حوار مع الشاعر فتحي عبد السميع
محمد الحمامصي من القاهرة: صدر للشاعر فتحي عبد السميع عدة مجموعات شعرية من أهمها quot; الخيط في يديquot; وquot;خازنة الماءquot; وquot;تقطيبة المحاربquot;، وترجمت بعض نصوص للألمانية عن طريق الورشة الإبداعية ببرلين بالاشتراك مع معهد جوته، وتم اختيار بعضها وطبعت علي اسطوانة باللغتين العربية والألمانية ضمن مختارات للشعر العربي، كما فاز في منتصف التسعينات بعدد من الجوائز الأدبية مثل جائزة المركز الأول في ديوان شعر الفصحى قي المسابقة المركزية للهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1994 وغيرها، كما شارك بأبحاثه في العديد من المؤتمرات ومن هذه الأبحاث: المكان و تجليات الموروث الشعبي، الوعي الشفاهى والوعي الكتابي، المروى له في الخطاب الروائي، تقنيات السرد وأفق الدلالة، أزمة الهوية العربية، سينوغرافيا النص السردي، الهوية المعلقة، وفضلا عن ذلك له مجهودات ثقافية كثيرة مثل تأسيس جماعة أفراس الأدبية، والإشراف علي تحرير عدد من الكتب الغير دورية مثل مجلة أفراس، ومجلة بردية،والجنوبي، ساهم في العديد من المهرجانات والمؤتمرات مثل مؤتمر أمل دنقل وغيرها، وقد انتخب أخيرا أمينا عاما لمؤتمر أدباء مصر أكبر تجمع أدبي في مصر، وفي هذا الحوار نتعرف علي رؤاه وأفكاره وتجربته وما ينتظر أن يقدمه للمؤتمر هذا العام.
** في شهادة لك قلت أن الشعر يحولني إلي إنسان كبير، ما مفهومك لذلك الإنسان الكبير؟
** الشعر وببساطة وسيلة تجعل حياتي أجمل وأعمق، وسيلة أحافظ بها علي إنسانيتي، وإمكانية الوجود الفاعل، والقدرة على تجاوز كل ما يحول حياتى إلى موت، الشعر ببساطة يحولني إلي إنسان كبي، أو علي الأصح يحررني من شعوري بالضآلة ويعيدني إلي طبيعتي.
عندما كنت صبيا وقفت كثيرا عند العبارة التي تتحدث عن القلب الإنساني بوصفه الوعاء الأكبر الذي يمكن أن يتسع لما لا تتسع له السماوات والأرض، وكنت أفكر كثيرا في ذلك الملاك الذي يقلب الأرض في كفه كما يقلب أحدنا العملة المعدنية، أفكر في قبيلته التي لا حصر لعددها، وشعورها وهي تسجد للإنسان الضئيل جدا الذي تعلم انه سيملأ الأرض فسادا وسفكا للدماء، وقد ترسخ لدي من وقتها شعور قوي بأن الإنسان أكبر بكثير مما نري، وكان هذا الشعور يظهر عندما أنشغل بكتابة قصيدة وفي تلك اللحظات التي تسبق خروج الكلمات مباشرة، وحتي هذه اللحظة اشعر أن البعد الشعري في الإنسان يكشف عن ذلك بمنتهي الوضوح، وأن الشاعر الحقيقي كائن كبير جدا
** ألا تشعر بأن فكرة الشاعر الكبير، أو الكائن السوبر من الأفكار التي فقدت مصداقيتها في الكتابة الشعرية الجديدة؟
ربما تكون فقدت مصداقيتها كتقنية، كذات متضخمة تبرز في الصوت المهيمن علي القصيدة وطبيعة تعامله مع اللغة، وربما تكون قد فقدت أوهامها التي جري التكريس لها في ظل سياق معين يعلي من شان الشاعر الفحل، الشاعر الزعيم أو القائد المعبر عن الجماعة، وما اتحدث عنه لا علاقة له بهذا، إنني أتحدث عن حالة اليقظة الدائمة، والانتباه العميق، والتجاوز الدائم للسطوح، والتشبث بالخيال الإبداعي، والتحرر مع