الجزء الأول

quot;اعتبر عملي كمعلم بمثابة اكبر أعمالي الفنيةquot; (جوزيف بويز)

في صيف عام 1981 حين كنت طالبا في السنة الأولى بأكاديمية الفنون الجميلة في مدينة ووج البولندية، سمعت أن فنانا ألمانيا عرف


التنصيبيّة Installation art، ماذا تعني؟
إن التنصيبيات هي أنصاب مختلفة من حيث مادة صنعها، أبعادها، وأشكالها وهي مختلفة في وسائل وصولها إلى المتلقي وتعد من أجل إشغال فضاء محدد، أو مكان ما قد يكون متحفا أو صالة عرض، مما يؤدي إلى وضع المتلقي وسط العمل الفني. فالتنصيبية لايتم استقبالها من قبل المتلقي من الخارج كما يفعل المرء مع اللوحات او التماثيل، بل من خلال التواجد الفعلي داخلها. ولذلك فالتنصيبية تتصف عموما بالمكانية والزمانية، ويتم إشغالها بمجموعة من العناصر المختلفة التي تلتقي في تراكيب أو مقاربات معينة تفضي إلى توليد دلالة معينة يمكن للمتلقي أن يتخيلها من خلال اختباره لها.

بصفته احد أقطاب فن ما بعد الحداثة، وأثيرت التساؤلات الكثيرة حول نوعية وفحوى أعماله، قد وصل زائرا إلى بولندا التي لم تكن تعرف عنه الشيء الكثير. كان الهدف من قدومه هو التنازل الكريم لمتحف المدينة العريق عن عدد سخي من أعماله قدر بما يقارب الألف من الأعمال، تضمن رسوما وصورا ووثائق تتعلق بمختلف نشاطاته في العديد من المجالات وقد أطلق هو عليها تسمية (أرشيف جوزيف بويز) لم تكن إدارة المتحف ndash; كما قيل لي ndash; على قدر كاف من المعرفة بهذا الفنان الذي كان الغرب يتهيأ لتقديمه كواحد من أهم فنانيه في المنتصف الثاني من القرن العشرين وقد ذهب النقاد الأمريكان إلى ابعد من ذلك حيث كان تصويتهم عام 1987 بالإجماع على انتخاب جوزيف بويز وتنصيبه على انه الفنان الأبرز في استفتاء اجري تحت عنوان (من هو الفنان الأبرز في القرن العشرين؟) وهو العام الذي أعقب عام وفاته، هذا ما أوردته الموسوعة الصغيرة لفن اليوم الصادرة في بولندا عام 1990، لم تكن إدارة المتحف تعرفه بالقدر الكافي حتى تستجيب لرغبته بدون تردد، وفي كل الأحوال لم تجد أيضا أي عائق لامتلاك أعمال منحت دون مقابل! كان هدف بويز من هذا العمل الذي كان قد خطط له كنشاط (حدوثي) والذي اسماه quot; الترانسبورت البولندي quot; هو التواصل مع أوروبا الشرقية آنذاك والانفتاح عليها ثقافيا وهو جزء من مشروع ثقافي وسياسي لطالما تحدث عنه.
لقد جاء بويز في الزمن الأصعب والأكثر تعقيدا وحرجا في بولندا من الناحية السياسية والثقافية - كان الصراع السياسي بين منظمة التضامن والحكومة الشيوعية يحتدم بشدة ويتقدم حثيثا نحو ذروته - ليمنح بنشاطه هذا للمثقف البولندي شعورا بوجود رغبة من الأخر(الأوربي الغربي) إلى التواصل وإقامة الجسور. لم أكن في تلك الأيام قد سمعت عن جوزيف بويز أكثر من ذلك الذي سمعته وعرفته من زملائي ولم ألب دعوته لحضور أمسية كان راغبا فيها بلقاء الجمهور البولندي وبالأخص طلبة أكاديمية الفنون وعلى الرغم من اهتمامي الكبير بالفن الألماني واحترامي الكبير لمنجزاته، وذلك لقلة معرفتي باللغة الانكليزية التي استخدمها بويز في محاضرته،. كنت قد حضرت بعد أيام لمشاهدة معرض أقيم فيما بعد لمجموعة من إعماله، لا زلت أتذكر حين دلفت إلى داخل قاعة العرض حيث واجهني بيانو اسود مهيب يقف على جهة اليسار من مدخلها وعليه استقرت قبعة بويز المشهورة ودرت بنظري لأرى مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي وثقت الحدث الخاص بالبيانو، وكانت هناك صور أخرى لجوزيف بويز ذاته.
