كامل الشيرازي من الجزائر: حفل العقد الأول من القرن الحالي بتماوجات عديدة في سماء المنظومة الثقافية في الجزائر، وخلافا للركود والانكماش اللذين ألقي بظلالهما على الثقافة الجزائرية في تسعينات القرن الماضي بفعل احتدام الأزمة الأمنية، كان المشهد الثقافي أكثر انتعاشا مع انبعاث مهرجانات مسرحية وأدبية وتنظيم الجزائر لاحتفاليتين ضخمتين هما quot;سنة الجزائر في فرنسا 2003quot; وquot;الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007quot;، بيد أنّ كثيرين يرون بانطواء الحصيلة العامة على منجزات وتعثرات، وينتقدون الفعل الثقافي المحلي تبعا لتكرّس ثقافة المهرجاناتية والاستهلاك، بدلا من فتح النقاشات الكبرى حول إشكالات لا تزال تحول دون ابتعاث حقيقي لمنظومة ثقافية جزائرية حداثية.

شهدت quot;سنة الجزائر في فرنسا 2003quot;، إصدار مئات الكتب وتنظيم عدد غير محدود من المنتديات، في سابقة لم يعرفها القطاع الثقافي الجزائري من ذي قبل، وكانت لهذه الطفرة إسقاطاتها على المسرح الجزائري حيث جرى إنتاج نحو 45 عملا مسرحيا، إلى جانب إعادة بعث مهرجان المسرح المحترف وعشرات الاحتفاليات الركحية الأخرى إلى جانب 30 مهرجانا محليا للشعر والأدب والتراث.
على المنوال ذاته، شكّلت تظاهرة quot;الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007quot; ثورة ثقافية ndash; على الورق- للنهوض بواقع راكد، بإقدام الجزائر على طبع ألف عنوان جديد بمعدل وصل ثلاثة ملايين نسخة بينها ستمائة كتاب كلاسيكي لمؤلفين جزائريين، بينها 90 ترجمة لروائع الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، إضافة إلى إصدار 40 عنوانا لكتب فاخرة عن المدن الجزائرية، فضلا عن 365 إصدارا جديدا في انتظار الشروع في إعادة طبع 600 كتاب كلاسيكي لكتاب جزائريين، 90 منها مترجمة عن روائع الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، إضافة إلى إعادة طبع بعض المؤلفات العربية المشهورة، كما تمّ إصدار 350 عنوانا بينها 200 عنوان جديد يحكي عن التراث الجزائري.
وفي سابقة أدبية لم تشهدها العواصم الثقافية العربية التي نظمت من قبل، أسست التظاهرة أيضا لـquot;الإقامات الإبداعيةquot;، حيث جرى تنظيم نحو 30 إقامة إبداعية عربيةquot;، وهي توليفة فريدة من نوعها جمعت عشرات الشعراء المبدعين من الجزائر، سوريا، لبنان، اليمن، العراق، البحرين، مصر، ليبيا، المغرب، وتونس، واختصت بالاشتغال على نصوص شعرية بألوانها العمودية والنثرية والشعبية وكذا قصيدة التفعيلة، على درب تفعيل سياق ثقافي عربي مشترك، وتوّجت المبادرة بطبع دواوين شعرية مشتركة، فضلا عن عقد quot;ليالي الشعر العربيquot;.

ورغم تعهدّات عرّابي الثقافة الجزائرية ببعث مشروع الألف كتاب وكتاب، وإنهاء إشكالات الكتاب في الجزائر، والتأسيس لفعل ثقافي حقيقي، إلاّ أنّ quot;دار لقمان عادت إلى سابق عهدهاquot; وكان السبات عنوانا عدا بعض الاستثناءات خلال سنتي 2008 و2009، ولم يكن quot;كرنفالquot; المهرجان الثقافي الإفريقي المُقام الصيف الماضي ليغيّر من واقع الأشياء.

من اليمين الى اليسار: واسيني الأعرج، أحلام مستغانمي وياسمينة خضرا

ويرى الأستاذ محمد عباس أنّ الجزائر لا تزال تفتقد إلى استراتيجية ثقافية جادة'، ويشير إلى إشكالية الامتداد ومشكلات التأطير والبرمجة وكذا تهميش النخب، ويبرز الأستاذ quot;كمال جايبquot; أهمية خروج سلطات بلاده من الاعتباطية إلى تسطير سياسة ثقافية واضحة تواكب الأحداث، وتستمد عنفوانها من التراث الثقافي العربي الإسلامي الجزائري، بإحيائه ونفض الغبار عنه.

