عبدالجبار العتابي من بغداد: في الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني / يناير 2010مرت الذكرى الثامنة والاربعين لرحيل الفنان التشكيلي العراقي الشهير جواد سليم، الذي رحل عن الدنيا في التاريخ ذاته من عام 1961، وها هو جواد سليم.. يظل شاخصا في الذاكرة وامام الانظار من خلال النصب الذي يرتفع في ساحة التحرير وسط بغداد، والذي يحمل اسم (نصب الحرية) حيث خلد الاثنان بعضهما البعض، وكان جواد.. يطل من بين رموز النصب محاكيا العابرين منه، وبالتأكيد هم يحاكونه ايضا بتلك النظرات التي لابد منها والتي تنتعش على وجه النصب في ذلك المكان، بل ان النصب اصبح دالة وعلامة فارقة لمدينة بغداد.

والمدهش.. ان عمل جواد سليم هذا، ظل صامدا بوجه الزمن وبوجه الحكومات المتعاقبة، وهو امر استثنائي في العراق، كما ظل صامدا امام المتغيرات حوله التي حاولت ان تؤثر فيه، فكان مكانه مميزا ولم يستطع احد ان يمسه الا بتلك الرطوبة التي كانت تتعالى من نافورة الماء التي اقيمت تحته في التسعينيات في محاولة مقصودة لهدمه، وظل محاطا بعيون الناس تتأمله وتقرأه وتحاكيه بنلك الروح الباحثة عن الحرية، كأنه يذكر الناس من خلال تفاصيله او اسمه على الاقل بالحرية، وكانوا يتعاطفون وسنسجمون مع تلك (اللافتة) الكبيرة التي تحمل رموز الحرية.

هاهي السنوات تقترب من نصف القرن، وها هو (نصب الحرية) ما زال يلوح في الافق الثقافي والابداعي والمكاني، ولابد من تساؤلات تتوالد حول قيمة النصب وما الذي اعطاه جواد سليم له ليظهر هكذا ويخلد؟ هذا النصب حسب المعلومات المتوفرة عنه بدأ بدراسات أولية في عام 1959 بطلب من رئيس جمهورية العراق آنذاك عبدالكريم قاسم الذي أراده نصباً للثورة، وبعد سنة سافر إلى فلورنسا بإيطاليا لصب أجزاء النصب، وفي مطلع عام 1961 عاد إلى بغداد، وفي أثناء عمله في تركيب قطع النصب في أماكنها بساحة التحرير أصيب بنوبة قلبية.. وبعد عشرة أيام توفي في 23 / كانون الثاني يناير 1961.

سؤالي: هل كان يمكن لغير جواد سليم ان ينجز هذا العمل؟ نقلته الى الناقد صلاح عباس رئيس تحرير مجلة تشكيل فقال: لايمكن ان يكون اي انسان بديلا عن انسان اخر ولكن هناك عوامل مشتركة تجمع البعض على رؤية الطموح وسياقات الفهم الذاتي والموضوعي عبر اشتراطات الحقبة التاريخية، وحين انجز جواد سليم مشروعه الفني الكبير فانه لم يكن يفكر في غاية المجد والخلود بل انه عمل على ارضاء ذاته واشباع رغائب زمنه المغادر عنه رغما، فنصب الحرية الذي ياخذ مكان القلب في جسد العاصمة العراقية بغداد، فانه وبكل المعايير الابداعية والفنية والتاريخية والتوثيقية والاجتماعية، استطاع ان يؤشر على شعب ناضل ثم انتصر، ان هذه الملحمة الخالدة ماكانت لتكون الا بعد ان تضافرت مجموعة من الاشتراطات الحتمية اولها مصداقية قرار المؤسسة الراعية او المنتجة ثانيا تامين المستلزمات الاساسية من خبراء فنيين ومهندسين وعلماء، لقد كان جواد يطمح في ان ينجز اضخم نصب نحتي في الشرق الاوسط وفي رسالة له موجهة لتلميذه محمد غني حكمت الذي كان يدرس في روما قال فيها: (سانجز اكبر لافتتة نحتية في العالم العربي والشرق الاوسط )، ولو ان هناك مؤسسة حكومية تتمتع بالمصداقية وتعي دور الفنون في الحياة العصرية وتخصص لذلك مبالغ مجزية لانتاج الفن الخلاق لرأينا ان العراق سيكون عبارة عن متحف كبير مفتوح على العالم، ان نصب الحرية لم يرتق اليه اي فنان اخر بعد ولكني استشرف ان الزمن الاتي سيكفل انجاز فنون اكثر اهمية وعظمة، فظاهرة جواد سليم مقرونة بظاهرة الحرية وادراك قيم المستقبل ويتوقف ذلك على مدى تفهم صناع القرار

