أحمد مختار: يعتبر الموسيقار الشريف محي الدين حيدر من أهم الموسيقيين الذين أتقنوا أعلى مراحل العزف على العود ومؤلفا عميقا مبدعا لأعمال موسيقية متماسكة البنية وذلك لما يحمله من الهام نابع من أفكار عميقة في الموسيقى. المحلل لإعماله الموسيقية يدرك انه كان يتبع في التأليف ، الحس الفني الصادق والفكرة العميقة والمرهفة وان كان في اتجاه لا ينسجم والقواعد التأليفية العتيقة، لأن هذا في رأيه أفضل من أن يكرر ما سبق و قيل مع بعض الإضافات التي لا تذكر في افضل الأحوال و دون أن يقدم ما يجعل العود آلة لها إمكاناتها العالمية. كل ذلك أضافه إلى دراسته المتنوعة للموسيقى وثقافته العامة، ساعدته على التشبع بالروح الشرقية والعربية مطورا وسائله من خلال دراسته للموسيقى الغربية وآلة الفيولونسيل مدركا وبشكل مبكر لأهمية ما يدور في الموسيقى العالمية و تأثير ذلك على التجديد.
معتمدا على تلك المعرفة وضع أسس حداثوية لمدرسة العود العراقية التي انتشرت في بقاع كثيرة من العلم الآن، والتي أنصفت الموسيقى الصرف ( غير الغنائية ) في العالم العربي وآلة العود على حدا سواء و استطاع أن يوفق بين الموسيقى العربية والعالمية.

من هو
الشريف محي الدين حيدر هو أبن أمير مكة المكرمة ابن الشريف علي حيدر ولد في اسطنبول سنة 1892 ونشاء فيها , بدء اهتمامه وميله للموسيقى في الرابعة من عمره وبدء يتعلم العزف بنفسه في سن السابعة و ذلك من خلال تأثره بالاستماع إلى كبار الموسيقيين الذين يحضرون قصر والده، حين بلوغه الثالثة عشرة تمكن من العزف على آلة العود بصورة جيدة وتمكن من تلحين ( سماعي هزام) الخانة الأولى والتسليم والخانة الثانية . في عام 1919 أخذ يكتب للعود ولحن قطع متميزة وأغاني لم تكن مألوفة لا في مؤلفات العود ولا الآلات المشابهة أو القريبة من العود ولقد أكد كبار الأساتذة آنذاك عبقريته. و بآثاره هذه وضع أولى الأسس لأسلوبه الذي عمل على توثيقه في ما بعد.
في سن الرابعة عشرة بدء العزف على آlrm;لة الفيولونسيل وصار أيخذ دروسا منتظمة، و لأنه كان بطبيعته يتمتع بحس حدسي بالبناء و الشكل في العمل الموسيقي استطاع أن ينمي قابليته التقنية بشكل ملحوظ على الة الفيولونسيل .

انطلاقته إلى العالمية
في سنة1924 سافر إلى أمريكا، و أجتمع بأهم العازفين والموسيقيين هناك في مآدبه أقيمت على شرفه(حيث كان هناك من يعرفه و يعرف مكانته الاجتماعية في الشرق الأوسط آنذاك و هذا ساعد في التفات الموسيقيين إلى موهبته المبكرة) عزف بعضا من مؤلفاته فنالت إعجابهم فنشرت إحدى الصحف المحلية تتحدث عن هذا اللقاء المهم و عن أراء الاساتذه الحاضرين خصوصا (كودسكي Godousky ) و (كريسلرKreister ) حيث بينا بالاتفاق أن الانقلاب الذي أحدثه الشريف محي الدين حيدر في الة العود يشبه الانقلاب الذي أحدثه العازف البارع (باكنينيPaganini ) في آلة الكمان. وعلى اثر ذلك اهتمت الصحف بكل ما يقدم من إعمال و بدأت تتابع الأمسيات التي يحيها وصار لقبه في الصحافة باكنيني العود.
توفر المستوى الموسيقي العالي و تفهم العلاقة بين الروح و التكنيك لدى أهم الأساتذة النقاد في أمريكا ساهم في فهم وإدراك أهمية أعمال الشريف حيدر وأسلوبه في العزف و بذلك استطاع أن يوصل الة العود و بمستوى عالي وعميق إلى مستوى ذائقة الموسيقى الغربية في أميركا، ومن خلال ذلك يعتبر أول من أوصل الة العود كاشفا عن إمكاناتها و ببراعة إلى العالم الغربي في العصر الحديث وثانيا بعد زرياب عبر التأريخ حيث أكمل المشوار تلميذه منير بشير.
واصل بعد ذلك تقديم حفلاته في أكثر من بلد أوربي ونال إعجاب النقاد والجمهور وقدم الكثير من المؤلفات التي جمعت بين التقنية العالية التي تنم عن دراية وعلم في الموسيقى و روح شرقية عربية خالصة ، كتب قطع للعود تحمل أهم سمات مدرسته مثل الطفل الراقص (1928) كما وضع كتاب يتضمن دراسات للعزف على العود يعد الأصعب تقنياً والأكثر مرونة لحركة الأصابع .
عاد إلى تركيا و قدم حفلات في عام 1934 و آثار الدهشة و الجدل بين أوساط الموسيقيين، و بعد أن تجاوز أقصى حدود القدرة على العزف أنذلك أصبحت إرادته اكبر للمضي في التحديث المدروس و البحث الموسيقي وكان يرى في تلك الحداثة ما يتعدى الدراسة النظرية لينتقل بالموسيقى إلى أشكال أكثر ذهنية مستمرا في مساره بالمزيد من العمل.