ولا يخفي المسرحي quot;عبد الغني شنتوفquot; قلقه لتعثرات غير مفهومة، فإلى غاية العام 2009 ورغم كل الذي قيل، لا يوجد قانون للكتاب ولا قانون للسينما، ولا حل لمعضلة النص في المسرح الجزائري.

بالمقابل، ظلّ اتحاد الكتاب الجزائريين محنّطا، رغم ما شهده من حراك نسبي بين عامي 2000 و2003، وبقيت هذه الهيئة محلّ تجاذبات قضائية وتنابز امتدّ ليحيي صراعا قديما بين المعرّبين والفرنكفونيين.


نجومية وطار والأعرج

رغم معاناته من المرض وملازمته الفراش في أحد المشافي الباريسية منذ أشهر عديدة، إلاّ أنّ أب الرواية الجزائرية quot;الطاهر وطارquot; ظلّ حاضرا في عمق المشهد الثقافي الجزائري من خلال إصراره على الإبداع الدائم، فكان

ثم أصدر وطار العام 2007 الجزء الأول من مذكراته quot;أراه...الحزب وحيد الخليةquot;، وهو مؤلف أثار الكثير من الضجيج، لما احتواه من معلومات تٌنشر لأول مرة عن السيرة الذاتية لوطار وشبابه الأول، ولقيت المذكرات تجاوبا لاعتماد صاحبها على كتابتها بأسلوب قصصي، وإبعاده السياسة والطابوهات بأسلوب أدبي قريب من الرواية.

كما سجّل وطار حضورا متميّزا، بقصته ''الضجر'' التي وصفها بـ''السريالية''، وتصريحاته المثيرة على غرار ما قاله عن quot;فشل الفرنكفونيين في تسيير الجزائرquot; ودعوته الجريئة لـquot;رحيل النظامquot;، وتقديره أنّ quot;اليسار لم ينته وسيعود بشكل جديدquot; بجانب جزمه إنّ quot;غالبية الأحزاب السياسية في الجزائر هشة وخائنةquot; (..).

وكان خاتمة العقد مسكا، حيث تحصل شيخ الروائيين الجزائريين على جائزة الرواية لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية لـ2009، حيث أبان وطار عن قدرة تجريبية هائلة مزجت الأصالة بالواقع الاجتماعي، ناهيك عن جرأته في بناء الشخصيات والأحداث في معالجة قضايا محلية وبيئية بلغة متطورة تقارب في روحها العامة كلاسيكيات الرواية.

من جهته، كانت للروائي الجزائري البارز quot;واسيني الأعرجquot; (55 عاما) بصماته أيضا، حيث خطف الأضواء إثر نيله جائزة المكتبيين عن روايته quot;كتاب الأمير ومسالك أبواب الحديدquot;، وهو أول كاتب معرب يفتك هذه الجائزة، كما انتزع الأعرج جائزة الشيخ زايد للكتاب، وجلبت روايته الجديدة quot;سراب الشرقquot; اهتمام النقاد.

كما أبدع واسيني في أعماله quot;سيدة المقامquot; وquot;ذاكرة الماءquot; وquot;وقع الأحذية الخشنةquot;، quot;وquot;سراب الشرقquot;، وكانت له كذلك وصلة سينمائية أيضا بكتابته سيناريو الفيلم الضخم quot;الأمير عبد القادر الجزائريquot; الذي لا يزال ينطلق عملية تجسيده.

حضور خاص للزاوي وخضرا

خطف الأديب الجزائري quot;أمين الزاويquot; الأضواء خريف العام الماضي، حينما جرى تنحيته من إدارة quot;المكتبة الوطنية الجزائريةquot; التي ظلّ يسيّرها باقتدار منذ سنة 2003 وحوّلها إلى صرح ثقافي من طراز خاص، لكنّ دعوته للأديب الكبير quot;أدونيسquot; إلى الجزائر وما أطلقه الأخير من آراء، لم يرق للبعض، وتمّ في حادثة مثيرة للجدل إقالة الزاوي في أعقاب حملة طالته.

بيد أنّ د/الزاوي لم تلهه هذه الواقعة عن إتمام روايته quot;وليمة الأكاذيبquot; التي حوصلت الوقائعية الاجتماعية والسياسية والثقافية للجزائر والعالم العربي خلال ستينات القرن الماضي، ويروي العمل قصة شاب يدعى quot;كسيلةquot; ينشأ في إحدى قرى الجزائر العميقة، ويبدأ وعيه ينضج شيئا فشيئا خلال فترة تميزت بتاريخين مميزين هما 19 يونيو/حزيران 1965 تاريخ الإطاحة بالرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلا، والخامس يونيو/حزيران 1967 الذي يمثل عام النكسة العربية أمام الجيش الإسرائيلي وسقوط أسطورة الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.

