عبد الجبار العتابي من بغداد: احتفى جمع غفير من مثقفي العراق صباح يوم الجمعة بالفنان والشاعر محمد سعيد الصكار العائد من اغترابه، والذي يحمل على عاتقه نحو 85 عاما مفعمة بالنشاط والاعمال الابداعية في مجال الفنون الجميلة والشعر، وذلك في بيت المدى للثقافة والفنون في شارع المتنبي، وكانت حفاوة اللقاء اكبر مما توصف من خلال الحضورالكبير الذين غصت بهم القاعة، الذين كانوا في شوق الى سماع كلماته وافكاره ولقائه، والكثير مما احتوته ذاكرته عبر السنين الطويلة من الغربة والمحبة والاشتياق.

ادار الجلسة الدكتور جمال العتابي الذي افتتحها بكلمات الترحيب التي قال فيها: مرحباً بالصكار، مرحباً به في بغداد، مرحباً به وبأصدقائه وزملائه وتلامذته، مرحباً به إنساناً وشاعراً وفناناً ومناضلاً ورمزاً وكاتباً ومثقفاً وقامة من قامات الإبداع الكبيرة، واضاف: من حقنا ان نحتفي به، وأولى بنا ان نحتفي به قبل هذا اليوم.

ثم عرض فيلم تسجيلي تناول العديد من اللوحات التي خطتها انامل الصكار بمختلف اشكال الخطوط وتفاصيلها المعبرة والجميلة، بعدها تحدث العتابي عن الصكار قائلا: من أين نبدأ بالكلام عن الصكار؟ من (رانية)؟، وماذا كانت تشكل المفردة للصكار التي سحبته وأخذته لسنوات من نخيل وبساتين المقدادية المنشأ والولادة، وهو البصري وجداناً وعقلاً وشعراً؟، من أين نبدأ مع الصكار؟ من الألوان المتناثرة على نسيج كان ينشره والده عبد الواحد الصكار بعد ان يكتسب أصباغاً من هذه الألوان التي افتتن بها الصكار الصغير وراح يبحث في أزقة وشوارع البصرة في كتاباته التي كان يدعو فيها الصبيان، كان هناك مبثوثاً في هذه الكتابات ويغير ويضيف، واضاف: من هنا كانت البدايات حتى في حرمانه من الصداقات الأولى ومن الصبايا في مدينته البصرة، اسمحوا لي أيضاً أنا شخصياً ان اقول انني كنت مندهشاً بهذا العالم،بهذا الاكتشاف، كنت أجد فيه أسراراً أخرى وعالماً مختلفاً منذ ستينيات القرن الماضي خارجاً على الأصول والقواعد، لكن يضيف اليها جمالاً وقدراً من الزهو، هكذا كانت رحلتي مع الصكار الذي تعرفت عليه من خلال ابداعاته، ومن ثم في مجلة (الأديب العراقي) في اتحاد الأدباء في 14/ تموز في الستينيات، وفي مجلة (ألف باء)، وهكذا بدأت الرحلة والدهشة.

واختتم حديثه بالقول مستطردا: وهكذا سأترك الصكار ينساب هادئاً كما عرفته مسترسلاً مهذباً في خطوطه وألوانه وشعره، وهكذا هو دائماً وبعد ثلاثين عاماً من الفراق وجدته كما هو.

ثم ارتقى محمد سعيد الصكار المنصة، بين حفاوة التصفيق، فقال اولا: حبري اسود، فلا تطلبوا مني ان ارسم قوس قزح، ثم شكر الحضور: أيها الأصدقاء.. شكراً لكم على حضوركم الجميل الذي يمنح العمر برغم تقادمه نضارة الشباب، ثم راح يتحدث عن بداياته قائلا: في عام 1934 ولدت في المقدادية، وبعد عام او عامين انتقلت الى الخالص حيث كانت مصبغة الوالد هناك في تلك المنطقة، في هذه المصبغة بدأت التحولات الحياتية بالنسبة لي، ذلك إنني تأخرت في دخول المدرسة أربع سنوات ولم أدخلها الا في العاشرة، حيث كانت مدرسة ابتدائية مقابل مصبغة والدي، وكان أبي يتركني لأحرس المصبغة ويذهب لقضاء شؤونه، فأهرب الى المدرسة واسمع ما يتلوه المعلمون واستمع لأحاديثهم جميعاً، وفي أحد مواسم الاشغال الكثيرة التي كانت تحفل بها المصبغة هربت فوراً الى المدرسة، وخلال هذه الفترة حفظت القراءة الخلدونية من الشباك !!، وفي أحد الأيام صفعني والدي لأنني خرجت من الدكان وتسبب ذلك في نكبة عائلية ومالية بقيت طوال الأيام اللاحقة، لكن والدي في الحقيقة كان مربياً جيداً فلم يعاقبني سوى بتلك الصفعة الخفيفة التي مازالت ترن في أذني.

