حميد مشهداني: في ربيع 1980 كنت عائد ا من باريس، بعد تنفيذ مهمة حزبية ولكنها قبل ذلك كانت فنية، اقبم حينذاك معرض كبير لمعظم الفنانين العراقيين المقيمين في اوربا.... وبسبب قرب برشلونة من باريس اختاروني فناني اسبانيا كي امثلهم في ldquo;باريسrdquo;، حاملا لوحات عدد من الفنانين العراقيين المقيمين في اسبانيا، اتذكر منهم جودت حسيب، سلام الشيخ، وكمال سلطان، وكاظم شمهود، وآخرين لا تحضرني اسماؤهم الان..
نمت ايام المعرض في بيت صديقي العزيز ldquo;فيصل لعيبيrdquo; على ضوء الشموع لأن كهرباء بيته كانت تأتي وتروح.. كما تشاء مثل ldquo;بغدادrdquo; الان. وبعض ليالي باريس كانت على حساب الشاعر العزيز ldquo;شوقي عبد الاميرrdquo; ممثلا سفارة بلد يتيه في الطائفية والارهاب الان.. قضيت 10 أيام جميلة بين بيوت اصدقائي ذكرتهم سابقا ولا انسى الطيب ldquo;غسان فيضيrdquo; حيث رتب لي فراشا انيقا في واحدة من ليالي باريس الممطرة جدا. في بيته.
أثناء عودتي الى الحدود الفرنسية -الاسبانية ركبت قطارا اسبانيا الى ldquo;برشلونةrdquo; وهذا كان بطيئا وذكرني بقطارات بغداد، كان يتوقف في محطات كل المدن والقرى المسكونة منها وغير المسكونة. وبسبب اضطراب نفسي عانيته في تلك السفرة كنت امر بعربات القطار صعودا ونزولا، لان السئ في قطار الليل ذالك، بجانب بطئه، هو خلوه من المسافرين فاتصورني سيد القطار ولكن رغم ذالك لم أكن سعيدا ابدا.، وفي واحدة من جولاتي بين العربات عثرت على ملف ضخم تحت مقعد. فرحت كثيرا، كنت بحاجة لقراءة اي شئ، كنت فد قرأت كل ما عندي من كتب. كان مطبوعا على طابعة قديمة في الصفحة الاولى، كان العنوان ldquo;اعترافات فاضحةrdquo; او اعترافات مستحيلة الاعتراف بها. مطبوعا على أكثر من 500 صفحة ربما أحدهم كان فد فقده في القطار. استمتعت كثيرا بقراءة بعض الفصول لان سلفادور دالي كان كاتبا رائعا وrdquo;انسكلوبيدياrdquo; ايضا، رغم تعقد سرده في بعض الفصول. كانت الوان الفجر تداعب مدينة برشلونة حين وصل قطاري محطة ldquo;فرنساrdquo; بعد فترة انتهيت من قراءته، حينذاك تصورته مشروعا لكتاب، ولكنني اكتشفت ان الكتاب كان قد نشر في عام1975، اي قبل وصولي من بغداد بسنة، كان ldquo;داليrdquo; قد كتبه بالتعاون مع الكاتب الفرنسي rdquo;اندريه بارنودrdquo; في حينها أذهلني ذالك المطبوع، ولم أكن على علم بأنه كان قد طبع ونشر قبل ذالك بسنوات.
والان، وبعد قراءتي لمقالة ldquo;الجنابيrdquo; المعنونة rdquo;السوريالية بين مكنسة الساحرة وسم الافعىrdquo; وإعادة نشر بيانه القديم حول ارتباطه بالسوريالية رأيت من المناسب ان أكتب هذه السطور، والتي بطريقة ما لها علاقة بما كتبه في بيانه.
يقول ldquo;داليrdquo; في كتابه من فصل اخترته عشوائيا وتحت عنوان ldquo;كيف يصل يمكن لأي أن يصير سورياليا؟rdquo; وهكذا يبدأ الفنان العظيم.