وعرفت المكتبة الوطنية الجزائرية بحر سنة 2007، تنظيم quot;الملتقى الدولي الأول للكتاب العرب في المهجرquot; وهو موعد شارك فيه 70 كاتبا من خيرة المبدعين والمفكرين العرب المهاجرين من 25 بلدا عربيا يقيمون في أوروبا والأميركيتين، بينهم: خلدون شمعة وسلمى خضراء الجيوسي وعبد الكريم كاسب، ومنعم فقير، إلى جانب عبد القادر بن عراب، وأزراج عمر، وفضيلة الفاروق وفاروق يوسف وعبد القادر أعراب ويوسف عسلي في محاولة لرصد كل ما له علاقة بالكتاب العرب في المهجر منذ بداية القرن العشرين حتى الآن.
وشهد ذاك المحفل إصدار أنطولوجيات معرّبة لمختلف تصانيف الشعر والنثر المهجري، وكذا سلسلة مختارة ضمّت أجود منتخبات المبدعين العرب المغتربين، بما فيهم الرعيل الأول مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وفوزي معلوف ونسيب عريضة وكاتب ياسين ومحمد ديب ومالك حداد، إضافة إلى هشام شرابي وادوارد سعيد وسلمى الخضراء الجيوسي وأنطوان زحلان ووليد الخالدي ونعومي شهاب.
من جانبه، برز إسم الكاتب quot;ياسمينة خضرةquot; (اسمه الحقيقي محمد مولسهول)، حينما حصل على جائزة الغونكورquot; الفرنسيةquot; وبسبب كتاباته المثيرة عن الإرهاب والتطرف، وحُظيت روايته quot;سنونوات من كابولquot; برواج كبير، إلى درجة احتلالها المركز العشرين في مبيعات الكتب الأجنبية في الولايات المتحدة الأميركية، كما أثارت رواياته quot;نعاج السيدquot;، وquot;بنت العم كافquot; وquot;الذئابquot; وquot;الاعتداءquot; كثيرا من الجدل في الجزائر وفرنسا، ورغم عدم نيل خضرا الكثير من الجوائز الأدبية، لكنه عاد من بعيد حين عينه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مدير لمعهد العالم العربي بباريس.


حب أحلام وصخب بوجدرة

كان للأديبة الجزائرية المغتربة أحلام مستغانمي بصمتها هي الأخرى، حيث أطلقت صاحبة الثلاثية الشهيرة quot;ذاكرة الجسدquot;، quot;عابر سريرquot; وquot;فوضى الحواسquot;، روايتها quot;الحب الخاصquot; التي خرجت كليا عن الجزائر وعن الشخصيات الجزائرية، من خلال أبطالها اللبنانيين وأحداثها الدائرة في لبنان، ومعالجتها لإشكالية الحب في العالم العربي.

كما خطفت quot;أحلام مستغانميquot; الأضواء إثر انتقاداتها اللاذعة لسلطات بلادها، وعدم استساغتها مآلات بلادها، حيث أبدت مستغانمي ألما لبلدها الذي يبارك الأيدي التي تنهب وتقاصص تلك التي تكتب، كما استغربت كيف تترك الجزائر كتابها يواجهون مرضهم وقدرهم لوحدهم، وقالت إنها تشكّ في النوايا الحسنة لوطنها تجاه المبدعين.
وكان الكاتب الجزائري الآخر quot;رشيد بوجدرةquot;، في الواجهة بحضوره (الصاخب) من خلال روايته quot;شجر الصبارquot;، وتصريحاته الجريئة، على منوال قوله: المثقف مبهور برجـل السلطة، ولا يقل سلطوية عن الحاكم، وتقليله من أثر شيخ الرواية العربية quot;نجيب محفوظquot;، بوصفه للراحل بأنه كان:quot;رجلا قديما..أعطى رواية قديمةquot; (..).

quot;مولود فرعونquot; وquot;مصطفى الأشرفquot; عادا من بعيد !
الأديب الجزائري الراحل مولود فرعون صاحب عمل quot;الأرض والدمquot;، استعاد هو الآخر نجوميته بعد قرابة نصف قرن عن رحيله، إثر إجماع نقاد جزائريين، على تصنيف روايته quot;نجل الفقيرquot; كأهم رواية وطنية في الجزائر، وقال من اشتغلوا على العمل الذي أبدعه فرعون العام 1960، وحظي بالنشر بعد نحو نصف قرن، أنّه بالفعل باكورة روائية متفردة كتبت بأسلوب بسيط ينم عن عمق إنساني كبير.

