(الجزء الاول)

- اكثر ما ينشر من الشعر الان لا يستحق النشر
- بسبب قصيدة رفعت الحكومة دعوى قضائية ضدي
- المفكر لا يستسيغ لنفسه ان يتبنى افكارا صنعها الاخرون
عبد الجبار العتابي من بغداد: طالب الحيدري.. شاعر عراقي من مواليد بغداد / الكاظمية عام 1928، له العديد من الدواوين وترجم للعربية (رباعيات الخيام)، مثلما كانت له شهرة غير عادية في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، كتب عنه محمد رضا الشبيبي، طه حسين، بشارة الخوري، د.محمد مهدي البصير والشيخ محمد بهجت الأثري، شاعر ملتزم، وألتزامه هذا جعله نحاصرا بالرقابة في عهود وازمنة عديدة، لكنه كان متواصلا مع كتابة الشعر وفي التزامه، وربما هو الان اكبر الشعراء العراقيين عمرا، معه اجرينا حوارا تناولنا فيه تفاصيل ذكريات بعيدة واراء في الشعر والشعراء واشياء اخرى.

* من اين بدأت مع الشعر؟
- بالنسبة للعمر هو العاشرة والثانية عشرة وقد كنت اقف في المجالس العامة وتأثري بالشعر لكوني في الكاظمية وهي المعروفة بمجالسها الادبية ومدارسهاواسرها العلمية، وأول تأثري بالشعر كان بما قيل عن الامام الحسين، واول بيت وأول قصيدة قلتهما كانا في الامام الحسين، والعائلة لا تخلو من شعراء ولكن لديهم العلم يحجب الشعر، فالمحيط الذي اعيش فيه علما وادبا وجهادا، فجدي لابي استشهد قرب (القرنة) وهو يحارب الاتكليز مع بقية العلماء الذين خرجوا للجهاد.

* هل مررت بمعوقات وقفت امام رغبتك كشاعر؟
- من الطبيعي ان يكون هناك من يثبطون العزيمة خاصة في البداية، ولكنني كنت ثابتا ومتماسكا واستطعت ان اخطو الخطوات تلو الخطوات وكان هناك مشجعون من العلماء ممن يتوقعون لي النجاح في هذا المضمار.

* متى احسست انك شاعر فعلا؟
- انا لم استطع ان اقدر مقامي في المحيط الادبي وتركت ذلك للنقاد والقراء والعارفين، ولم ازل لا استطيع تقييم موقفي في الشعر العربي.

* هل يمكن ان نسمي هذا شعبة من الغرور؟
- فطرة الانسان الغرور واذا اغتر الانسان بقي واقفا في مكانه ولم يستطع التقدم، انا دائما كنت استمع الى الاخرين ودائما ارجو ان اكتب ما هو ارفع مما كتبته، عندما القى الجواهري قصيدته في رثاء اخيه جعفر، وكان لا صلة له مع اخيه، القى القصيدة في جامع الحيدرخانة وكنت موجودا واعجبني المطلع (أتَعلَمُ.. أم أنتَ لا تَعلَمُrlm; / بأنَّ جراحَ الضَّحايا فَمُrlm;)، هذا المعنى اعجبني، وكنت وقتها قد جمعت 200 قصيدة لطبعها في ديوان جديد، وعند سماعي للقصيدة قررت ان امزق ما عندي من القصائد، وان اكتب على هذا المستوى، وعندما عدت الى الدار مزقت كل القصائد واحرقتها وبقيت ساهرا تلك الليلة اقلب بعض الدواوين، فوقع بين يدي ديوان (سقط الزند) لابي العلاء المعري مصادفة وبينما كنت اقلبه واذا بالمعنى نفسه اجده وقد كتبه المعري قبل الجواهري بألف سنة، كان سبق المعنى لابي العلاء وليس للجواهري.

* وهل ندمت على تمزيق القصائد؟
- لم اندم ابدا على ذلك لانني كنت اريد ان اكتب افضل منها واستطعت فعلا كتابة ذلك.

* استوقفني قولك ان الجواهري لا صلة له بأخيه جعفر؟
- الذي كان معروفا ان الجواهري ما كان على علاقة بأخيه جعفر الذي كان عاملا، وقتلته جماعة حين كان يعبر الجسر، قتلوه فقط لاثارة الجواهري حتى يكتب قصائد ضد صالح جبر!!.

