عبد الجبار العتابي من بغداد: اخبرني المطرب محمد الشامي انه يجري الاستعدادات من اجل البدء بعمل فيلم تلفزيوني يحمل عنوان (اللمبجي) يتناول شيئا من حياة قاريء المقام العراقي الشهير (يوسف عمر)، ادهشني العنوان لانني اعرف حكاية (اللمبجي) وتساءلت اذا ما كان الشامي يمزح ام لا، فأكد لي انه لا يمزح،واحسست ان العنوان اكثر من جريء لاسيما ان (اللمبجي) كما جاء في الاغنية التي غناها يوسف عمر من كلمات شاعر العامية الملا عبود الكرخي، يمتلك صفاته التي تثير ردود افعال قوية كون الصفات التي يحملها اللمبجي المقصود في قصيدة الكرخي مرفوضة في المجتمع البغدادي، وانها مما تخدش الحياء على اقل تقدير، قال الشامي ما زلت اصر على ان اضع العنوان المميز للفيلم ولا يهمني سواه، لانه يتحدث عن مرحلة مهمة من مراحل عاشها المجتمع العراقي في الثلاثينيات ويشرح الاحوال في احدى المناطق الشهيرة والمهمة في بغداد والتي كانت تمثل المركز المهم للعاصمة، واضاف : وما اختياري لهذا العنوان الا لانه يمثل صورة لايمكن تجاهلها من الماضي الذي لا يمكن ان يمحى من الذاكرة الشعبية وخاصة ان القصيدة ما زالت حية والاغنية منتشرة ومسموعة.

توقفت كثيرا عند الاسم وصورة الحدث وعند القصيدة ايضا التي قرأتها مجددا ووجدت فيها ما لم يمكن نشره للكلمات الفاحشة والعبارات الخادشة للحياء، مع العلم انها ساخرة، وفي سخريتها تظهر علامات الرفض لما كان عليه (داود)، وفيها من الذم الكثير ومن الهجاء الكبير له لانه من الاعمال القبيحة والسيئة والرديئة التي لا يستسيغها المجتمع والتي تحط من قدر الرجل وتبعده عن احترام الناس له، واعتقد ان الكرخي / الشاعر اراد تصوير لقطات من تفاصيل الحياة في المجتمع ورصد حالات وجد انها تحمل معها العيوب والتأثيرات ومظهر من مظاهر طبقة معينة تمثل جزء من نسيج المجتمع، لكنه بالتأكيد يرفضها،ولكنني تساءلت : هل يمكن اعتبار هذه القصيدة او الاغنية من التراث الشعبي للمجتمع البغدادي الذي لا يجوز المساس به مهما كان شكله او معناه؟

سألت الكاتب والباحث في التراث الغنائي كمال لطيف سالم السؤال الذي عنّ لدي قبل البدء بالكتابة عنه فقال : (لا شك ان الاغنية او القصيدة اصبحت جزء من التراث ولا يمكن ان يمسخ التراث او يمحى سواء كان من الجانب الايجابي او السلبي)، وهذا ما جعلني اسأله عن (داود اللمبجي) اولا،هذا الذي ادخله الملا عبود الكرخي التاريخ،فقال : مهنة اللمبجي مأخوذة (اللمبة) التي هي المصابيح النفطية التي تستخدم آنذاك في الازقة، وعادة مايكون عامل هذه المهنة طويل القامة حتى يستطيع ان يصل الى (اللمبات) التي كانت تنتشر في ازقة بغداد او (درابينها) التي تشبه الفوانيس او (اللالة)، وبعد غروب الشمس يأتي اللمبجي ومعه سلّم يصعد عليه ليمسح زجاج اللمبات ويضع في خزانها الصغير نفطا ويوقدها، وهذه كانت منتشرة في عدة امكنة من المحلة البغدادية.

واضاف : اما (داود) فكان احد الذين يوقدون هذه اللمبات في منطقة (الميدان)، والتي كان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم (كوك نزري) اي منطقة اللهو، بعدها اطلق عليها لقب (الكلجية) اي (لذة المرتفع) او لذة المكان العالي، ويقال ايضا ان كلمة (الكلجية) هي : (مركبة من كلمتين : (كلّه) بمعنى (رأس) و(جيّه) بمعنى مكان، ومعناها (مكان الرؤوس) حيث (ان السفاح المغولي تيمورلنك اثناء إحتلاله بغداد قام بقطع رؤوس العديد من مواطني المدينة الأبرياء بغية إرهاب اهلها، وان الرؤوس جمعت فوق بعضها البعض لتكوّن هرماً، ويقال ايضا ان المنطقة بعد إنتقال الغانيات اليها للعيش والعمل أصبحت تأخذ معنى اخر عند العامة، اي المكان الذي تزاول فيه الدعارة)، فكان داود بالاضافة الى عمله كـ (لمبجي)، يقود مجاميع من المومسات، اي انه يعمل قوادا، ولم يكن هذا في الوقت يمثل عيبا، يقال ان داود كان شكله (حلو) وكان يدافع عن اولئك المومسات حيث يروج لهن، لبضاعة النساء، لم يكن من (الشقاوات او الفتوات) ولكنه كان يحترمهن مؤكدا، ويقال انه (حسب ما جاء في القصيدة) كان يلف رأسه بـ (يشماغ أحمر) والذي هو غطاء الرأس المعروف باللفة البغدادية المشهورة بـ (العصفورية) حيث كانت توجد عدة لفات لليشماغ، وحين مات داود خرجت خلفه عشرات المومسات في منطقة الميدان يلطمن عليه وهن يمشين وراء جثمانه حزنا عليه واكتئابا على فراقه، وبالمصادفة.. كان الشاعر الملا عبود الكرخي جالسا في مقهى فشاهد الجنازة وقد استرعى انتباهه فيها وجود المومسات، فما كان منه الا ان سأل عما يحدث فجاءه الجواب : انها جنازة داود اللمبجي، وبالتأكيد ان الملا الكرخي لديه معلومات او معرفة بداود فما كان منه الا ان نظم هذه القصيدة الجريئة التي يقول مطلعها :