وتبحث رواية quot;نجل الفقيرquot; سياق الشد والجذب بين الجزائر وفرنسا، أين يظهر فرعون كمثقف سئم من فرنسا التي تدير ظهرها للسكان الأصليين، وقرر أن يلتزم بفكرة الاستقلال، وتدور أحداث الرواية عقب نهاية quot;معركة الجزائرquot; الشهيرة شتاء 1957، بطلها مدير مدرسة جزائري يغادر الريف ويستقر في الجزائر العاصمة حيث عين مديرا لمدرسة بحي شعبي، يتعرف إلى مدرسة فرنسية تدعى فرانسواز، لتتشعب الرواية في سياقات غير منتهية عن الهوية والأنا المستقل والاستلاب الاستعماري.

ويعلّق الأستاذ محمد لخضر معقال، أنّ فرعون الذي اغتالته منظمة الجيش السري الفرنسية المتطرفة في 15 مارس/آذار 1962، كان يمكن لروايته لو صدرت قبل نصف قرن أن تثير الكثير من اللغط وسوء الفهم من قبل عرّابي ثورة التحرير ومنظري جبهة التحرير الوطني، كما يرى معقال إنّ العمل تناول البعد المرتبط بالهوية على أساس هويات متعددة وليس بناء على هوية واحدة.

من جهته، زاد المفكر الجزائري الراحل quot;مصطفى لشرفquot;، نجومية غداة موته، حيث امتدح متابعون للشأن الثقافي في الجزائر، شخصيته الإنسانية الكبيرة، ما أهلّه للانتماء إلى فصيلة من المثقفين الذين دافعوا عن الإنسان وحقه في الحرية، وحق تقرير كل الشعوب في تقسيم خيرات الكرة الأرضية بالعدل، علما أنّ الأشرف كان أكثر المفكرين والفلاسفة مقروئية خلال الخمسينات والستينات في أميركا الجنوبية وإفريقيا، ما دفع السلطات الفرنسية أيام احتلالها الجزائر، تمنع تداول كتاب الأشرف الذي حمل عنوان quot;الجزائر، أمة ومجتمع في افريقياquot;.
وارتبط الأشرف أيضا كناقد أدبي بالرواية الجزائرية، حيث جرى اتخاذه مرجعا أساسيا لتحديد تقنيات ارتباط الرواية بالمدارس الجمالية في أوروبا، مع الإشارة إلى أنّ الأشرف اشتغل على الأدب الشعبي والحكايا الشعبية البربرية من حيث تجلياتها وقيمها الجمالية والسوسيولوجية، وركّز في أبحاثه على مآثر علمين بارزين quot;محمد بلخيرquot; وquot;بن قيطونquot;.

واحتوت لائحة الفاعلين الثقافيين البارزين خلال العقد الأول من هذه الألفية، إسم المؤلف الجزائري quot;عبروس منصورquot; إثر قيامه بتأليف أول قاموس جزائري للفنانين، في شكل موسوعة فريدة، عنيت بتوثيق مآثر أكثر من ألف وسبعمائة فنان جزائري من مختلف ضروب: الفن التشكيلي والرسم الكاريكاتوري والتصوير والتصميم الفني.

واقترح الكاتب quot;منصور عبروسquot; في مصنفه الشائق quot;قاموس الفنانين الجزائريين 1917 ـ 2006quot;، بيبليوغرافيا تفصيلية وعرض السير الذاتية لـ1705 فنانين جزائريين، بينهم 1324 فنانا تشكيليا، 118 فنانا متخصصا في الفن الإسلامي، إضافة إلى 151 مصمما و112 مصورا.

وكان للمفكر الجزائري الكبير محمد أركون صرخة مدوية في مؤلفه quot;إنسانية وإسلام، كفاح واقتراحات''، بقوله إن النسيان أهم ما ميز تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر، وتساؤل المفكر الجزائري عن شكلانية الاتصال القائم بين المجموعات اللسانية والثقافية والعقائدية بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وبحكم وعيه بمهام المثقف النقدي، خاض أركون بحثا محموما عن المعنى وفضح آليات التمويه وإرادات القوة والهيمنة التي تتستر وراء أشكال الخطابات والممارسات السائدة في الفضاء الاجتماعي، وحث أركون مجايليه على طرح الأسئلة الحارقة المتعلقة بالمواطنة والحريات وعدم الخلط بين الديني والدنيوي والتفكيك النقدي للأيديولوجيات المدمرة اليوم.