الكتابة وبها، والحوار المستمر مع الجمال، والعثور الذي لا ينتهي علي المدهشات، كل تلك العناصر وغيرها ترتبط بحالة معينة يتضاعف معها حجم الكائن، ويتضاعف معها إحساسه بالحياة، فتبدو ثرية جدا ورائعة باستمرار، واعتقد أن الشاعر يقاس بمدي قدرته علي الحفاظ علي تلك الحالة وحمايتها وسرعة استردادها عندما تغلبها بعض متطلبات الحياة التي صارت الآن كثيرة وضاغطة ومعقدة، علي النحو الذي نري معه الكثير من الشعراء وهم يخونون شعرهم بمنتهي السهولة واليسر
ماذا تقصد بخيانة الشاعر لشعره، وهل يمكن أن تضرب لنا أمثله بشعراء يتحقق فيهم ذلك؟
لا أعني أكثر من التفريط في تلك الحالة مهما كانت المبررات، وهناك بالطبع أمور أخري، كأن تتحول روح الشاعر إلي روح التاجر، أو يتحول الشاعر إلي كائن سلطوي، فالتجارة نقيض الشعر وكذلك السلطة، وهناك أمثلة كثيرة علي شعراء تحولوا إلي تجار ومستبدين،ودعني من الخوض في متاهة الأسماء لأنها غالبا ما تؤدي إلي نوع من المهاترت المجانية، قد تعجب البعض الذين يعولون علي الفرقعات الإعلامية، أما أنا فلا.
ألا تعتقد أن الشاعر كأي إنسان آخر يحتاج إلي المال ويحب السلطة؟
ربما كانت الحاجة إلي المال اكبر لعنة تطارد شعراء الدول الفقيرة، ولا شك أنها نجحت في أن تأخذ كثيرين من الشعر، كما أنها نجحت في جعل بعض المساكين يوظفون الشعر من أجل الحصول علي أموال بائسة للغاية، وتلك جريمة في حق الشعر، والطبيعي والمهم أن يكون الشاعر متحررا من ضغط الحاجة، لكن ذلك شيئ وروح التاجر شيئ آخر، ونفس الأمر بالنسبة للسلطة، فلا بأس بها أبدا إلا إذا كان الجمع بينها وبين الشعر قتلا للثاني وهو شرط صعب للغاية
** كيف يتم التحرر بالكتابة، وكيف تكون وسيلة لنمو الشاعر؟
** عندما أشرع في كتابة القصيدة أكون جاهلا تماما بالطريق الذي تمشي فيه والنتائج التي ستبلغها، اتحول عندئذ إلي خادم يكرس مهاراته وخبراته لرعاية رحلتها، إنها تنطلق مني ومع ذلك يمكن أن أخنقها عندما ألوي عنقها إلي غاية بعينها، أو أحبسها فيما أعرف، إنها تنطلق مني لكنها يمكن أن تذهب إلي ما هو أبعد بقوة الشعور، وحدة الانتباه، ومخزون الكلمات التي تبدأ في مراودتي، ينبغي علي أن أهتم بالقصيدة بوصفها كائن مختلف اختلاف أي مولود عن أمه، ينبغي أن أصغي إليها، وأن أوفر لها الرعاية المناسبة، وهذا المولود يثريني ويضيف لي وبذلك أنمو، هذا المولود الذي يستقل عني بشكل مجازي فقط، يساهم في تحرري وتحرر نظرتي للعالم وبذلك أنمو أو أكتشف المساحات المحبوسة في داخلي
** حدثنا أكثر عن طبيعة ذلك النمو، وهل يرتبط بالكتابة الشعرية فقط؟
** بداية هو إمكانية عادية في الإنسان، ولا يتحكم فيه المنطق وحده، وهو أقرب لفكرة الحال الصوفية، إنه يزيد وينقص، ينام ويصحو، يزدهر ويجف، وهو بحاجة دائمة للرعاية، وفي كل الأحوال يبقي مؤثرا فيمن ذاقه وعرفه، وهو لا يرتبط بالشعر فقط بل بكل الفنون والخبرات الجمالية، وبالنسبة لي أعتبر الشعر وسيلة لرعاية تلك الإمكانية، فكما يحتاج الشعر إلي يقظتي، تحتاج يقظتي إلي الشعر كي تبقي وتنمو ولا يأكلها السبات الذي يتسلل إلينا من كل الجهات.
