في حوار أجرته معه كبرى الصحف الألمانية، الكاتب الألماني الكبير، وحامل جائزة نوبل للآداب غونتر غراس يتحدث عن الرقابة وحرية الآداب والفنون

ترجمة أسامة الشحماني: ولد غونتر غراس في مدينة دانتسيغ العام 1927، وهي مدينة ألمانية ضمت إلى بولندا بعد الحرب العالمية الثانية. شارك في الحرب العالمية الثانية لفترة زمنية قصيرة العام 1944 وعمل مساعدا في سلاح الطيران الألماني. العام 1946، بعد إنتهاء الحرب وقع غراس في أسر القوات الأمريكية وقد أطلق سراحه في العام نفسه. درس غونتر غراس النحت والفنون في مجمع الفنون في دوزلدورف، ثمَّ أكمل دراسته العليا في جامعة برلين. يعد غراس أحد أهم الكتاب الألمان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد حصل على جائزة نوبل للآداب عن ثلاثيته الشهيرة Die Danziger Trilogie وقد نالت روايته الطبل والصفيح، و هي الجزء الأول من هذه الثلاثية، شهرة عالمية فترجمت الى لغات عديدة منها العربية.


ـ السيد غراس، متى علمت بوجود ملف خاص بك لدى وكالة إستخبارات ألمانيا الشرقية (الستازي)؟
لقد أبلغت بهذا الأمر من قبل المفوض الإتحادي المسؤول عن وثائق جهاز أمن الدولة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشرقية السابقة. ولكن هذا لم يحدث طبعاً بعد السنوات الأولى التي أعقبت سقوط جدار برلين، لأن أمور كهذه لم تكن مما يمكن معرفته أو الوصول إليه بسهولة في تلك الفترة، فضلا عن كوني و برغم ما توفر لدي من أدلة و براهين لم أرد معرفة شيء عن ذلك. و على العكس من كل كتاب ألمانيا الشرقية لم آخذ أي تعويضات عمّا لحق بي من أضرار. ولم أرغب حتى بمعرفة مَن قام بمهمة التجسس علي.

ـ ولِمَ لا؟
لأني لا أريد فقدان المزيد من الأصدقاء.

ـ قبل سفرك الى ألمانيا الشرقية، هل خفت، أو راودك القلق مما قد يسفرُ عنه ملف التجسس على تحركاتك؟
في الحقيقة لا. إننا، وأعني المجموعة كثيرة السفر من وإلى برلين الغربية، لم نكن نعلم شيئاً عن مديات التجسس الواقع علينا. بالنسبة لنا كنا نتوقع أن عيون المخبرين يمكن أن ترافق زياراتنا لزملائنا من الكتاب المقيمين في الجانب الشرقي من برلين، ولكنا لا نعرف شيئاً عن مديات تلك المتابعات. إن أكبر ما كان ينتابنا من شكوك هو أن تكون الشقق السكنية التي تأوي لقاءاتنا مراقبة بأجهزة تنصت، وعلى الرغم من أن ذلك لم يتأكد لدينا كنا في بعض الأحيان نقيم حواراتنا كما لو أن هذه الأجهزة موجودة فعلاً وتسجل كل ما نتفوه به من عبارات، لذلك كنا نتجنب ما يثير التأويل و نتخلى عمَّا يمكن أن يكتنف حواراتنا الأدبية من غموض.

ـ وهل كان تبادل الحوار بينكم حراً كونكم كتاب تنتمون الى جزأي ألمانيا الشرقي والغربي؟
حواراتنا كانت على تناقض مطلق ومعارضة تامة للطروحات الخطيرة والباهضة التي تبنتها أديولوجيات بيروقراطية تدعي تأسيس دولة الرفاه. والسبب الذي كان يدعونا لهذه المناقشات هو الحاجة الضرورية الى إدامة التواصل فيما بيننا. والحوار وفقاً للمتداول من أنماط، هو أفضل ما كان لدينا من طرائق للتعبير عن الحرص على عدم فقدان التواصل. كنا نتحاور ونلقي على مسامع بعضنا نصوص من ورش عملنا السياسي، وعبر هذه النقاشات يكون من المؤكد أن نتقدم بأساليب إخفاء أو تورية عملنا السياسي ودفعه الى الأمام. أما ما يحكى عن دوري أو مهمتي التي تجري بالخفاء، وهي تصيد الكتاب في ألمانيا الشرقية وتشجيعهم على الرحيل الى الجانب الغربي من برلين هو ضرب من الخيال ليست له أية علاقة بالواقع.

ـ لقد ضمَّ الملف الخاص بالتجسس عليك كثير من الأسماء المكتوبة بأخطاء إملائية، و عنوانات عمل غير صحيحة، وربما لا وجود لها أصلاً، فضلاً عن تداخل غير مفهوم بين الجمل والسياقات، يبدو أن الجواسيس لم يكونوا على إطلاع أو معرفة ولو بسيطة بأجواء الأدب والأدباء.
لم يكن الجواسيس على إطلاع بأي شيء مما له صلة بكتاب ألمانيا الغربية، ولا حتى بأحوال الناس بشكل عام في ألمانيا الشرقية، لم يكونوا في وضع سليم يمكنهم من تقييم ماهية المصلحة المشتركة الكامنة وراء تجمعاتنا وما تفضي إليه.