ونفس السؤال نقلته الى النحات خالد المبارك فقال: ذلك يتعلق بظروف الزمان والمكان وروحية الشخص التي لا تتكرر لان كل فنان له ميزته ومنهجه وشخصية تميزه عن الاخرين، وبالتأكيد لا اعتقد ان اي شخص اخر يمكنه ان يأخذ هذه الفرصة بغض النظر عن وجود طاقات هائلة وامكانات بالتشكيل، واحيانا يدخل الحظ في انتهاز الفرصة، هناك في التاريخ ومضات لا تتكرر في الف سنة، وجواد سليم طاقة خلاقة مبدعة جمعت كل الصفات التي يتسم بها الانسان المثالي الذي يحمل طاقة الابداع والفكر والايدي الماهرة.
واضاف: جواد.. كان يقلقه الموت والحياة والعالم الاخر وصراع الانسان الجدلي وبحثه عن الحرية التي اكد عليها وهي حرية الفرد.

كما من الممكن ان نقترب من النصب اكثر بقراءة حديث لزوجته (لورنا سليم ) فهي تقول: (أن فكرة نصب الحرية جاءت من المهندس المعماري رفعت الجادرجي، لقد اقترح رفعت إقامة جدار عريض مرتفع، في ساحة من ساحات بغداد الكبرى، على هيئة بوابة عالية أو لافتة تستند من جانبيها على الأرض، وكان المطلوب من جواد نحت مشهد بارز من مادة البرونز يعلق على صدر اللافتة،أما جواد، فلم يكن يريد النصب مرتفعاً ومعلقاً بعيداً عن المارة، أراده قائماً على الأرض في متناول الناس، بحيث يستطيعون الإقتراب منه وتفحّصه عن كثب وتلمس منحوتاته بالأيدي، خشي رفعت، في حالة وضع النصب بمستوى الشارع أن يتسلقه الصبية، أو أن يكتب المارة أسماءهم فوقه).

وتضيف: (لكن هذه الفكرة لم تزعج جواداً، إذ كان يرى أن كل نصب يكتسب مزيداً من الجمال عندما يترك الناس بصماتهم عليه، مثل الآثار العالمية المزينة بأسماء آلاف السياح والتواريخ المحفورة عليها، دون أن يفسد ذلك جلالها أو قيمتها الفنية، وفي محاولة أخيرة لإقناع رفعت اقترح جواد إقامة بركة مائية أمام النصب، تمنع العابثين من الوصول إليه، وقال إن انعكاس المنحوتات على صفحة الماء سيكون مثيراً، حسم رفعت الجادرجي الجدل قائلاً إنه تمكن بصعوبة بالغة من إقناع المسؤولين بفكرة نصب كبير كهذا، وبالتالي فإنه يخشى أن يصرفوا النظر عن الفكرة إذا تضاربت حولها الآراء).

وتتاابع: (بعد هذه الحجة، وافق جواد على إقامة النصب كما يريدون، واستُدعي إلى مقابلة عبدالكريم قاسم للاستماع إلى توجيهاته قبل البدء بالتصميم، وخرج من المقابلة شديد الارتياح والإعجاب بشخصية قاسم، لكنه تأكد أن الرجل ليس رجل سياسة، وأنه سيجد صعوبة في التعامل مع أهلها ).

وتوضح لورنا: (أن عبدالكريم قاسم لم يطلب من جواد أن يضع صورته وسط الجدارية، كما زعم بعضهم، لكن بعض المنافقين المحيطين بقاسم اقترحوا عليه أن توضع صورته في قلب الشمس السومرية التي تتوسط النصب، ويبدو أنه لم يخضع للاقتراح بدليل أن الصورة لم توضع في النهاية).

اعود.. من التفاصيل المهمة التي ذكرتها لورنا، لأتوقف حاملا سؤال عند النحات ناصر السامرائي الذي تحدث قائلا: الجدارية عبارة عن رموز متكاملة من حياة اجتماعية قد تكون في العراق او اي دول من دول العالم، وصاغها جواد بصياغة عالمية وهذا جزء من عظمته، ولو كان هنالك نحات بامكانه عمل النصب لكان عمله، واؤكد ان كل النحاتين العراقيين الرواد والعظماء الذين حققوا حدثا في الشارع العراقي تجاوزوا ان يصنعوا جدارية لان جدارية جواد موجودة، ومن خلال ما تناقل عنه عرفت بعد ان (فلترت) في مخي ومن خلال شغلي ما قدمه ان جواد كان (فلتة) الفن العراقي، وما منحه للنصب هو خلاصة تراكمات ارثية وثقافية وبيئة اجتماعية، جواد.. في النصب زاوج بين الحرفية والفكرة وبالتالي قدم هذه المزاوجة بعمل برونزي اشتغل على روحية المادة، وفي وقت صعب بين عمالقة النحت العالمي وابرع في طرح موضوعه.