في الخامس من شباط 1934 دعى ldquo;انديه بريتونrdquo; المجموعة السوريالية الى الاستوديو الذي يملكه في شارع 42 فونتين الى جلسة طارئة لمحاكمة سلوكي في الفترة الاخيرة باعتباري عضوا فاعلا في المجموعة، ذالك المساء كنت اعاني من الحمى وبداية ذبحة صدرية بسيطة، فقط فكرة المرض كانت تمرضني، ولكنني من ضعفي كنت استخرج من ldquo;البارانويا المنطقيةrdquo; او بالعكسrdquo; منطقية البارانوباrdquo; لكي احول الاوضاع لصالحي، تدثرت جيدا باربعة بلوزات وجاكيت ومعطف، و تحت لساني وضعت ldquo;ترمومترrdquo; لمراقبة الحمى التى كنت أعانيها تلك الليلة، وعلى وشك الخروج من شقتي بعد كل تلك الطقوس وجدتني حافيا، وكانت ldquo;غالاrdquo; هي التي انتبهت لذالك فلبست الاحذية دون شد القيطان، وحين وصلت ستوديو ldquo;بريتونrdquo; مع غالا كان السورياليون موزعين في كل زوايا الاستوديو، بعضهم على كراسي واخرون وقوفا وبعضهم على الارض مع مخداتهم وغيمة من دخان السجائر حولت جو الاستوديو الى مكان ضبابي، هنا ظهر ldquo;اندريه بريتونrdquo; بهندامه او ldquo;قاطهrdquo; الاخضر البطلي. كان وكأنه واحد من اعضاء محاكم التفتيش بادئا محاسبتي على أخطائي الاخيرة وانشقاقي الاخير عن الجماعة. بينما كان يمشي الاستوديو من طرف الى طرف، وحينما يصل الى لوحة ldquo;غالاrdquo; التي كنت قد اهديتها له سابقا، كان يتوقف امامها لحظات ليواصل اتهامي بالهرطقة وعدم الالتزام. كنت استمع باهتمام كل ما كان يقول، ولكن صعود درجة حرارتي سبب انسداد احدى أذني، فكنت اسمع بأذن واحدة اتهامات ldquo;النائب العامrdquo; المدعوrdquo;اندريه بريتونrdquo; سيد السوريالية والسورياليين.. سحبت ldquo;الترمومترrdquo; من تحت لساني لارى انني كنت على اكثر من 38 من الحمى وهذا كان كثير، في حالات كهذه الاطباء ينصحون بتخفيض درجة الحرارة، وعلى المصاب التخلي عن تدثره بالملابس الثخينة، فبدأت اولا بنزع معطفي، تلاه الجاكيت وبعدها نزعت البلوزات الثلاثة وانتهيتملقيا أحذيتي بعيدا، هنا بدأت اسمع الضحكات المكتومة لبعض من المجموعة وهذا شجعني وزاد من معنوياتي الفكاهية للحضور، وهذا اعيد و أثار غضب ldquo;بريتونrdquo; مرة اخرى والذي مازال في زيه الاخضر بلون زجاجات النبيذ الرخيصة وهو يحرقني في نظراته المتعبسة وسط دخان غليونه الذي كان يبدو كبركان صغير. حينها عدت ولبست كل ما نزعته سابقا من ملابس وأحذية بسرعة امام اندهاش ldquo;بريتونrdquo; مفترسا غليونه كل لحظة اكثر وأكثر حائرا تجاه سلوكي الهزلى امام ldquo;لبةrdquo; السورياليين، احتجت بصوت عال ضد كل تلك الاتهامات لانها كانت قائمة على اعتبارات سياسية واخلاقية دون قيمة وما كان يثير غضب بريتون هو حديثي وردي وفي فمي كان ldquo;الترمومترrdquo; معلقا لا أرقب تطور درجات حرارتي كل لحظة لذالك نصف عباراتي لم تكن مفهومة، وهذا ما كان يستشيط غضب ldquo;السوريالي الابquot; ولكنني ركعت امامه متوسلا غفرانه، ولكنه بدأ ردا صارخا، بصوت عالي اعادني الى غضبي السابق فبدأت نزع كل ثيابي الثقيلة والقيتها تحت قدميه مما اثار ضحك الحضور مرة اخرى، وقبل انتظار تعليق سيد ldquo;السورياليينrdquo;عدت البس وبسرعة كل ما نزعته من ثياب قبل لحظة، هذه المرة فعلا كنت خائفا من الحمى التي كنت اعانيها، واستمتعت مرة أخرى سماع قهقهات بعضهم امام ما قمت به من بهلوانية بينما كان ldquo;بريتون يشتعل غضبا مع غليونه، وكان يعاني المر في الحفاظ على دماثته وبرودة اعصابه، لذالك اضطررت ان ابصق التمومتر من فمي لكي اتكلم بوضوح رغم قلقي على صحتي قبل ذالك المشهد المؤلم.