واضاف: وفي عام 1947 انتقلنا من الخالص الى البصرة وبدأت أنثر الفكاهات والنكات في جريدة (أبو نواس) و(الخواطر) و(جفجير البلد ) و( الحصون)، وحينما ينشر أسمي في الجريدة أطير فرحاً، وبدأت أكتب القصة ثم كتبت أول قصيدة، وفي الخامس الابتدائي طمحت أن اؤلف كتاباً عن (طرفة بن العبد)، فرحت أجمع الكتب المتعلقة بهذا الموضوع في المكتبة العامة التي كان يديرها المرحوم محيي الدين الرفاعي، حيث كان يعطيني كتباً لا يسمح للغير باقتنائها، وعندما عرف أني مولع بالتأليف أهداني كتباً وقال لي: لمن تقرأ؟، قلت: للمنفلوطي وجرجي زيدان، فقال: خذ هذا الكتاب، وأعطاني رواية أجنبية.
ويستطرد: بدأت الكتابة بهذا الشكل، وكان أهم ما يميز شباب البصرة أنهم يقرؤون، وكان الشباب موزعين بين فريقين، فريق محمد عبد الوهاب وفريق فريد الأطرش، أصحاب عبد الوهاب هم الفطاحلة، وأصحاب فريد الأطرش يحملون الكتب درءاً للانتقاد، وبقينا نقتني هذه الكتب المتاحة، وكانت هناك مكتبة تؤجر لنا الكتب أسبوعياً بمئة فلس، ونقرأ ما تشاء خلال الأسبوع، وبعد فترة من هذه العلاقة الطيبة واللطيفة استعصى علينا الدفع ولم يكن لدينا فلوس، فاتفقنا على مكتبة (عبد الله فرجو)، وهي مكتبة تأتي بالجديد دائماً ولكنها مضطربة ومكدسة ولم نعثر على الكتاب فيها بسهولة، فاتفقنا معه انا وصديقي جميل عبد الحسين على ان ننظم المكتبة ونؤرشفها وننسقها لقاء ان نقرأ الكتب بدون مقابل.

ويمضي الصكار في استذكاراته: مكتبة (عبد الله فرجو ) بقيت في ذاكرتي، فحينما كنت متخفياً في فترة 1963 كنت أتصفح الكتب فوجدت ديواناً (لباسترناك)، حيث كنت آنذاك طالباً في معهد اللغات العالية/ قسم اللغة الروسية، وهذا الكتاب تحفة، ولكن المشكلة في ربع الدينار وهي قيمة شراء الكتاب، ولم يكن عندي الربع دينار وانا متخفٍ فدفنته بين الكتب على أمل ان اشتريه عندما يكون عندي المبلغ، ولكني لم أجد الكتاب وبقيت أبحث في المكتبة عنه كتاباً.. كتابا، ولمدة سنتين كنت أراجع المكتبة يومياً، وبعد السنتين وجدته في مجموعة كتب الأطفال وأخذت الكتاب واستمتعت به لفترة ثم أهديته الى صديقي (سعدي يوسف) ولا أدري أين حل به الدهر.

وبعد لحظات من التأمل والحنين الذي بدا على ملامحه قال: أيام البصرة في ذاكرتي مشرقة ومثيرة للاهتمام وللحنين وللإنتاج أيضاً، ذلك لان البصرة لي هي مدينة الأوائل وسيدة الأوائل، فيها أول قصيدة وأول قصة وأول فكاهات انشرها، وأول عمل مسرحي وأول تمثيل لي على المسرح، وأول إخراج في المسرح وأول كتابٍ في الصحافة وأول حب وأول اعتقال وأول محاكمة سياسية، فهي سيدة الأوائل..، في البصرة كانت هناك في محلة (سوق الهرج) مكتبة صغيرة مليئة بالكتب التراثية عائدة للشيخ محمد هاشم الجواهري، الذي كان يكتب الأغاني للإذاعة، مررت يوماً بمحمد هاشم وقلت له: أريد ان تسعفني بكتاب يعلمني الشعر !!، قال لي: ليس هناك كتب تعلم الشعر، قلت: فكيف يكون الإنسان شاعراً بدون ان يتعلم؟، قال لي: عليك ان تحفظ العديد من القصائد، قلت: كم قصيدة؟، قال: الكثير، أيام كان يوزع في العراق تقويم يكتب فيه وراء كل صفحة حكمة او بيت شعر، فقلت كم أحفظ من الشعر، فقال: (5000) بيت من الشعر، ولم يصدمني كلامه، واشتريت دفتراً سجلت فيه ما أحفظ، وكتبت قصيدتي الأولى قبل ان أصل الى حفظ (5000) بيت.

