسافر مع مفتاح اليوسيبي لأطّلع على الأنسيكلوبيديا مساءً، ثمّ إني لستُ واحداً من النبلاء الذي يحلمُ بزمن الكتابة على الرَّق.


س.: أنتم تحدّثتم عن حُلْم الإنسانية في إمكان استمرارها. من وجهة النظر هاته، هل يُعدّ الحاسوب متفوّقاً على الكتاب؟
إيكو: يمكن لنا أن نتخيّل العالم آيلاً للزوال. فما يؤذيني حقيقةً هو هذا التلف الذي يطال طبيعة الدعامات باستمرار. فكّري في كلّ ما حصل لنا في بعض سنين: أقراص مدمجة من كلّ نوع مثل الدسكيت والسيدروم والديفيدي، إلخ. وفي كلّ وقت، وجب أن أتغيّر، وأتعلّم طرق تشغيل جديدة وأحوّل وأترجم، لأن ما بين يديّ قد انتهت صلاحيّته، لكن يبدو لي أنّ تفوُّق الكتاب أمراً لا يقبل المناقشة، وإن كنْتُ لا أخفي انبهاري، وأنا أرى مئتين وواحد وعشرين من quot;مؤلفات آباء الكنيسة اللاتينيةquot; أمكنها أن تٌعرض في قرص مدمج، وأمكننا نحن أن نطّلع عليها سطريّاً.

س.: إلى جانب النار والماء وما يلي من الكوارث، هل من الممكن أن يصير الورق نفسه إلى زوال,,.؟
إيكو: بعض كتبي التي صدرت في سنوات الستينيات أمست بالفعل أطلالاً، والعلّة في الأوراق المحمضة. لكن بوسعنا أن ننقذها، كما أنّ استعمال الورق الذي يدوم أطول أصبح منتشراً، وبالتالي لا زلت مقتنعاً بأنّ دعامة الورق هي ما يقاوم تحدّيات الزمن بشكْلٍ أفضل.

س.: هل لديكم كتابٌ إلكترونيّ؟
إيكو: ليس بعد. لا أشعر بالحاجة إليه. إنّي أفكر، حسب الرغبة، في التعب الذي تسبّبه القراءة من تلقاء الشاشة. أقول في نفسي أن الإنسان الذي لم يكن قرأ quot;دون كيشوتquot;، قد أفلح في قراءته كاملاً عبر الكتاب الإلكتروني. ماذا يُثبت هذا الأمر؟ في كلّ الأحوال، أؤكّد أنّه بقدرما نتطوّر في الكتاب الإلكتروني، بقدرما نجعله رديفاً للكتاب.

س.: ما هو الكتاب، إذن؟
إيكو: الكلمة مشتقّة من ( ليبر) اللاتينية، وتعني القشرة التي كان أجدادنا يكتبون عليها من قبل أن يستفيدوا من البُـرْدي ثمّ من الرَّق، حتّى جمع الرُّومان لفائف كانت تبدو طويلة جدّاً، ومزعجة بما يكفي، غير أنّه من العسير أن نمضي إلى وسط النصّ مباشرةً، وأن نقرأ ونكتب في الوقت نفسه، فيما أيدينا مشغولة. فالتقدّم الكبير الذي تمخّض عنه الكتاب، مثلما تعرّفنا على ذلك، كان هو ابتكار نوع خاصّ به يضمّ مجموعة من الأوراق المطرّزة والمجلّدة. ولقد افتقدنا هذا الأسلوب لما يزيد عن خمسة عشر قرناً.

س.: ألم تقكّر في أنّنا نحيا مع المعلوماتية ثورةً شبيهةً بالثورة التي شهدت الانتقال من التقليد الشفاهي إلى التقليد الكتابي؟
إيكو: سؤال دقيق يشير إلى التطوُّر الذي قطع أشواطاً. وقد تعوّدنا حقيقة أن نؤرّخ الانتقال من القراءة بصوْتٍ عالٍ إلى القراءة بالعينين في القرن الرابع للميلاد، لمّا التقى القدّيس أوغسطين بالقدّيس أمبرواز أسقف ميلانو الذي سوف يُعمّده في العام 387، وهو يُبدي إعجابه الكبير بالرائي يقرأ في صمت. لكن متى غدت عملية القراءة منتشرة؟ ثمّ داخليّة؟ وكيف لنا أن نُجيب عن ذلك بدقّة؟ هناك تاريخ أبعد يمتدّ بنا من هوميروس إلى أمبرواز، ومن أمبرواز إلينا نحن، وبالتالي لن أتورّط في تكهُّنات على إثر ذلك. ما أريد التأكيد عليه أنّنا نقرأ أكثر فأكثر,

