محمد الحمامصي: تنظم الإيسيسكو واليونيسكو وجامعة القيروان في الفترة من 28 إلى 30 سبتمبر الجاري ندوة علمية دولية عن علماء القيروان ودورهم في الحضارة والتراث الإسلامي، وذلك في إطار الاحتفاء بمدينة القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2009، يشارك فيها نخبة من مؤرخي العالمين العربي والإسلامي من بينهم د.خالد عزب، القائم بأعمال مركز الخطوط ومدير إدارة الإعلام بمكتبة الإسكندرية، ويتحدث عزب عن المساجد الجامعة في العالم الإسلامي، متخذاً من مسجد القيروان نموذجاً، ملقياً الضوء على دور المساجد الجامعة في المدن الإسلامية المبكرة ودورها سواء كنقطة ارتكاز في التخطيط العمراني للمدينة أو كرمز سياسي يعبر عن السلطة الناشئة في العالم آنذاك. كما يدرس الباحث مسجد عمرو بن العاص الذي جاء رمز لانتهاء مرحلة فتح مصر ومسجد القيروان الذي جاء رمزاً لانتهاء فتح ليبيا وتونس وبداية فتح بلدان المغرب العربي الأخرى والأندلس. ويشير عزب في بحثه إلى أنه عندما أتى الإسلام، هذب العادات والتقاليد التي كان لها جذورها العميقة في المجتمعات السابقة عليه من عشرات القرون، لتكون متماشية ومتوائمة مع تعاليمه. وواكب هذا تطور في المدن والعمارة والفنون المحلية للتكيف وتتواءم مع مجتمعاتها الإسلامية.
تهدف الندوة للتعريف بأبرز أعلام القيروان وآثارهم العلمية، والاحتفاء بريادة علماء القيروان في نشر الحضارة الإسلامية وتراثها العلمي، والتنبيه إلى الدور التواصلي الذي مثله جامع القيروان في تاريخ الحضارة الإسلامية بين عناصر الثقافة وأنواعها المتعددة.
وتتركز محاور الندوة حول علماء القيروان في الفقه والأصول وعلم الكلام، وعلماء القيروان في الطب والفلك، والمحدثون والمؤرخون بين علماء القيروان.وتسعى الندوة لتوفير بحوث علمية متخصصة في محاور الندوة تثري المكتبة الإسلامية، ولإبراز مضامين التراث الإسلامي وإسهام جامع القيروان وعلماؤه في بثه وتدوينه.
وتعدُّ مدينة القيروان من أهم المدن الإسلامية التي أنشأها المسلمون في صدر الإسلام بمنطقة الغرب الإسلامي، لتجمع بين رسالة الدين والدنيا، أو العلم والسياسة، فالفتوحات الإسلامية التي حملت مشاعل الحضارة إلى الأمم كانت تسير وفق تعاليم الدين الحنيف التي بدأت بأمر القراءة، وحثت على تسيير مرافق الحياة بتعاليمه السمحة في الحرب والسلم، ومن ثم كان للعلماء دور كبير في شؤون القضاء والفتوى والاستشارة والتعليم والبناء والتشييد المادي والمعنوي، فلم يكن العلم في منأى عن سائر ضروب الحياة، بل لا يجوز الإقدام على عمل عام أو خاص قبل أن يعلم المُقدِم عليه حكم الدين في الإقدام والإحجام.
لذلك كانت للعلماء مكانة كبيرةٌ في الحركة العلمية وفي الحياة العامة، وقد شهد مسجد عقبة بن نافع بالقيروان أنواعاً من حلقات العلم في شتى فروعه، إذ حلَّ به في أول عهده جماعة من علماء التابعين، ولكنه لم يقتصر على علوم الفقه واللغة العربية وآدابها، فقد اشتغل علماؤه وطلابه فيما بعد بعلوم الفلك والطب والنبات والهندسة والرياضيات، وعلى الأخص في عهد الصنهاجيين والأغالبة وما بعدهما، وإلى جانب جامع القيروان كانت المدارس أو ما يعرف بدور الحكمة تحمل شعلة التعليم لمختلف الأعمار وشتى العلوم والمعارف.
وفي مقدمة الأسماء الكبرى لعلماء القيروان يأتي اسم العلامة علي بن زياد تلميذ مالك بن أنس الذي حمل أول نسخة من الموطأ إلى أفريقية، والإمام سحنون بن إسحاق الذي نشر الفقه المالكي بمدونته الشهيرة، وأسد بن الفرات الذي أحضر قبله قبسات من الفقه المالكي في كتابه المعروف بالأسدية، وإلى جانب هذين العالمين الكبيرين اشتهر آخرون في علوم وآداب متنوعة، منهم ابن رشيق القيروان الناقد، وابن شرف القيرواني الأديب، وابن الجزار الطبيب، وابن القزاز الشاعر، وأبو اليسر إبراهيم الشيباني الرياضي، وغيرهم من البارزين، وقد وجدوا في مكتبات القيروان العامرة في المساجد ودور الحكمة ما وسَّع مداركهم وقرب إليهم علوم المشرق والمغرب والأندلس.
وشهدت القيروان منذ القرن الرابع الهجري حلولَ بعض علماء الأندلس والمغرب في ربوعها الوارفة، فكان منهم الشاعر ابن هانئ الأندلسي، والكاتب ابن الأبار البلنسي، والناقد حازم القرطاجني،أحمد حلولو اليزليطني كما حلَّ بها العديدُ من العلماء المسلمين من مشرق العالم الإسلامي ومشرقه وجنوبه، وكوَّنوا مع علماء القيروان مدارس متنوعة العطاء ومتكاملة الجهود.