وبعد انتهى الصكار من حديثه كانت المنصة مشرعة للحضور للتحدث عنه، فتحدث العديد عنه ومنهم الصحفي الكبير فائق بطي الذي قال: محمد سعيد الصكار قامة كبيرة أعطى كل ما عنده للعراق، ولم يغب العراق عن باله لحظة واحدة، التقينا في باريس قبل سنوات وكان يبكي لانه بعيد عن هذا الوطن..، بعيد عن البصرة وبعيد عن بغداد، وبقينا لسنوات طوال ونحن نتسامر ونكتب ونقدم وننتج تاريخ العراق تاريخاً بأحرف من نور، واضاف: استطيع ان أقول عن الصكار انه شاعر الحرف والألوان بديع في كلامه بديع في نثره شفاف في قصائده، من رواد الثقافة العراقية وانا سعيد جداً ان أكون حاضراً مع الصكار زميل العمر وهو الرائد والإنسان الكبير.

كما تحدث الشاعر سلمان الجبوري قائلا: ماذا أقول عن نصف قرن مضى مع الصكار؟.. ماذا أقول وأنني تركت زوجتي أثناء عقد القران فذهبت اليه، تعارفنا الأول كان بالمصادفة في اتحاد الأدباء، توهمني شخصاً آخر هو صديق لكلينا، وحينما يأتي بالقرب مني يبدل الموضوع لكن بعد ذلك احتضنني..، واضاف: حياتنا ليست حياة أصدقاء ولكن حياة أخوة وكانت هناك علاقات عائلية بيننا، وكانت مكتبة الباب الشرقي نلتقي فيها يومياً مع زميل آخر شاعر وهو الآن خارج العراق.

وتحدث د. روضان بهية رئيس جمعية الخطاطين قائلاً: انها لفرصة رائعة ونادرة كنت انتظرها انا شخصياً منذ سنوات طويلة ان التقيه وجهاً لوجه الآن بعد ان عرفته عن بعد وراسلته قبل أكثر من ربع قرن بعد ان استقر في باريس ولم تتهيأ لنا فرصة اللقاء المباشر ولكنني شعرت في ذلك الوقت بمظلوميته وما لقيه من تعسف وحيف وعدم تفهم لمشروعاته خاصة في مجال تصميم الحروف الطباعية ومبتكراته في هذا المجال، وذلك من قبل نفر قليل وربما شخصين هما الآن في ذمة الخلود كانا محسوبين على جمعية الخطاطين العراقيين في ذلك الوقت، هذان الشخصان كانا ببساطة من المتعصبين لكل ما هو تقليدي من قواعد الخط العربي الى حد الانغلاق، فإذا ما ابتكر احد ما نوعاً جديداً من الخطوط حتى لو كان لأغراض النشر الطباعي تصدوا له بكل شراسة ولا يتورعون ان يلصقوا به التهم الباطلة جزافاً، وقد يكون بعضها ما يفضي بالشخص الى أشد المهالك عن طريق الجهات الأمنية، حيث تعرض بعض الخطاطين في شارع المتنبي أواخر السبعينيات الى الاعتقال من قبل تلك الجهات بدعوى اعتمادهم خطوطاً حديثة ولم يطلق سراحهم الا بعد ان وقعوا على تعهدات بالالتزام بالخطوط القواعدية.

كما تحدث الناقد حاتم العقيلي رئيس اتحاد ادباء البصرة الذي اعتذر لتلعثمه في الكلام كونه مصاباً بجلطة دماغية أدت به الى شلل نصفي، ثم قال: بعد سقوط النظام طلبت منه ان يخط لي (لوغو) مهرجان المربد الأول، وبالفعل صمم للمربد (لوغو) جديداً، وقراءتي لهذا التصميم هي انه يعني السواد الأكبر للعراق تدخل فيه قصبة من اليسار رمزاً للعراق، وهذا هو تأويلي وقراءتي لـ(لوغو)، تندمج فيه مع البرحي زائداً المطر زائداً الدمع مكوناً كلمة البصرة وتخرج من الجهة اليمنى راية وهي رمز للكتابة العراقية..، راية بيضاء تخترق السواد الأكبر.

وفي ختام الاصبوحة الاحتفائية الممتعة انتهز الحضور الفرصة لالتقاط الصور التذكارية معه ترافقها احاديث جانبية، وطال الوقت في هذا ولم يكن الصكار الا منشرحا وسعيدا بهذا التواصل.