س.: لكنّ عدداً من الدراسات تؤكّد العكس...
لا تزال وسائط الميديا تشهد احتداماً، والكثير من الناس، وأغلبهم من الإيطاليّين، لا يقرؤون، لكنّي أعتقد أن الوضع يتغيّر بفضل الأنترنيت. ماذا يفعل كلّ هؤلاء المشتبكين بآلتهم إن لم يقرؤوا؟ نحن نعيش داخل الحضارة الألفبائية، وكان الفقير مارشال ماكلوهان3 قد انخدع في العام 1962م، لمّا أعلن عن نهاية مجرّة غوتنبرغ. بطبيعة الحال، نحن نقرأ أقلّ أو نكتب أقلّ، لكنّنا نقرأ.

س.: هل يظهر لكم أن رقمنة كلّ الكتابات وكلّ الأزمنة أمرٌ ممكن؟
يمكننا أن نتخيّل بدورنا اختفاءً شاملاً لكلّ الذاكـرات في قلب تعتيمٍ هائل. فيم يُفيدنا الخزن بالمرّة؟ ذلك لا يُعفي من التعلّم، ولا من تعلُّم ما بوسعنا تعلُّمه. لكنّي أؤيّد نافذة أوسع لإدراج أكبر عددٍ من النصوص الممكنة، وأعتقد أنّ سننتهي بالتالي إلى ضبط جميع مشكلات الحقوق وغوغل وسواهما. وستكون هناك قوانين ضدّ الاحتكار تسري في كلّ مكان، ما عدا في إيطاليا طبعاً.

س.: تثيرون في هذه الحوارات مخاطر جديدة بالنسبة لتراث الثقافة الكونية. ما هي؟
أوّلاً، أريد أن أستعيد أنّ التذكير بكلّ شيء هو نقيض الثقافة: فونيس4 بطل بوخيس الذي راح يتذكّر كلّ شيء. لم يكن إلا مجنوناً. ثقافتنا نشأت مع ما كان يُقاوم النسيان والنبذ الضمني، ويُقاوم بعض آثار الماضي والكوارث. في quot;فنّ الشعرquot; يستحضر أرسطو مؤلِّفي التراجيديا الذين لا نعرفهم. هل كان هؤلاء أعلى شأناً، ربّما، من سوفوكل؟ ألم يكن هناك أعمال أساسية ضمن اللفائف التي أتى عليها حريق مكتبة الإسكندرية؟ لكن تجاوزوا عن هذا. إنّ ما يهمّ في الثقافة ليس إلّا وجود موسوعة مشتركة ينتظم ابتداءً منها الحوار، ذلك أنّ التصفيات التي أجريت تُخْبرنا بما يجب أن نُبقي عليه أو نرفضه: ثورة غاليلي لا يمكن أن تُفهم إذا نحن لم نعرف نظريات بطليموس التي دحضَتْها. واليوم، والحالة هذه، يحمل الأنترنيت الجميع بلا تحقُّق ولا ترتيب. الأنترنيت لا يبتُّ في شيء. لا يهمّ أن يفتح المرء موقعاً، وينشر فيه أيّ جنونٍ شاء. إلى حدٍّ لنا أن نتخيّل فيه ستّة مليارات من الموسوعات الفرديّة، حيث يمكن لأيٍّ كان أن ينمّي آراءه. ألا يُصبح التفاهم والحوار، تحت هذه الشروط، ممكنين لخلق التجربة المشتركة والثقافة؟ فمن يعرف أن يميّز موقعاً سخيفاً سيصبح مثله ذلك الذي لا يعرف. إنّ التهديد حقيقيٌّ والتصفية تحدّينا الكبير.

س.: هل فكّرتم في مشروع مثل مشروع الويكيبيديا؟
إيكو: هذا مثال أوضح عن ضعف الأنترنيت، إذ يمكنني أن أدخل في الغد فأنشر هذا الخطأ وتلك الأكذوبة، أو حتّى أرمي بسهامي في كلّ صوب. لكنّ الفكرة جميلة.