واليوم، فإن السبب الذي دعاني إلى أن أتجرأ على كتابة هذا النص حوله يتعلق بمشروع متواضع للتوعية بقضايا الفن بدأت به من بويز لتعريف القارئ بالعربية بمضامين فكر (ما بعد الحداثة) الذي يزداد ويتوسع بلا هوادة يوماً بعد يوم.
جوزيف بويز، هو علم مهم وضروري لفهم فن ما بعد الحداثة فقد كان ولا يزال واحدا من أهم رموزه في أواخر القرن الماضي بعد الفنان الفرنسي الأصل (مارسيل دوشامب). وإذ تسنى لنا التعرف على أعماله وأفكاره فلسوف نتمكن بذلك من الوقوف على الكثير مما يقترحه فن اليوم من اتجاهات ووعود للمستقبل.
بويز، حاضر في أكثر تجارب فن اليوم، وبصماته على أعمال الكثير من الفنانين الشباب لا يخطئها الناقد أو المشاهد الحذق ولسوف يلاحظ المتلقي الذكي وبسرعة، أن بويز استند بدوره على تجارب سلفه الفرنسي دوشامب، وخصوصاً فكرة استخدام الشيء الجاهز كعامل من عوامل إنتاج العمل الفني. وان الكثير من إيحاءات فن(الفلوكسس) تغذي أعماله الإبداعية وبالأخص استخدامه للمواد العضوية (او ما اصطلح على تسميته بالمواد الرديئة أو الفقيرة).
لقد خبر هذا الفنان تجارب حياتية وفنية وروحية مختلفة قلما تعرض لمثلها فناناً آخرا، فحادث سقوط طائرته على الجليد أثناء الحرب العالمية الثانية، حين كان مجنداً في سلاح الطيران الألماني، وتفاصيل إنقاذه من الموت، وأهمية وانعكاس هذه التجارب على حياته وفنه فيما بعد، نزاعه مع زملائه المدرسين في الأكاديمية، حيث كان يشغل منصب مدرس للنحت مابين الأعوام 1961- 1972 والذي أفضى إلى طرده ومن الجدير بالذكر أن نسجل هنا أسباب هذا الطرد لان لها علاقة جوهرية بصلب مفاهيمية بويز الإبداعية والفلسفية فقد أكد مرارا في الكثير من المحافل والمقابلات ان كل فرد ممكن ان يكون فنانا وان العملية الإبداعية من نصيب الجميع وقد أدى هذا الموقف إلى أن يترك بويز أبواب مشغله الفني في الأكاديمية مفتوحة لجميع الراغبين في الدراسة لديه دون أي تصنيف أو انتقاء للأفضل! وللمرء هنا أن يتخيل كم كان عدد الراغبين في الدراسة لديه فعدا قاعة المشغل التي غصت بالطلبة لم تسلم الحديقة منهم وكان على بويز أن يتصرف كالسيد المسيح!! يدور بين مريديه! أدى هذا طبعا إلى تحول هذه الفعالية إلى فوضى حقيقية مما أدى إلى طرده من الأكاديمية والتخلي عن خدماته كمعلم! ومن الجدير بالذكر ان بويز ذاته كان تلميذا لمادة النحت في هذه الأكاديمية فيما بين العامين 1947- 1952.
لن اغفل هنا دراسته لعلوم النبات والفلسفة ونشاطه من اجل بيئةٍ أفضل للإنسانية وهي النشاطات التي تواشجت مع طبيعة عمله كفنان وتركت بصماتها على نوعية المضامين الفكرية التي اعتمدها فيه.
كان من مؤسسي حزب الخضر الألماني وقدم عروضا ممسرحة في أوقات مختلفة من حياته وناقش بشكل مستمر معنى ووظيفة فن اليوم.