دراسته العليا
استطاع أن يوسع معارفه الدراسية، ولم تقتصر دراسته على شهادة بدائية في الموسيقى بل تعدها إلى مراحل عليا، كما طور قدراته المعرفية التقنية بدراسة التأليف الموسيقي وآلة الفيولونسيل والعارفون بالموسيقى يدركون أهمية تعلم آلة أخرى وهذا ما حدث مع الكثير من العازفين المهمين. فقدم أول حفل على آلة العود والفيولونسيل عام 1928 وحضرها الكثير من ناقد الموسيقي كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، وقدم مؤلفات على العود في الجز الثاني من الأمسية مع تقاسيم و ارتجالات أكد من خلالها تفرده و خصوصية أسلوبه الحداثوي، بعد هذا الحفل نشرت جريدة quot;ذه ديلي تلكرافquot; مقالا نقديا تقول فية:
quot;عازف عود متميز بأسلوبه لأنه يمتلك قدرة على استخدام يده اليسار واليمن بنفس المستوى و بتقنية عالية، وبإخراجه أصوات نقية من عوده فأنه يذكرنا بعازف الجيتار المشهور(سيكوفيا)أضافه لذلك انه أبدع في إخراج أصوات في آلة العود لم نألفها من قبل(ترجمة مختار).
لم تكن اهتمامات الشريف مقتصرة على الموسيقى والدراسة العليا فقط، بل كان رساما له أعمال شاركت في عدة معارض ودخل كلية الحقوق ودرس الآداب والفنون في بدايته إضافة إلى اهتماماته الثقافية الأخر (نقلاً عن كتاب صدر عن سيرته باللغة التركية ترجم بعض فصوله الفنان همام السيد). كل ذلك وبالإضافة إلى صدقه ونبذه للادعاءات الفارغة والاختراعات الواهية، جعل منه شخصية موسيقية و ثقافية بارزة ساهمت وبشكل فعال في عملية الارتقاء بالموسيقى العربية في القرن العشرين.

تأسيس معهد الموسيقى في بغداد
وكما يذكر الأستاذ حبيب ظاهر العباس في كتابه الشريف حيدر وتلامذته، quot;quot; عام 1936 طلبت منه الحكومة العراقية آنذاك المجيء إلى العراق لتأسيس أول معهد رسمي أكاديمي وليس معهد أهلي للموسيقى في بغداد (معهد الفنون الجميلة ألان)، يمنح المعهد شهادة معترف بها، فرحب بالفكرة واستجاب للطلب وتم تأسيس المعهد في السنة ذاتهاquot;quot;.
على غرار تلك الخلفية الموسيقية والثقافية التي ذكرناها سلفا وضع الشريف محي الدين حيدر أسس علمية للمعهد الموسيقي في بغداد ووضع أيضا مناهج خاصة بالموسيقى لتبث عن طريق إذاعة بغداد، كان لذلك المنهاج أهمية في نمو التذوق الموسيقي العام. بالاستعانة بخبرات أساتذة كبار واستشارتهم مثل الأستاذ والتربوي الكبير حنا بطرس وآخرين استطاع الشرف حيدر إن يتكامل بفكرة التأسيس وهذا ينم عن وعي ثقافي ذو نزوح نحو تقبل الآراء الأخرى وعدم التسلط، باعتبار الثقافة والعقلية احد محفزات التأليف الموسيقي مضافة إلى الإبداع والخيال طبعاً، ونستطيع إن نلاحظ إن التأليف الواعي هو احد سمات موسيقياه.