واضاف: الكل يقول عن جواد انه عظيم ولكن لا يقولون لماذا، الفنانون والادباء والمثقفون، هذا العمل لو وضع في اي دولة فهو يعبر عنها، لانه يمثل الحياة وليس العراق فقط، فهو منجز عالمي.

اما الناقد والفنان علي ابراهيم الدليمي فقال: لا يمكن لاي نحات اخر ان يصنع مثل هذا العمل الخالد، ذلك لان جواد امتلك من المؤهلات الثقافية والفنية ما لم يمتلكها اي فنان اخر، فجواد فكر عراقي محمل بالثقافة والحضارة، اضافة الى ان دراسته في ايطاليا ولندن اضافت اليه الكثير من المعلومات في النحت العالمي لذلك بلور كل هذا الابداع ليكون فنا عراقيا مهما.
واضاف: جواد مثلما خلده العمل فهو خلد العمل ايضا، الحرية تتشرف بجواد وهو يتشرف بها، والامكانية التي احتاجها النصب كانت موجودة لدى جواد كالخلفية الثقافية العالية والتحليل الفني حيث ان كل قطعة لها خيال معين او تعابير اجتماعية معينة، واكثرها معروفة ولكن لا يستطيع الا من لديه المام بالثقافة بمختلف مجالاتها.

اعود.. ثانية الى الناقد صلاح عباس ليجيب عن سؤالي: ما هي برأيك المؤهلات التي تميز بها جواد ليعمل النصب اي الصفات الابداعية له؟، فأجاب: جواد سليم وليد اسرة بغدادية اصيلة ومنذ ان تفتحت عيناه راى الالوان واللوحات وحوامل الصور والمذيبات فكان ابوه الحاج محمد سليم (ضابط بالجيش العثماني) من هواة الرسم الواقعي وحالفه الحظ في ان يجايل عددا من الرسامين الاوائل: عبد القادر رسام، عاصم حافظ،محمد صالح زكي وغيرهم وكانت المنافسة بينهم شديدة، فالرسم لدى الحاج محمد سليم يعني الرسم على النحو المعتاد حيث المنظر الطبيعي والحياة الصامتة وصور الاشخاص وكان يتقن هذه اللعبة بطريقة مدهشة قل نظيرها مما ساعده على اضفاء اسمه ضمن قائمة الفنانين المؤسسين في العراق، وكان اخوه الاكبر سعاد سليم هو الاخر فنان مميز لاسيما في رسم الموتيب الصحفي والكاريكاتير ووضع تصاميم بالاوسمة والانواط وان العلم العراقي الحالي من تصميمه، كما ان اخيه الاصغر نزار سليم كان يتمتع بمواهب عديدة كالترجمة والرسم وكتابة القصة والمقالة الصحفية وله مؤلفات كثيرة وكانت اخته الاصغر نزيهة رسامة مرموقة واستاذة بالفن على مدى حياتها التي عاشتها في بغداد، كان جواد سليم يعيش بين افرع الثقافة ويسكن في الفن فحياته وزمنه انطوى على كل اشكال الفنون فالى جانب كونه رساما ونحاتا فكان مصمم للازياء وديكورات المسارح واغلفة الكتب والحلي والاكسسوارات النسائية والمكياج اضافة الى كونه عازفا بارعا على الة الجيتار ويعد من افضل العازفين العالميين على انغام موسيقى الفلامنكو الاسبانية، اعتقد ان جواد سليم واحد من المبدعين العراقيين المحظوظين وممن ابتسم لهم القدر فعلى الرغم من عمره القصير الذي لم يمهله اكثر من 42 فانه حقق الكثير من المنجزات التي تعد من نفائس الفن العراقي المعاصر وحين نتصفح في سفره الشخصي فاننا نتلمس تلك الرعاية والاهتمام المقدمة له من قبل المؤسسة القائمة على الثقافة والفنون في العراق اذ انه حضي بثلاث دورات لدراسة الفن في اهم العواصم العالمية لندن وروما وباريس واذا ماتم الاخذ بنظر الاعتبار كل هذه الظروف الذاتية والموضوعية فان الحتمية ستكون ولادة جواد سليم هذا الفنان القدير الذي حفر بصماته العميقة في ذاكرة الثقافة العراقية المعاصرة فليس غريبا على رجل طموح اتيحت له كل مؤهلات الابداع الذاتي المكفولة بالاسناد الخاص فالفنان ومهما يكن لايستطيع لوحده انجاز المشاريع العملاقة التي توضع في الساحات العامة وهنا يمكننا افتراض الجدوى من الظرفين: الذاتي والموضوعي.


ها انني.. اقف عند حدود الذكرى الثامنة والاربعين، لكنني لم اسمع اسمه يتردد في الارجاء، وليس هنالك اي اهتمام بالذكرى،لا من المؤسسة الثقافية ولا سواها من المهتمين بالفن التشكيلي، وليست هنالك اية اخبار عن احتفاء او احتفال يقام قرب نصب الحرية .