أما أعماله التنصيبيّة والتي تعاملت مع مفردات تتكرر في أعماله مثل اللباد بصفته حافظ للطاقة الحرارية، الشحم بصفته مصدرا للطاقة الحرارية، العسل بصفته رمزا للحيوية، والمحركات الكهربائية، البطاريات، الطين، النحاس، الشمع، الصخر، ولعل من الجدير بالذكر ان نؤكد مدى هشاشة بعض هذه المواد وقصر عمرها مثل العسل والشحم أو الطين غير المفخور وهو الأمر الذي لم يخف على بويز وكان جزءا من صلب مفهومه العام لعمله الإبداعي والذي يؤكد ارتباط مواده بفكرة الزوال والموت. أما منحوتاته ورسومه التي تميزت - بالتلقائية والارتجال كما يبدو من الوهلة الأولى- فقد عالجت مفردة المرأة وبصيغة تذكر بالمرأة الهة الخصب، والحيوان: الأرنب رمزا للروح في الأساطير الجرمانية وهو يتكرر بشكل ملحوظ وأخيرا الأيل والطير.
وقد عامل الكثير من السبورات السوداء التي كان يكتب عليها موضحا أفكاره بالكلمة والرسوم لجمهوره على أنها أعمال فنية حقيقية، وقد اشتهرت بصفتها كذلك حتى أنها أثرت كثيرا على بعض الفنانين الشباب والمخضرمين ومنهم الفنان الدنمركي المعروف (Per Kirkeby) في أعماله مابين الأعوام 1970-87 وقد تعمد فيها استخدام مادة الماسونيت المطلي باللون الأسود وأطلق على المعرض تسمية سبورات وأشار إلى تأثره بأعمال بويز بكل وضوح.
كان بويز مبدعاً يتمتع بخبرة واسعة، حري بنا أن نتعرف عليها وان نجد فيها صدى لتجاربنا في الماضي والحاضر. سنجد هنا وهناك تلميحات بأفكار ليست غريبةً علينا، فهو غير متأكد من خبرات المنهج الفكري العقلاني ولا يجد فيه ما يدعو إلى جعله (قطباً أوحداً) بل يجد أن العالم يتراوح مابين قطبين متساويين في الأهمية وهما (الروح والمادة)، وهو عدا هذا وذاك ملم بمسلمات فكرية لها علاقة وثيقة بالظاهراتية حيث لا يتكلم عن أوهام بل يصف ما يفعله بكل براءة الشاعر ودقته، ولسوف نرى أن المعنى عنده هو حضور غائر في قلب الشيء، بل هو الشيء نفسه.
كان معلما ممتلكا قابلية عالية في التأثير في مستمعيه وجلب انتباههم وناشطا اجتماعيا وسياسيا نعت من قبل بعض خصومه بالمهرج! ومن الجدير هنا أن نسجل بعضا من الجمل التي تعبر عن كيفية وصفه من قبل واحد من أهم الكتاب حول الفن وهو (جوهان والكر) في كتابه المعنون مابعد فن البوب حيث يقول: ((ان تعمده الى تذويب فنه وأسلوب حياته في بوتقة واحدة أساء الى سمعته في المجتمع فقد أطلق عليه احد النقاد وصف (المثقف، جندي الجبهة الأمامية)! يعتقد بويز بان ما يضمن للمرء حريته الفردية الكاملة هو ممارسته للفعل الإبداعي ناهيك عن اعتقاده الراسخ بان مهمة المبدع ليست الخلق فحسب بل التعليم!! ولهذا لم يتورع بويز من ممارسة دوره كفنان معلم أو معلم فنان طيلة سني حياته وبالأخص السنوات الأخيرة وفي إحدى المرات لم يتوقف عن التعليم لمدة 12 ساعة مستخدما السبورة السوداء والطبشور للكتابة والرسم كوسائل توضيح!)). كان بويز يمارس فن النحت بشكل مركز حتى انه توصل إلى توسيع معناه وفاعليته إلى الحد الذي سيكون فيه سببا في تغيير وإعادة تشكيل البنية الاجتماعية!. وهو يقول في هذا الشأن: ((يمكن فهم موضوعاتي الثلاثية الأبعاد (االتنصيبيّات) كأدوات تساعد في تطوير مشروعنا لإعادة تشكيل مفهوم النحت وحتى الفن بشكل عام، ولسوف تعمد هذه الأنصاب إلى تحريض المتلقي باتجاه التفكير حول هذا المحور، وتؤدي إلى استعادة السؤال الدائم حول ماهية النحت، وماهو الأسلوب الذي سوف يؤدي إلى توسيع معناه، وكيف يمكن جعل ذلك الأسلوب بلا حدود، حتى نصل به الى اعتماد المادة (غير المرئية) والتي سيتمكن كل فرد من استخدامها وهذه المادة هي:
شكل التفكير - بمعنى كيف يمكن صياغة أفكارنا ؟
أو شكل الحوار- بمعنى كيف نمنح شكلا لأفكارنا عن طريق الكلمات ؟
أو النحت الاجتماعي- بمعنى كيف نصوغ العالم الذي نعيش فيه ؟
وأخيرا، النحت كعملية تطورية:
لكل فرد الحقأن يكون فناناً)).