تحليل بعضاً من موسيقاه
أن بعض الذين استمعوا ودرسوا مؤلفات الشريف محي الدين حيدر يخطئون في فهم جزء منها على أنها تكنيكية تعتمد أسلوب الحركة السريعة وأنها تشيع البهجة والسرور فقط. صحيح أن بعضا منها يبدو فرحاً ورشيقاً ولامعاً لكن المتعمق في هذه الأعمال( الطفل الركض ،الطفل الراقص ،كبريس ) يجد فيها عمقا روحيا وتعبيريا جميلا قادرا على إنعاش الذهن والحواس وقادر على خلق آفاق وأفكار جديدة، و لكن لم تكن أذن المستمع التي اعتادت أسلوب النغمة الطويلة والإيقاع البطيء والغنائية في الموسيقي قادرة على أدراك ذلك العمق من الوهلة الأولى. و في أعمال مثل ( تأمل ، سماعي مستعار، سماعي عشاق ) كان اقل تعقيدا على أذن المستمع لكن في الوقت نفسه عميقا وصانعا ماهرا مدركا لما كان يفعل وقد استطاع أن يعكس بصدق وضع الفنان الذي يتوق إلى التحرر من سلطة الأسلوب الكلاسيكي بالرغم من انه استخدم قوالب الموسيقى العربية القديمة في بعض مؤلفاته لكن بمحتوى حداثوي. أن الشريف لم ينطلق في أعماله من سعادته أو مأساته الخاصة فقط، بل من روح العصر وأحاسيسه، أما عناصر الفرح والرشاقة والخفة هي إحدى الجوانب العديدة في موسيقاه حيث هنالك الجانب الرومانسي الهادئ وأيضا الإحساس الكامل بالتفرد والجماعي أحيانا. كلما اقتربنا من عالمه أدركنا مدى اتساعه وشموليته وتميزه حيث كان دائم البحث عن ابتكارات منطلقة من التراث ومن فكرة الموسيقى الشرقية ومن خلال ابتكاراته التي تصب في جوهر عمل موسيقى العود، كما يمتلك أسلوب تقنيات متفردة لأنه استخدم الأصابع بطريقة الانتشار المدروس على ذراع آلة العود ، وهذا آت حسب اعتقادنا من الطريقة المستخدمة في آلة الفيولنسيل باعتبارها الآلة الأقرب للعود من حيث أصابع اليد اليسرى وما بينها من مسافات، كما اوجد الشريف حيدر تقنيات استخدمت لأول مرة في آلة العود مثل تقنية مواضع الأصابع المتداخلة، والريشة المقلوبة والعلامات المزدوجة، إما روحيا فقد اعتمد اختيار مقامات مهمة لم يتناولها أحدا من قبل لصعوبة التأليف على سلمها و أيجاد قوالب جديدة ، كما عمل على تطوير مفهوم التقاسيم.
من خلال كل ما تقدم استطاع الشريف حيدر أن يتجاوز في ذلك أساليب عصره مكتشفاً آفاق و سائل تعبيرية جديدة أثرت ومازالت تأثر بالأجيال. وبالرغم من تحليقه الشاهق في سماء الموسيقى والعود ضل فنانا متواضعا يبحث عن العلم والتدريب المتواصل من اجل العود والموسيقى حتى آخر أيامه. وبسبب مرضه الشديد أضطر لمغادرة العراق إلى أنقرة لإكمال العلاج، وتوفي المعلم الأول لمدرسة العود العراقية الموسيقار الشريف محي الدين حيدر في اسطنبول عام 1967 تاركا وراءه نتاجا إبداعية ومنهجاً أكاديميا ذو قيمة فنية عالية.

أحمد مختار
مقتطف من بحث أكاديمي موسيقي بعنوان:
(مدرسة العود العراقية منذ الشريف حيدر إلى اليوم)
سيقدم لجامعة لندن لنيل شهادة الدكتوراه.
يرجى عدم النقل أو الاقتباس إلا بعد أخذ رأي الكاتب فالعمل بفصوله الأولى موثق لصالح الجامعة المذكورة.