كان علي ان اختار بين الصمت والضجيج امام اتهامات ldquo;بريتونrdquo; لي بالخيانة في ldquo;منولوجrdquo; مليئا بالسوء تجاه سلوكي وشخصيتي، ذالك اليوم اكتشفت مدى الهوة التي فصلتني عن ldquo;اندريه بريتونrdquo; منذ البداية. كنا قد تعرفنا على بعض بواسطة ldquo;جوان ميروrdquo; في 1928خلال زيارتي الثانية الى باريس، وحينما رأيته شعرته كما ابا جديدا لي، وفكرت في ولادة جديدة، التجمع السوريالي كن بالنسبة لي كما ldquo;المشيمةrdquo; المغذية، وامنت بالسوريالية وكأنها الواح القانون التاريخي. استسغتها بشهية لاتصدق ولا تشبع الروح والحروف للحركة، وهذا انفراد ذاتية شخصيتي الفريدة التي كنت امثلها بشكل طبيعي، وrdquo;قضيةrdquo; محاسبتي تلك كانت مهزلة تنكرية، والاكثر تناقضا هو انني كنت اكثرهم سورياليةrdquo; ربما الوحيدrdquo; ولكن رغم ذالك كانوا يتهموني بالمبالغة في سورياليتي هؤلاء الكهنة، سجناء المدرسة الكلامية.
ويواصل ldquo;سلفادورrdquo;قائلا.
مالم يغفره لي بريتون في المقام الاول، هو سحقي له بدخولي ldquo;المحاكمةrdquo; بتلك الطريقة، واثارتي ضحك المجموعة كلها في قضية نزع ولبس ثيابي عدة مرات امام ldquo;حضرتهrdquo; واخيرا كان نسفي كل خطاباته الجدية بنكات عظيمة اثارت في اعضاء الحركة نوعا من الانبهار، فكل حركاتي ومواقفي على الضد من بريق رجل منتظم، مدقق، يحسب حتى لحظات فرحه، فرغم ادعائه الحرية والهذيان rdquo;بريتونrdquo; قبل اي شئ كان بورجوازيا ورجلا معتدلا.
في هذا الفصل من الكتاب يتهم ldquo;سلفادور داليrdquo; السوريالية بالدوغمائية السياسية والاعتدال والاخلاقية، وحتى التدين، ويعتبر ان اقصى ما قدمه السورياليون اليه هو قصيدة ldquo;لويس اراغونrdquo; المسماة ldquo;فرج ايرينrdquo; ويعتبرها انجازا شهوانيا دقيقا يمثل الروح الحرة للسوريالية. ويواصل ldquo;داليrdquo; قائلا من كل السورياليين المحتمل وجودهم في باريس انا كنت اكثرهم ldquo;سورياليةrdquo; رغم ذالك بيني وبين المجموعة كانت هوة واختلاف عميقين ldquo;بريتونrdquo;و ldquo;بيكاسوrdquo; مثلا لم يكن عندهم اي شعور بالاعجاب في الاشياء التقليدية الحقيقية ولا اي احساس بها، هما بحثا في عنصر المفاجئة والصدمة قبل النشوة والالهام. والسياسة في الاساس ldquo;الالتزامrdquo; هي التي فرقتنا وقسمتنا، انا ldquo;الماركسيةrdquo; بالنسبة الي كانت تهمني كما ضرطة ولو ان الضرطة كانت تريحني وتلهمني، السياسة اعتقدتها دائما كما سرطان يعض الشعر، رأيت العديد من اصدقائي ldquo;السورياليينrdquo; يذوبون في الحركات السياسية وفقدوا الارواح التي كانوا يعتقدون الفوز بها.
برشلونة -اسبانيا