ولسوف يسجل في مكان آخر موقفا أكثر جذرية واتساعا ليجعل من الإبداع عملية إنسانية ليس فقط من نصيب الجميع بل تمس الكثير من المرافق الحياتية للإنسان: quot;إن احد محاور (النحت الاجتماعي) الأساسية هو التركيز على تعميم وتوسيع حدود معنى الفن حتى يشمل كل شيء وكل المنظومات في العالم وليس فقط المنظومات والقوالب الفنية، بحيث يتسع ليصل إلى كل المنظومة الاجتماعية أو القانونية التي تتعلق مثلا بالنقد (التعامل بالمال) والفلاحة أو التربية والإبداعquot;.
يذهب بويز بعيدا في المحتوى الشمولي لمفهومه حول دور الفن إلى الحد الذي يجعله لا يكتفي بالطاقة الإبداعية لدي الفنان المبدع في وضع الأسئلة الصعبة والعميقة حول الإنسان والوجود فحسب، بل أيضا اعتقاده بان للفن إمكانية خلاقة لإيجاد الحلول: ((الفن باعتقادي هو طاقة إبداعية لإيجاد الحلول، إمكانية لوضع الأسئلة أو اكتشافها، التوجه الواعي نحو الحضور الإبداعي في العالم، أما القاعدة الحق لهذا التوجه فهي ليست الكلمة أو الفكرة فحسب، بل كلاهما في قلب الفعل الحقيقي.)).
أسس بويز أيضا لرؤية فكرية جديدة في النحت كان مفادها هو المرور من خلال الفوضى إلى التنسيق وهي ما اصطلح على تسميته وكما أسلفنا بالنحت الاجتماعي: ((بالنسبة لي، لا يتعلق الأمر أبدا بالتوجه المقتصر على المنطق فحسب، بل إلى فتح مغاليق ذلك الباطن في اللاوعي وبأسلوب فوضوي ومضطرب في صيرورته، إلى أن يظهر هذا الجديد من تلك الفوضى)).
والنحت الاجتماعي، وهو العنوان الأكثر شهرة في عالم بويز المفاهيمي يتضمن القابلية على إحداث تغيير حقيقي في حياة الناس وأفكارهم من خلال إيجاد شكل معاصر لمهنة الفنان ليس باعتباره مبدعا فحسب بل كالساحر الأول أو (الشامان) في المجتمعات البدائية والماقبل تاريخية: ((نظرية ؛(النحت الاجتماعي) هي عبارة عن برنامج مفتوح لا يقوم على مبدأ المشاركة فقط بل يتعداه إلى حالة من التضامن، الحقيقة توجد في الحوار، ولا يمكن أن تصنع الحقيقة بصورة فردية ولهذا لابد من أن تتم ممارسة الحوار بدون توقف للوصول إليها)). وفي مكان آخر سيقول:
((أنا أتعامل مع التفكر الإنساني كما لو كان عملا نحتيا يبدعه الإنسان وهو يتعامل مع أفكاره تماما كما يتعامل النحات مع عملية انجازه للعمل النحتي)).
سيتعمد بويز أيضا إلى أن تتنافذ حياته مع فنه ولسوف يجعل من حياة الفنان صيغة من صيغ الإبداع الفني!: ((تأريخ حياتي الخاصة، لا يكتسب أهميته الإبداعية إلا في حالة استخدامي له كأداة في عمليتي الإبداعية)).