ـ هل ثمة مبالغة أو غلو في تقدير قوة وكالة إستخبارات ألمانيا الشرقية (الستازي)؟
نعم. من المؤكد لأنها كانت تشكل تهديدا مباشراً للسكان، على إنها لم تتمكن من إدراك أهم ما أرادت إدراكه، وهو بالتحديد المحافظة على الدولة.

ـ هل شعرت بأنك مهددٌ حين سافرت الى ألمانيا الشرقية؟
لا. حدث ذلك مرة واحدة فقط، وكانت عند الدخول عبر بوابة التفتيش، فقد فتشوا حقائبي وأمتعتي و وجدوا فيها أعدادا من مجلة L 80 التي كنَّا نصدرها، أنا وهاينرش بول و كارولا شترن، ونتبنى فيها خطاب الحزب الإشتراكي الديمقراطي، الذي كان بالنسبة لألمانيا الشرقية أشد خطورة من كل طروحات فرانز جوزيف شتراوس، وما يقدمه اليمين من خطاب سياسي. لم يتم إقتيادي الى السجن مباشرة، ولكنهم إستدعوا على وجه السرعة شخص مسؤول من حرس الحدود لمتابعة الموضوع معي، وقد وضعت في غرفة خالية من النوافذ، وما أن أقفلوا عليَّ الباب من الخارج حتى بدأت بإصدار ضوضاء وضجيج عنيف، أخذت أركل الباب الحديدية بقوة، و فجأة تذكرت جملة كثرما سمعتها إبان خدمتي العسكرية القصيرة في الجيش الألماني وهي: أريد أن أتكلم مع الضابط المسؤول عن المناوبة في الواجبات! وحين حضر لي الضابط فعلا سألته: ما الذي يجعلك ضد مجموعة من إصدارات أدبية؟ يمكنك أن تحتفظ بهذه المجلات أن كان أمرها يعنيك، خذها معك إن كنت من المهتمين بالحزب الإشتراكي الديمقراطي، لأن لدي الكثير منها في المنزل!

ـ هل تبادرت الى ذهنك قبل أن تقدم على سفرك الى ألمانيا الشرقية إحتمالية أن يكون من بين شركائك في الحوار أعضاء في جهاز الإستخبارات (الستازي)؟
كلا. لم يخطر لي ذلك على بال، حتى بخصوص هانز ماركوارت، الذي رتب للقائي بدار نشر Reclam، لم أكن موافقاً على فكرة كونه أحدهم. لأن ما عرف عنه من إقدام كنت أراه نابعاً من كونه ناشراً يقوم بأشياء لم يتجرأ عليها غيره. ما كنت فكرة أنه أحد مخبرين جهاز الإستخبارات (الستازي) لتراودني على الإطلاق. بالنسبة لي كانت مفاجأة تامة أن يكون هيرمان كانط هو كاتب التقارير الأولى التي تسلمها (الستازي) عني في وقت مبكر، أي في العام 1961.

ـ هل تضمر شيئاً من مشاعر الإنتقام ضد أولئك الذين تجسسوا عليك؟
كلا، أبدأً. إنما أشعر بخيبة الظن لما فعله ماركوارت، لأنه كان يدعونا الى بيته وكانت غالبية حواراتنا، التي تبجح جهاز (الستازي) بالحصول عليها والإحتفاظ بها، كانت قد جرت عنده.

ـ بعض الكتاب الألمان مثل فرانك وولف و لوتز راتنوف، حدثت لهم مشكلات صعبة من جراء لقاءاتهم بك، أما كان من الأفضل لهم لو لم يقدموا على تلك اللقاءات؟
لقد كان القرار قرارهم، إننا لم نقسرهم على الدعوة التي وجهوها لنا، وقد كانت هذه الدعوة في مرحلة متأخرة، إبان تشكل جماعات الإحتجاج، التي لم تأخذ بعين الإعتبار ما للسلطة من أدوات قمعية، فأمام تلك الجماعات التي كان معظمها من الشباب ثارة ثائرة (الستازي) بشكل هستيري، فشنوا عليهم حملة إعتقالات واسعة تكاد تكون طالت الجميع. و هذه النتائج كانت متوقعة ومعروفة بالنسبة لنا سلفاً.

ـ هل وضعت مبدأ الحذر و التروي كجزءٍ من حساباتك في مشاهد مبارياتك السياسية مع ألمانيا الشرقية؟
إلا في حالة كوني أتعامل مع شخص متورط فعلا. أما فيما عدا ذلك فلم أكن ممن كمموا أفواههم، بل على العكس من ذلك، كنت أصرُ أحياناً على إقحام الموضوعات الحرجة في حلبة النقاش.