** وما هو نصيب المتلقي من ذلك التحرر والنمو الذي تتحدث عنه؟
** تلك العملية التي ذكرتها باختصار يمكن أن تتحقق مع المتلقي الذي يعيش مع القصيدة الجيدة معايشة حقيقية، فإذا كان الشاعر يكبر بقصيدته، فإن القصيدة أيضا يمكن أن تكبر بالمتلقي علي النحو الذي يفوق توقع الشاعر، وإذا لعب المتلقي هذا الدور بنجاح فهو يحصل علي ما حصل عليه الشاعر وربما أكثر، وما أكثر الأعمال التي نقرأها ونحن نشعر بأننا نتحرر وننمو ونتنفس بشكل أفضل.
** ما ذا عن تجربتك الشعرية؟ وكيف بدأت بقصيدة التفعيلة، وقطعت شوطا ثم انعطفت إلي قصيدة النثر؟
** لا أحب الكلام كثيرا عن تجربتي، كما أنني قد أجبت علي ذلك بشئ من التفصيل في شهادة نشرتها مجلة شعريات في عددها الأول، وموجودة علي موقع جهة الشعر
** تم اختيارك مؤخرا أمينا عاما لمؤتمر أدباء مصر، فما هي أفكارك أو رؤيتك للمؤتمر القادم
**الأفكار كثيرة جدا، ولعل إقامتي الدائمة في أقصي الجنوب، ومتابعتي للكثير من الأنشطة عن بعد، جعلتني اشعر بعمق بأننا لا نحتاج إلي أفكار جديدة بقدر ما نحتاج إلي مناخ صحي وسوف يكون التركيز علي ذلك قويا.
** ما هي العناصر التي يمكن أن تحقق ذلك المناخ الصحي بالنسبة للمؤتمر؟
** للأسف الشديد بديهيات، تتمثل في الجدية، والنزاهة، والترفع عن المنفعة الشخصية أو العابرة، والبعد عن المجاملات، والدقة في التنظيم، وتوفير الشعور العام بأننا أمام مؤتمر محترم يستحق أن يحمل صفة أدباء أولا، وأدباء مصر ثانيا، ويمكن أن يكون فرصة لتواصل المبدعين تواصلا حقيقيا لا يهمش أو يسلطن أحدا بسبب اتجاهه الفني أو موقعه الجغرافي، وميزة هذا المؤتمر في كونه يعتمد علي أمانة منتخبة ومن ثم فهو قادر علي أن يكون حرا بدرجة ما، لا يعبر عن وجهة نظر مجلس معين، أو جماعة لها اتجاه بعينه تريد الترسيخ له أو الدفاع عنه، كما أنه قادر علي أن يكون ملتقي للمختلفين يقوم علي احتضان الجميع وتذويب الخلافات والتوترات المصطنعة أو المبالغ فيها، والتي لا تخدم الأدب الذي يعد التسامح والتواصل الحميم، والحوار الخلاق، والتفهم العميق من أهم أدواره في الحياة. وبشكل شخصي أتمني أن يكون المؤتمر نافذة حقيقية للوجوه والتجارب الجديدة، التي لا بد من احتضانها ومنحها الفرص المناسبة لتحققها أو تفتحها، كما أتمني أن تكون الجدية هي ثمة المشاركين في المؤتمر، فلا يكفي أن نضع محاور وقضايا جادة مثلا، فثمة موضوعات ممتازة يمكن أن تصيبها الضربة القاضية وقد تتحول إلي تافهة في التناول، بل لا بد من العمل علي اختيار باحثين جادين، وأن نقنعهم بجديتنا وأن نسهر كثيرا علي ذلك.