وفي صياغة عاطفية وإنسانية عالية يؤكد بويز على دور الفنان كساحر او عراف في المجتمع المعاصر: ((لقد استوعبت دور الفنان ككاشف لجروح زمنه ومضمد لها في آن واحد. لا استخدم العرافة لكي أتوجه نحو مفهوم الموت بل اكشف من خلالها، عن الحالة المميتة التي تطغي على زماننا، وأحاول أن أشير إلى إمكانية الانتصار عليها في المستقبل)).
إن تجارب طفولته التي قضاها في محيطه الجغرافي على الحدود مابين هولندا وألمانيا - ولد في (كرفيلد) عام 1921 - وكونه من عائلة كاثوليكية تعتبر إحدى مفاتيح عمله الإبداعي (خصوصا حين نعلم بأن أولى منحوتاته كانت تتمحور حول موضوع الصلب) إضافة إلى تجربته الحربية، حين كان مجندا كطيار في السلاح الجوي الألماني (بصفته طيارا إبان الحرب العالمية الثانية أسقطت طائرته في أجواء أوكرانيا في طقس جليدي بارد وتعرض إلى شبه موت محقق وتم إنقاذه من قبل السكان المحليين من التتار حيث قاموا بالحفاظ على حرارة جسده بين لفائف اللباد وقطع الشحم) واهتماماته الأولى في مجال العلوم الطبيعية قد دفعته إلى الاهتمام بمادتي النحت والرسم، بالإضافة إلى اهتمامه بعمل المجسمات وذلك في عقدي الأربعينيات والخمسينيات أما عقد الستينات فقد شهد انتمائه إلى الحركة الفنية العالمية (فلوكسس).
وفي سنوات عمره الأخيرة قرر بويز الاعتماد على العملية الإبداعية بصفتها فكرا أو مفهوما نظريا أكثر من كونها منصبة على اختراع أجسام مادية تخص العمل الإبداعي وذات قيمة جمالية. وفي الوقت ذاته كانت مجسماته النحتية قد اعتمدت على استخدام مواد رخوة أو قصيرة العمر مثل الشحم، العسل، اللباد، والأشياء ذات الاستعمال اليومي العادي. وفي السنة 1972 بدأ بويز أولى فعالياته في الظهور أمام الناس بصيغ تقترب من النشاط المسرحي أو ألطقوسي البدائي وهو ما يسمى بمصطلح (برفورمنس) أكد فيها على تناول قضايا المجتمع بصيغ بعيدة جدا عن المباشرة وتعتمد على الإيماء أو الإشارة ولايمكن استقبالها الا بتنشيط الجانب الحدسي لدى متلقيها (كان بويز يظهر إلى جمهوره بصيغة اقرب إلى الساحر البدائي (الشامان) منه إلى صيغة الفنان). قدم العديد من المحاضرات، وحرض على الإضرابات، ومارس السياسة بمحاور تدور حول قضية البيئة والتعليم والمجتمع والإمكانية الإنسانية للإبداع وآفاق الفن عموما، كان بويز يتميز بصفة الداعية بالإضافة لصفة المبدع وكان ذا مظهر خارجي مميز(يعتمر قبعة طوال الوقت وبنطلون جينز).
مات بويز بأزمة التهاب رئوي وهو في مشغله بمدينة دزلدورف سنة 1986
هذا هو شيء نزر عن بويز الفنان والإنسان ولكن سيجد القارئ المهتم في طيات هذا المقال الطويل الكثير من الإشارات التي توسع المعنى الغائر في الكثير من أعماله الإبداعية.