(مات اللمبجي داود وعلومه... قومو اليوم دنعزّي فطومه
مات اللمبجي داود ويهوّه.... ويهوّه عليكم يهل المروّه)

واشار كمال لطيف سالم الى ان هذه القصيدة سرعان ما حفظت وانتشرت على الافواه خاصة انها لشاعر معروف بقصائده الساخرة والجريئة على الرغم من انها لم تنشر في صحيفة، وكان ألسنة العامة من الناس هي الوسيلة في انتشارها ورواجها وكذلك في الحفاظ عليها من الاندثار والنسيان، ويقال انها نشرت فيما بعد للمرة الأولى في ديوان الكرخي الموسوم (ديوان الأدب المكشوف) الذي طبع بنسح قليلة جدا.

وتابع : اول من غنى القصيدة هذه مطرب المقام المعروف رشيد القندرجي، ولكنها لم تسجل على (قوان) او اسطوانة، وكان قراء المقام من اليهود الاكثر ألحاحا في ترديد هذه الاغنية ولا اعرف لماذا، اما المطرب يوسف عمر المعروف بذكائه وحساسيته المفرطة في اداء النمط الغنائي الشعبي الاصيل فقد غنى هذه الاغنية في حفلة خاصة (يقال انها بحضور وزير الصحة آنذاك)، وانها سجلت من دون علمه، مع العلم ان هناك العديد من الاغاني المماثلة في ذلك الوقت مثل (عفاك.. عفاك على الفند (قوة الارادة) العملتينو، انا تعبتو وانا شقيتو، وعلى الحاضر اخذتينو).

وأوضح : المنطقة (الميدان) كانت مشهورة بالملاهي والمسارح والمغنيات في فترة العشرينيات والثلاثينيت، وكلنا يعرف (ملهى الهلال) الذي يعد احد المواقع المهمة لاستقطاب المغنيات الشهيرات من منيرة الهوزوز الى سليمة مراد وغيرهما الكثيرات، وهذه المنطقة كانت منذ زمن العثمانيين وبعد الاحتلال البريطاني 1917 شهدت مجيء المطربات التركيات والمصريات واشهرهن (ماريكا ديمتري).

القصيدة نقل فيها الكرخي وقائع واسماء عن تلك الطبقة من المجتمع في ذلك الوقت، مثل (فطومة) زوجة اللمبجي، و(البادي) مساعده، وبعض اسماء النساء اللواتي كان يسمسر فيهن، كما نقل عدة مصطلحات ابتكرها المجتمع مازالت موجودة ومتداولة الى حد الان مثل (الكرن) اي بالفصحى (القرن) الذي لدى بعض الحيوانات، والذي اصبح صفة لمن يمارس هذه المهنة من الرجال، وفيها اشارات مذمومة ومعروفة في المجتمع العراقي بشكل عام المعروف عنه انه مجتمع محافظ يرفض السلبيات والظواهر السيئة، فالصفات التي يطلقها على اصحاب هذه المهنة هي صفات الاحتقار.

وهذه بعض ابيات من القصيدة :

مات اللمبجي داود وعلومه كومو اليوم دنعزّي فطومه
مات اللمبجي داود ويهوّه ويهوّه عليكم يهل المروّه
كِضه عمره بالكواده ولا سوّه غير الطيب مكرن شاعت علومه
والمسكين الله يساعده إلبادي ضَل ينعى عليه ويشبه البومه
بنُص الكلّجيه يمشي يتبختر يَمرَدرَد ويَمروكَل ويمحبتر
يشماغ عصفوري يلف أحمر ألف وَسفه سلاب وظلّت هدومه
عِمت عيني عليك اليوم يا ديّوس يللي نازع الغيرة مع الناموس
يحِك إلهه لفطومه عليه تموت لولا تنام ويّاه بفرد تابوت
ما تِلكه مثل داود هَل عكروت عِدهه خِدمته يا ناس معلومه
كومو دنعزّي فطم وزهَيّه وبنت النجفي ومريم الكرديه
هل داود ما ظِن بعد إله جيّه ريت الكلجيّه اليوم مهجومه
يِخسِل بالطشِت جويهل وشفاف عِمت عيني شبيّب من حياته إشّاف
صِدَك لو كال يطلع جُك للندّاف يطلع شِبه جرّة عَرَك مكطومه
يفطومه دِخَللي عاد بالضِحضاح منّج يا فقيره الجبش غاب وراح
أبو كِرن الكُوي ومعجعج ونطاح إله وكفات بالدربونه معلومه
إسم الله عليك يا داود أبو سلمان يكويويد يا هبّار يا كرنان
إنته يا خركلي عظيم الشان إسمك شاع بالبصرة وتنّومه
يحِك إلهه فطومه ثياب السود تلبس علمعفرت لمبجي داود
أبو كرن الجبر من أحسن الموجود كل كحبه عليه اليوم مألومه
شَدعي عالزمان منين إجاك البين خلّي البيك يتنعّم وياكل زين
إنته بزمانك جان إلك كرنين هذا أربعه مشندخات طوال