س.: تعرضون بمتحف اللُّوفر، من 2 نونبر إلى 13 دجنبر، برنامجاً إستثنائيّاً في موضوع quot;دُوار القائمةquot;، وتصدرون بالموازاة معه كتاباً قيّماً يحمل العنوان نفسه. ما السبب في اختياركم هذا الموضوع؟
إيكو: هذا القوائم تسحرني منذ أن كنتُ طالباً. توجد لدى هوميروس، وفي نصوصٍ من القرون الوسطى وعند جويس. عدا أنّ التعريفات في أساسها تظلُّ فقيرة: إذا قيل عن الفرس إنّه حيوان غير عاقل وفانٍ، قُلْنا: صحيح، لكن أين هي معرفتنا عنه؟ تمرّ هذه الأخيرة، في أغلب الحالات، من خلال تعدادٍ لا ينتهي من الخصائص، أي من خلال القائمة: عندما تصف الأمّ لطفلها النمر، تصفُهُ بأنّه حيوان مفترس يُشبه القطّ بهيئة أكبر، وأنّه رشيق للغاية، أصفر الجسم بخطوط سوداء، وأنّه يمكن أن يتعرّض للإنسان. كــلّا؟ تأمُّلي جزءٌ من هذه الاعتبارات، وبحثي مسبِّبٌ للدُّوار، والكتاب الذي تمخّض عن كلّ هذا، والذي يمتُّ بصلةٍ إلى كتابيّ quot;تاريخ الجمالquot; وquot;تاريخ القبحquot;، يُدهشني حتّى أنا بنفسي.

س.: كم تمتلكون من الكتب؟
إيكو: نحو 50.000 كتاباً، بما فيها 1500 بين النادر والنادر جدّاً.

س.: ما الّذي تحلم بجَمْعه؟
إيكو: توراة غوتنبرغ.

س.: ماذا تقرؤون حالياً؟
إيكو: كتاباً عن الشرطة الفرنسية في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر.

س.: لماذا؟
إيكو: هذا ســرّ.

هامش:
1. laquo; Nrsquo;espeacute;rez pas vous deacute;barrasser des livres raquo;, de Jean-Claude Carriegrave;re et Umberto Eco. Entretiens meneacute;s par Jean-Philippe de Tonnac (Grasset, 342 p.).
.2laquo; Vertige de la liste raquo;, drsquo;Umberto Eco. Traduit de lrsquo;italien par Myriem not;Bouzaher (Flammarion, 408 p.).
3.مارشال ماكلوهان [1911 ـ 1980] فيلسوف كندي هربر صاحب النظريات الثوريّة في موضوع وسائط الاتصال ومؤلف كتاب laquo;مجرّة غوتنبرغraquo; (1963). وهو الذي أطلق عبارة laquo;العالم قرية كونيّةraquo; في كتابه laquo;الميديا هي الرسالةraquo; (1967)، معلناً أن البشريّة انتقلت من laquo;مجرّة غوتنبرغraquo; ودخلت في laquo;مجرّة ماركونيraquo;.

4. في كتيّب صدر عن دار غاليمار عام 1967، أجاب بورخيس محاوره جورج شاربونيي بالآتي: quot;كتبتُ أقصوصة فونيس، لأني أمضيت ليالي طويلة من الأرق. ومثل كل الناس أردتُ أن أنام. ولم أستطع. كي ينام المرء، عليه أن ينسى قليلاً الأشياء. يومذاك، لم أقوَ على النسيان. كنتُ أغمض عينيّ، وأتخيّلني مُغمض العينين في فراشي. لكني كنت أظل أتخيّل الأثاث والمرايا، والمنزل بكامله. ولأتخلّص من كل ذلك وضعتُ فونيس التي هي نوع من المجاز للأرق، لصعوبة أو لاستحالة الاستسلام للنسيان. لأن النوم هو هذا الاستسلام للنسيان الكلي. نسيان المرء هويته. نسيان ظروفه. فونيس لم يستطع ذلك. لذا، مات أخيراً من الإرهاق. وقد ساعدتني هذه الأقصوصة على الشفاء. فقد أودعتُ كل أرقي في بطلها. ولا أعني أنني نمتُ جيدًا ما إن أنهيتها، وإنما بدأت أشفىquot;.