فهد الشقيران من دبي: مع ثورة الإنترنت تغيّرت وسائل التعبير وطرق التصريح، بعضهم رأى في المساحة التي فرشتها الثورة المعلوماتية تجسيداً لنبوءات quot;التيهquot; التي صدح بها فلاسفة القرن المنصرم الذين عاصروا اضطرام نار الحرب العالمية الثانية، وبالأخص الفيلسوف الألماني quot;مارتن هيدغرquot; حيث مارست البدائل زحزحة الأصول، وحلّت التقنية محل الإنسان: في البنوك، والشركات، والمطاعم، والمقاهي؛ غدت الماكينا أو الآلة الألكترونية هي البديل الحالي للأداة والتي كانت تصنع من مواد بدائية، لم تعد مثلاً quot;الأباريقquot; هي التي تسقينا الشاي، بقدر ما أصبحنا نشربه عن طريق الآلات، كما استبدلت الشركات الإنسان بالآلة الخادمة التي تكاد تقوم بنفس ما كان يقوم به الإنسان وربما على نحو أدق مما كان.
لقد توطّدت علاقة الإنسان بالجمادات أكثر فأكثر مع افتتاح قرننا الجديد، أصبحت علاقتنا بأجهزة الاتصال والكمبيوتر، وحميميتنا إزاء المستندات والملفات التي نحتفظ بها في أجهزتنا تفوق علاقاتنا بالبشر، أصبحت الجمادات جزءاً من حياتنا اليومية، حتى تغزل الناس يتغزّلون بأدواتهم الجامدة، باتت أدواتهم جزءاً من حياتهم اليومية. فأكثر احتياجاتنا اليومية نحلها بالآلات، بعد أن كنا نحلها بأيدينا، أو بالأدوات البسيطة التي تصنع باليد. كأن الإنسان الحديث يتخلى عن عرشه، لتأتي الآلة بكل وهجها وسحرها لتكون سيدة العالم. ولا عجب فإن الآلة التي كان يسيطر عليها الإنسان انفلتت من يده ndash;كما يعبّر هيدغر- بل أصبحت هي التي تدبّره وتسيّر مساره في الغالب، وإن عطلاً فنياً في أجهزة التقنية المتصلة بالاقتصاد كفيلة بإبادة أرصدة أو إنقاصها.
من جهةٍ أخرى أصبحت الآلات وسائل للتعبير عن النوازع الذاتية الكامنة، والتي ظنّ الناس أنها لم تكن موجودةً في يوم من الأيام، وأذكر أن صديقاً يعمل في مجال التعليم أخبرني عن أهوالٍ وجدت داخل جوالٍ يملكه طفل لم يتجاوز بعد مراحل التعليم الأولى، كما أن الأخبار التي تنشر في الصحف عن الاغتصاب والخطف والجرائم الأخلاقية وانهيار الذات أمام الاشتهاء الرخيص خير دليل على كون تلك الآلات لا تحوي بذاتها شروراً بقدر ما تعكس شرور من أساء استخدامها. كما أن ظهور الكامن المرضي الذاتي عبر الآلة تجلى في تطوّر أساليب السرقة، حيث أصبحت السرقة تتم عبر الأجهزة والفيروسات وسرقة أرقام بطاقات الائتمان بينما كانت السرقة أكثر بدائية من هذا بكثير. وكل تلك الاستخدامات البشعة تأتي لتعبر عن دنوّ مستوى الإنسان منذ القدم.
لقد بجّلت مرحلة الحداثة الإنسان بشكلٍ ساهم في فجوره وطغيانه، حتى قاد الحروب العالمية، وسفك الدماء، ومارس أبشع الأدوار الضارة، ولو كان الشيطان متجسداً في مخلوق لما وجد أقرب من الإنسان شبهاً به، لهذا أحترم الوصف الذي طرحه علي حرب على الإنسان في كتابه quot;الإنسان الأدنىquot; وبالذات إنسان العصر الحديث، وهو الطرح الذي ادعى البعض أنه طرح quot;عنصريquot; بينما هو طرح فكري يدخل في إطار التعبير الملائم عن وجهات النظر، إن التبجيل الذي خلعته الحداثة على الإنسان بدأً من الأب الأكبر quot;ديكارتquot; وانتهاءً برموز الفلسفة المثالية الأخلاقية النموذجية ليس سوى الشرارة الأولى للتحريض على منح الإنسان فرصة الانخداع بذاته لينفلت ضرباً وسفكاً. غير أن الفلسفات الجديدة-والتي تتهم من قبل بعض المدرسيين الحداثيين بالمسؤولية عن الحروب والشرور- كانت أكثر نقداً للإنسان، صحيح أن الفلسفة النيتشوية مثلاً كانت تبحث عن الإنسان السوبرمان، أو الإنسان القوي، لكنها كانت في ذات الوقت تريد إعادة الإنسان إلى بريّته بعيداً عن الزيف الأخلاقي، لقد كانت فلسفة كاشفة، ولم تكن فلسفة تبحث عن خلق نماذج مسبقة مركبة في الذهن كما يقرأها البعض.
إن المسار الذي تتخذه البشرية حالياً من جهة علاقتها مع التقنية والآلة هو مسار مؤثر، ذلك أن آثار التقنية لم تكن بعيدة عن التأثير على العلوم؛ حتى طريقة الرجوع إلى المصادر وسبل البحث عن المعلومة تغيّرت فأصبحت الروابط الانترنتية تحلّ محل المراجع والمصادر في الأبحاث، وأصبحت البرامج الإعلامية متاحة على الروابط الانترنتية، بمعنى آخر: حتى سبل البحث عن المعلومة تغيّرت أصبحت الكتب الحديثة مشحونة بالإحالات على الروابط، وأصبحنا نستخدم الإيميل بديلاً لصندوق البريد والفاكس، وأصبح الناس يبحثون عن بعضهم البعض في مواقع التعارف quot;الفيسبوك مثلاًquot; بعد أن كانوا يبحثون عنهم في الشوارع والبيوت، تغير العالم كله من حولنا، تغير جذرياً، أصبحنا أقرب مما نتخيل، أصبحت وسائل الإتصال متاحة، لكن النفوس والذوات مغلقة، لم نكن نشكو من سوء وسائل الاتصال وضعف السبل، بقدر ما كشفت التقنية أن الإنسان نفسه يعبر عن أزمته الاتصالية مع الإنسان الآخر، وهذه هي المشكلة، أن كل التحليلات تعود إلى أزمة الأخلاق التي لم تعرف بعد، بينما كانت الفلسفة على طولها تبحث عن حل لمشكل الأخلاق، لخيط واضح يمكن أن يكون المسار لفهم طبيعة تصرف الإنسان وحدود طموحه، وتلك هي معضلة الإنسان، معضلة الأخلاق، معضلة تبجيل الإنسان، التبجيل الذي كشفت التقنية بكل فروعها زيفه الشديد.