* ما اول ديوان اصدرته ومتى؟
- ديوان (الوان شتى) عام 1949 صدر في بيروت عن دار الكشاف.

* كيف تم طبع الكتاب؟
- ارسلت الى دار النشر مجموعة من القصائد القصيرة وفي مواضيع مختلفة مع مقدمة كتبها الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي كان انذاك رئيسا للمجمع العلمي العراقي ووزيرا للمعارف.

* كيف كتب الشيخ مقدمة لشاعر شاب؟
- للصلة العائلية الجيدة بين عائلتنا وعائلته والمهم انه ابدى اعجابه، وقد لاقى الديوان استحسان القاريء العربي وكتب عنه في الصحف اليومية.

* ما الذي احسست به وانت تصدر باكورة اعمالك؟
- شعرت انني خطوت خطوة الى الامام، ولكن قد اكون فيما بعد قد ندمت عليه، كان لا بد ان اتأنى اكثر واطبع ما هو ارفع، فلو تأنيت اكثر لنشرت شعرا اعلى مستوى.

* بين ديوانك الاول وديوانك الثاني نحو عشر سنوات لماذا؟
- كنت دائما مطاردا من قبل السلطات الملكية بسبب افكاري التقدمية، وفي نظرهم انها افكار هدامة، وكنت اتعرض دائما الى ملاحقات ومضايقات، ومنعت من السفر طويلا، واستدعيت الى الاجهزة الامنية كثيرا وخاصة من الجهاز الذي يشرف عليه بهجت عطية، كما ان النشر كان متعسرا بسبب الرقابة المفروضة على النشر.

* هل هناك حادثة معينة؟
- في سنة 1954 نشرت قصيدة (سيري جموع الشعب سيري) على الصفحة الاولى من جريدة (لواء الاستقلال)، ورفعت ضدنا انا ورئيس التحرير قاسم حمودي دعوى قضائية، وبقيت الدعوى تتأرجح حتى نشرت الصحف رسالة موجهة اليّ من الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، الامام المصلح، يطلب فيها مني اعادة نشر القصيدة، ويطلب من الشعب ان يحتفي بها ويحفظها عن ظهر قلب، لذلك جمدت الحكومة الدعوى، ولكن راحت تحركها متى شاءت وعندما تريد ان تجرجرني، وهذه القصيدة نشرت في امهات الصحف العربية، وكتب عنها الدكتور جورج حنا قائلا عنها (انها اقوى من فرقة في الجيش العراقي) يوم لم يكن في العراق غير خمس فرق، يومها بيعت النسخة الواحدة من الجريدة بدينار واحد بينما كان سعرها عشرة فلوس، ودخلت القصيدة كل بيت في العراق ومحفوظة على الالسن.

* ما المناسبة التي قيلت فيها هذه القصيدة؟
- قيلت في ظرف عسير مرت به (الجبهة الوطنية) التي تضم كل الاحزاب الوطنية والمستقلين الوطنيين، حيث قرروا حينها ان تنشر القصيدة في جريدة (لواء الاستقلال) وكنت ارغب نشرها في جريدة (الاهالي) التي صاحبها كامل الجادرجي، لكنهم قالوا ان اللواء اوسع انتشارا.

* الى اي حزب كنت تنتمي؟
- لم انتم الى حزب ابدا على الرغم من علاقتي الجيدة مع رؤساء واقطاب كل الاحزاب الوطنية، لانني اؤمن ان المفكر لا يستسيغ لنفسه ان يتبنى افكارا صنعها الاخرون.

* هل من الضروري للشاعر ان ينتمي الى حزب ما؟
- ليس من الضروري بالتأكيد، الشاعر له كيانه، وعلى العكس الاحزاب هي التي تتمنى الانتماء اليه اذا كان فاعلا في المجتمع وصاحب مكانة مرموقة ومقبولة من الشعب نفسه، كما ان هذا يتبع طموحات الشخص، فمن يطمح بكرسي ينتمي الى احد الاحزاب، لكنني لم افكر بمثل هذا الطموح.

* هل حدث ان حرضك احد على كتابة قصيدة ما؟
- كنت اتأثر بالظروف واؤثر فيها، ولم اكن مكتوف اليدين او امعة اقول ما يراد مني.