ـ يحتوي ملف التجسس عليك على معلومات دقيقة عن الرحلات الخاصة بك الى ألمانيا الشرقية، والتي قمت بها في أوقات متأخرة من العامين 1987/1988، ما هو المزاج الذي كان سائداً هناك في تلك الفترة؟
وجدت دولة متخبطة مرتبكة، تستجيب في بعض الأحيان لما يخلفه تخبطها من تعثر بشكل لين غير واثق، وبإسلوب إنفعالي غير مدروس. وفي أحيان أخرى تكون إستجابتها مفرطة بالحماس. إن الجهد الذي صرفته ألمانيا الشرقية لمراقبة نصف ما أقوم به من زيارات خاصة، لهو حقاً مثار للسخرية. على سبيل المثال كانوا حرصوا أيما حرص على أن تكون طريق مجيئي بعيدة عن أحد الأحياء الفاسدة في المدينة، لا أدري لماذا؟ و لا أعرف وجها لأهمية ذلك.

ـ مارأيك بالطريقة التي أُتبعت للتعامل مع الملفات السرية لوكالة الإستخبارات (الستازي) بعد العام 1990؟
لم يحقق جهاز أمن الدولة تقدماً أو نجاحاً يذكر إلا بعد إختفاء ألمانيا الشرقية كصورة وحشية بناها جهاز (الستازي) لعقود طويلة، صورة أسست عدم الثقة بين الناس وغذت الشكوك بأن كل مواطن من ألمانيا الشرقية يمكن أن يكون أحد مخبري جهاز (الستازي). ولقد أسهم هذا التعميم في الإتهام، بالإضافة الى مجموعة أخرى من الإجتهادات في إلصاق التهم الجاهزة، التي يمكن للمرء أن يوصم بها، في إتساع هوة الشك وتعميق الروح اللايقينية بين مجموع سكان ألمانيا. وأنا أعتقد أنه لمن الإهمال والتعجرف غيرالبريء من التعصب الأعمى أن نقبل وجهة النظر التي تبناها سكان ألمانيا الغربية في الحديث عن الضغوطات التي تعرض لها سكان ألمانيا الشرقية. لقد عانى أبناء جيلي من الإنتقال من دكتاتورية الى أخرى. وخلاصة القول هي إن العبء الرئيسي للحرب التي خسرتها ألمانيا كبلد كامل، وقع كاهلهُ فقط على 18 مليون نسمة، هم سكان ألمانيا الشرقية. كان يجب على الآخر أن يحمل ما وقع على هؤلاء السكان محمل الجد، لكنه بدلاً عن ذلك جاء ليمثل دور من يعرف على نحو أفضل، وقد إتخذ من أرشيف الورق الذي خلَّفه جواسيس (الستازي) ذريعة للإيمان بمعرفته المطلقة، كما لو أن أوراق (الستازي) هي الحقيقة الوحيدة الموجودة على الأرض.

ـ ما هو البديل الذي كان يمكن لهم أن يضعوه؟ هل توجب عليهم دفن تلك الملفات تحت خرسانة ضخمة، كما فعلوا مع محطة الطاقة النووية في تشيرنوبيل؟
بالطبع كلا. أنا كنت ومازلت مع فكرة الحفاظ على تلك الملفات، وإصلاح ما تمزق منها، وتوفير السبل اللازمة لحمايتها كوثائق من أن يساء إستعمالها. ولكن علينا أن لا ننسى أن هناك حقبة زمنية مرت على الناس كان فيها مجرد الإتهام بالإنتماء الى أجهزة (الستازي) يشكل مبرراً كافياً للإنتحار، وقد أقدم الكثير من الناس على الإنتحار نتيجة لوقوعهم تحت هذا الإتهام. وقد تبين في وقت لاحق أن المبالغة والتضخيم في قضية (الستازي) لم تكن منهجاً صحيحاً للتوصل الى المزيد من الحقائق.

ـ ما الذي ينبغي علينا أن نتعلمه من نشر الملف الخاص بك؟
إنه لمن المثير حقاً رؤية صورة ذلك الزمان الذي كانوا يتجسسون عليَّ فيه في ألمانيا الشرقية ويعدوني عدواً رئيسياً لها، و في القوت ذاته كنت أدعى في ألمانيا الغربية بشكل دوري منظم، ليقال لي أنه من الأفضل لي أن أعبر الى الجانب الشرقي. لم تكن الصحافة هي الوحيدة التي عاملتني على أساس أني الشيوعي المقنع، وإنما جهات أخرى كثيرة. إن جلَّ ما أتوق إليه الآن هو أن أحصل على مجمل التقارير والملفات التي جمعتها أجهزة الإستخبارات عني، والتي تجاوزت صفحاتها الألفين صفحة.

ـ هل تعتقد أن الملف الخاص بك هو بالحجم الذي ذكرت؟
إن الأمر لا يتعلق بعدد الصفحات، بقدر تعلقه بإمكانية ملأ ما في التاريخ من فراغات للتعرف بشكل كامل على وجهة النظر الألمانية آن ذاك، ولتسليط الضوء على حقبة زمنية مضت عبر ما لها من وثائق. ولكني لا أعتقد أن هذا سيتحقق لأن هذه الوثائق قد حُجبت.


* نشر نص الحوار في الصفحة الثقافية من جريدة Die Zeit الألمانية في عددها الصادر بتاريخ 4.3.2010.
[email protected]