كيف تشرح اللوحات لأرنب ميت
عام 1965 قام جوزيف بويز بعرض يحاول فيه شرح اللوحات لارنب ميت !! حدث هذا في صالة عرض فنية في مدينة (دزلدورف) الألمانية، طلب بويز ان يكون معزولا عن الجمهور بواسطة حاجز وكانت هناك بعض اللوحات المعلقة على حوائط قاعة العرض، وخلال ثلاث ساعات متواصلة انشغل بويز بشرح اللوحات لأرنبه الراقد بين يديه! ربط بويز قدمه اليمنى بنعال مصنوع من الحديد الممغنط، أما قدمه اليسرى فقد غلفها بقطعة من اللباد وذلك لكتم صوتها أثناء المشي وهذا مما أدى إلى سماع ارتطام قدمه اليمنى أثناء مشيه في قاعة العرض الحجرية بينما يديه منشغلتان بحمل أرنبه الميت، كان يتصرف مثل ساحر يحاول مساعدة مريضه على الشفاء عن طريق شرح اللوحات له، كان رأس بويز مغطى بعسل النحل وقد عمد إلى أن يلصق بها رقائق من الذهب والتي تقابل رمزيا معنى(الفكر) في الأساطير الجرمانية أما العسل فهو رمز(الحيوية) وهو بهذا يحاول ان يعبر عن فكرته في ما أطلق عليه ب(الفكر الحيوي) الذي هو مادة تغيير الحياة، أما تواجده مع الأرنب الميت فهو كناية عن التآخي مع الحيوان الطوطمي الذي يرمز في الأساطير الألمانية إلى تناسخ الأرواح.

أنا أحب أمريكا وأمريكا تحبني !
ابتدأ جوزيف بويز عرضه منذ اللحظات الأولى لرحلته عن طريق الجو إلى أمريكا حيث أغلق عينيه أثناء جلوسه في الطائرة المحلقة. وبعد هبوطها على مدرج مطار كندي، كانت هناك سيارة إسعاف متأهبة لنقله ملفوفاً كالمومياء بغطاء من اللباد إلى صالة عرضRene Block)) في نيويورك مطلقة صفارتها المعهودة كما في الحالات العاجلة لنقل المرضى الى المستشفى! وسيقرر بويز الإقامة في صالة العرض تلك لمدة أسبوع، وبدون انقطاع وبصحبة ذئب من فصيلة (Coyote) وهو ما يطلق عليه في اللغة العربية ب(الذئب الأمريكي). صرح بويز مبرراً مجيئه بهذه الطريقة الى أنه لم يرد أن يرى شيئاً من أمريكا، بل أنه أراد أن يركز على أمرين: أولهما الذئب وثانيهما الجرح الأمريكي الذي سيرمز له بويز بالحيوان ذاته. وهكذا أقام كل من بويز والذئب في صالة العرض لوحدهما محجوبان عن الجمهور بشبكة أسلاك. وقد قام بويز بأداء ما قُدر بحوالى 30 حركة في مواجهة الذئب أثناء فترة إقامته معه، وقد تميزت هذه الحركات بالتنوع واستغرقت كل حركة أكثر من ساعة. كان بويز يرتدي أثناء تأديته لتلك الحركات غطاءً من اللباد، لفه حول جسمه بشكل يشبه الخيمة، وكان ممسكا بعصا بنية اللون وبيد ذات قفاز، وقد وضع على رأسه قبعته التي اعتاد اعتمارها في حياته العادية، كان بويز، وهو على تلك الحالة، يتحرك باتجاه يتبع مواقع الذئب المتغيرة، ببطء دون ان يتجاوز محوره. الذئب بدوره قام بمحاولة سحب غطاء اللباد عن جسم بويز بشكل متكرر دون أن ينجح في ذلك. في حين سيتعمد بويز الى السقوط على الأرض، ليرتطم وجهه بها وهو مازال ملفوفاً بغطاء اللباد. وبسرعة، ينهض بويز من على الأرض، ويتحرر من غطاءه، عامداً فيما بعد إلى الضرب بعصا على مثلث معدني مصدراً بذلك ثلاث أصوات تخللنها عشرة لحظات من الصمت. فيما يخترق فسحة الصمت الأخير انفجار من الضجيج شبيه بصوت الطوربيد يصدره صوت من جهاز تسجيل موضوع خارج مكان بويز والذئب. وبعد ان عم الهدوء، شعر بويز بالراحة، وراح ينزع قفازيه ويرميها باتجاه الذئب الذي بدوره يلقي بهما في اتجاهين مختلفين. عمد بويز الى جمع قصاصات ورق الجرائد الممزقة والتي افترشت ارض الصالة الى مجموعتين، أما الذئب فقد توجه إليه ليراقبه. بعد ذلك يتجه بويز نحو الحاجز لكي يتحدث مع احد أصدقائه، أما الذئب فيعود إلى كومة القش المخصصة له ولبويز ليرقد عليها.