* ما الاعمال الاخرى التي طبعتها فيما بعد؟
0 طبعت رباعيات الخيام التي ترجمتها عن الفارسية، ترجمت عام 1947 وطبعت عام 1950 الطبعة الاولى، كما طبعت بعد ذلك رباعيات الحيدري، و نشرت ديواني (نضال) بعد ثورة تموز 1958، وفي عام 1998 نشرت (معلقة العشق) وهي قصيدة طويلة من اكثر من مئتي بيت.

* لماذا هذا الانقطاع الطويل عن النشر؟
- لا يوجد اي مجال للنشر طوال هذه المدة، هذه القصيدة (معلقة العشق) وهي وجدانية بقيت ستة اشهر في وزارة الاعلام ولم يسمحوا لي بنشرها، الى ان اتصل احدهم بوكيل وزارة الاعلام انذاك الشاعر حميد سعيد الذي علق على الموضوع بقوله: (لا يا اولاد الـ... انهم لا يريدونه ان يظهر على الساحة) ثم قال انها ستجاز دون ان اقرأها، وطلب نسخة منها بعد ان تطبع، وبعد نصف ساعة كانت المجموعة بين يدي وعليها ختم الموافقة، انا لم اجد مجالا للنشر، ولم اقدم لانني اعرف انه لن ينشر، وحتى الوجدانية كانت ترفض وجاولت مع الصحف وكذلك لم تنشر لي للسبب ذاك.

* ما سبب اصرارك على كتابة الشعر العمودي على الرغم من ظهور الحر وقصيدة النثر؟
- لان العمودي هو الاصعب ولانه اكثر اصالة، وجربت الكتابة في شعر التفعيلة ولم استمر معه لانني اخترت الاصعب، فأنت لو جلست في مجلس هل ستجد احدا يستشهد بشعر حر؟ الجواب لا وانما العمودي.

* ما رأيك بمستوى الشعر الان؟
- اكثر ما ينشر من الشعر الحر او قصيدة النثر وحتى الشعر العمودي لا يستحق النشر، انا لا اتابع بشكل دائم بسبب النظر حيث لدي الان عين لا ترى واخرى لا ترى الا قليلا.

* هل استوقفك اسم معين؟
- انا قليل القراءة للشعراء المعاصرين لانني مشغول بأمور اخرى وثانيا احاول ان لا اتأثر بالاخرين، بالاضافة الى ضعف النظر، ومع ذلك فهم لهم منهجهم وانا لي منهجي.

* ولكن لماذا التمسك بالشعر العمودي و(كل شيء الى التجدد ماض)؟
- وهل ان الشعراء العموديين طيلة هذا التاريخ لم يجددوا ويكتبوا اشياء نفيسة؟، ليس التجديد بالالفاظ والقوالب وانما في المعاني واصالة اللغة، نحن نسعى الى ابقاء اللغة العربية في الذروة دائما وان لا تموت، ولم يخل عصر من العصور من شعراء كبار يجددون ويحافظون على اصالة لغة القرآن والامة التي تنتمي اليها مع وجود اطراف حاولت طمس هذه اللغة وتتريك حتى القرآن، ان تمسكنا بالعمودي لهذه الاغراض لتبقى العربية على روعتها وفخامتها، ونحن لا نقول ان القوالب الاخرى لا توجد جمالية، ولكن ليس من مصلحة اللغة العربية ان يطمس الشعر العمودي وان تذهب ادراج الرياح في سبيل شعر قد لا يبقى طويلا كما كان هناك (البند) في الادب العربي وهو قريب من شعر التفعيلة، ويجب ان لا ننسى ان شعر التفعيلة مأخوذ عن لغات اجنبية، فكلما كان الشاعر اقدر واكثر تمرسا في اللغة والاداء كان يأتي بالروائع العمودية، والمثل الذي لايغيب عن العين الشاعر احمد شوقي الذي استطاع ان يبقي على جلالة اللغة العربية وعارض الكثير من عيون الشعر العربي لاكبر شعراء العرب فأجاد وربما بذ ّ اي تفوق على اصحاب تلك القصائد كنونية ابن زيدون وسينية البحتري والبوصيري والمدائح النبوية.