القطيع!
عمل تنصيبي يعود إلى عام 1969 يتضمن 24 زلاجة تنزلق من الصندوق الخلفي لسيارة من نوع فولكسفاكن باص الألمانية. يضع هذا العمل قطبين مقابل بعضهما: السيارة باعتبارها رمزا للتطور التقني للتنقل إزاء النمط البدائي له في صورة الزلاجة وهو ما سيضع هذين العنصرين على طاولة الحوار الدائر حول موضوع حاجات الإنسان الأساسية مقابل توصلات المنجز التقني، ففي أعمال عديدة لبويز يتم التأكيد على عجز ذلك المنجز- وحتى المتطور منه ! - عن تلبية تلك الحاجات بما تتضمنه من رغبة غريزية في اجتراح ما يضمن ديمومة البقاء بما يتطلبه ذلك من أدوات أو وسائل وهذا ما يفسر تجهيز كل زلاجة بأسباب رمزية لتلبية تلك الحاجات:
المصباح (وسيلة التعرف على المكان)،
اللباد (وسيلة للحماية والحاجة إلى عازل من الدفء)،
قطع الشحم (وسيلة العيش والتغذية والطاقة كمادة مخزونة)
القطيع هي تنصيبية تختبر حالة التمدن.
نهاية القرن العشرين.
تتعرض إلى حالة المدنية الراهنة، حيث عمد الفنان إلى إحداث ثقوب دائرية الشكل في مجموعة أحجار بازلتية، أراد بها الوصول إلى المعنى النفسي والجسدي للجرح والذي سيتعمد إلى تطبيبه عن طريق ملء الثقب/الجرح بالطين ومن بعد ذلك إعادة الجزء الدائري المستقطع إلى الثقب المدور عامدا إلى إرفاقه بقطعة من نفس حجمه مصنوعة من اللباد وليغطسهما بعد ذلك في الطين. ان موضوع الجرح وتطبيبه يشكل مفتاحا لاستيعاب عمله الإبداعي. يعتبر بويز واحد من أوائل الفنانين الألمان ممن يطرحون بشكل مفتوح مشكلة مسؤولية ألمانيا عن الدمار المادي والأخلاقي الذي كان نتيجة للحرب العالمية الثانية.

أر جرحك!
تحتوي على أزواج من أشياء ترتبط بأجواء الموت والمرض: سريرين من النوع المصنوع لتشريح الجثث، وضع تحتهما قنينتين تحتويان على شحم، ومحرارين و قناني زجاجية لعينات الفحص، وأيضا سبورات مدرسية سوداء من النوع الذي اعتاد بويز ان يستخدمه في عروضه التعليمية. يشكل طقس هذا العمل مايشبه الدعوة إلى تبني حوار يأخذ على عاتقه مهمة تطبيب الجرح المتمثل بماضي ألمانيا. وعلى مايبدو من خلال العديد من الأمثلة ان الجرح ومعناه يشكلان محورا مركزيا في وعي وعمل بويز الإبداعي حتى ان واحدا من أقدم أعماله وهو حوض استحمام مخصص للأطفال ملصوقة عليه أشرطة التضميد الطبية التي تستخدم للجروح.
تشكل أكثر أعمال بويز نوعا من الغوص الملحاح في عمق الجرح الألماني بالرغم من محاولة الذات الألمانية في نسيان تداعيات الحرب وعدم الخوض فيها وفي مغازيها والتي أدت بها إلى أن تعاني من الشعور بالذنب والمسؤولية. فنحن نرى ان بويز يفعل العكس! فبدلا من محاولة النسيان أو حجب الذاكرة يقوم هو بتسليط الضوء والغوص عميقا في تلك الدراما النفسية. خصوصا وان بويز قد أكد مرارا أن أعماله لا تطمح إلى تقديم مشروع جمالي، فهذا ليس هدفها، ولاهي ملتزمة به بقدر تمحورها حول هدف أكثر سموا وهو تغير الوعي الإنساني وتنشيط الحوار الاجتماعي وتوسيعه. إذن هو منجز إبداعي منظورا إليه كذريعة لبدء حوار وليس كمادة لانفعال جمالي.

الحلقة الثانية والأخيرة حوار مع جورج بويز