عمار سلمان داود: في ما يلي نصي المنشور في كراس مطبوع بمناسبة معرضي الحالي في غالري كريم في العاصمة الأردنية عمان، وهو يتناول تجربتي الراهنة التي تمخضت عن مجموعة أعمال بعنوان موحد هو (مزاج عربي)، وقد تم عرض عشرين عملا منها بتقنية الزيت على القماش والمواد المختلفة على الورق. وتقوم هذه التجربة على أرضية تبني المدركات الشكلية ذات المناخات العربية او الشرقية وتتعمد تجنب الفضاء اللاتشخيصي في صناعة الصور لرغبة في تجديد الذات وتجريب نمط آخر مخالف لتجربتي في التجريد المحض.

في أروقة الفن الإسلامي والعربي لمتحف اللوفر في باريس، كنت مستعدا تماما لان أصغي لحدس داخلي مفعم برؤى تفيض صورا، لمزاج منشغل بالطبيعة الما ورائية لكائنات ترسمها حروف عربية وبروح تجريدية.
أتذكر أن بصري علق مرارا بشكل نصل السيف في العديد من أشكال تلك الحروف، لا ادري لماذا!
بالتأكيد ليس لان السيف أداة قتال، بل ربما لأنه رمز للقطع وللقطيعة! ولكن قطيعة مع من؟ او مع ماذا؟ ربما مع بلدي الذي انقطعت صلتي الجسدية به منذ 30 عاما!
حسنا لن أشغلكم بتداعيات غربة ستتجاوز قريبا الرقم30 من السنين!!
ولن أتطرق الى استحالة العودة الى بلدي الذي التهمته الحروب وأثثه الخراب لأني إن عدت، فسأبدو فيه غريبا بالتأكيد!

ولكن مهلا! لماذا لهذه الحروف شكل السيف؟ أليست هي أقرب الى شكل الهلال؟
وما دمت أتعرض هنا لطبيعة بعض من المدركات الشكلية، فسأكتب إذن عن النشاط الوحيد الذي يسبغ على كينونتي معناها:
الا وهو صناعة الصور!
انا الذي ينوء تحت ثقل تلك الكينونة بصفتها كيسا لعذاباته الوجودية
لربما حكمة هايدغر ستجلب لنا أكثر تلك العذابات ثقلا: (ما إن يولد الإنسان حتى تبدأ رحلته نحو النضوج للموت)
وكأن قدر العراقي اليوم هو ان يكون نضجه أسرع؟
فكرت وأنا ارسم لوحات هذا المعرض بمحبتي الكبيرة للتواشج بين ما لا يقبل التواشج

والجمال الخارق للزخارف النباتية وبالأخص تلك القادمة لتوها من جنان تتفجر فيها الأخيلة كالألعاب النارية في سواد ليل أحراشها. جنان تقطن فيها السعالي والغيلان والطيور والحيوانات المركبة وأبناء ادم المسحورون، جنان قصص الليالي المقمرة لبغداد على سطوح منازلها.
حسنا أي معرض هذا؟
أراه أشبه بمنتوج هذيانات امرئ عاوده رجع تلك المدركات الشكلية في وديان مخيلته التي تقاسمتها المؤثرات الأوروبية الشرقية والغربية بالإضافة الى جذرها العربي. وما يتسم به من سطوة العقلية التجريدية.
انه مشروع عودة الى روح تلك المدركات. فأنا ما زلت اشعر باني وريث ثقافة عربية أعجب لجذوتها التي ما زالت متقدة في دواخلي.
هل سأقول إن هذا المعرض هو محاولة لتجريب المادة الخيالية والعاطفية التي يقدمها لي جذري العربي؟
إلا أنني وفي وقت لاحق في أروقة قاعات الفن الإسلامي للمتحف البريطاني في لندن تذكرت انه كان على الفنان المسلم أن لا يضاهي الله في خليقته، ولهذا اختار أن لا يقدم لنا العالم إلا محورا أو على انه زخرف وبلا عمق أو حجم طبيعي.
استوقفني هناك الإنسان الطائر طويلا، وهو تمثال معدني يزين إحدى تلك القاعات: ممثل حلم الطيران! هكذا وصفته! وتخيلته وهو يحط على الحديقة الشرقية قرب نافورتها التي تطلق الماء في شكل زخرفي قائم على مبدأ التقابل.
لقد جمعت المئات من الصور التي وثقت فيها كل ما أثار اهتمامي في اللوفر والمتحف البريطاني، وهيأت لنفسي بنكا للصور راجعته ودرست محتوياته لساعات عديدة.

وتذكرت البسملة المكتوبة مرارا على شكل عصفور الجنة و الدادائية التي ستقوم بكتابة الشعر على شكل صورة! و لاحت لي القصائد / الصور لغيوم ابلونيير والخط المشكل: وهي الكتابة على شكل رسوم
والكائن الحروفي - بصفته احد منتوجات ذلك الخط - كان واحدا من قادة مخيلتي وهو الدليل الأنصع على أن العربي لا يرسم الأشياء بل يكتبها، يرسمها بالكتابة، جاهدا ربما في عدم ارتكاب معصية التجسيد ومعزيا نفسه بشفاعة الكلمات وأشكال الحروف كأدوات رسم، وليس الخطوط والظلال بقدراتها على صياغة الوهم بالبعد الثالث: العمق.
وهكذا، تذكرت كلمة ( ملح ) وأنا أسير في أروقة القسم العربي في متحف اللوفر، ملح...الكلمة السحرية التي كانت تصنع كائننا المشكّل حروفيا ونحن أطفال: رأس إنسان مرسومة بكلمة ملح! هل كان هذا الخيار مجرد تسلية بريئة؟ أم امتداد لذات النسغ الحي في داخلنا الإنساني بما يحتويه من محبة للحياة والحفاظ عليها مقابل الرهبة من الموت والزوال؟ ملح: المادة الحافظة للكيان العضوي من التفسخ الحامية له من التعفن ترسم وجه إنسان!
حسنا ربما تماديت قليلا في تأملاتي وقد يكون من الأنسب أن أقوم بجرد لمكونات المناخ البصري الذي عشت فيه وأنا ارسم صور هذا المعرض: الفن الإسلامي والعربي بحروفه ومنمنماته وأوفاقه وأشكال طلاسمه وسحره وزخارفه وحدائقه وسجاده وأثاثه ومعماره ورسومه الزجاجية وفخاره ونافوراته، طيوره السحرية، وأشجاره وزهوره، النخلة والأسد والأفعى والجن والسمكة والعصفور والهلال والطاووس والزهور والعقرب، بالإضافة إلى العالم اللوني والتقني لبونارد وماتيس وبيكاسو وباول كلي، رسوم نزلاء المصحات العقلية أو ما يسمى بصيغة عامة فنون المختلفين، وأخيرا الوصفات السوريالية الحاضرة دائما في مخيلتي.

لقد تعمدت أن أكون تلقائيا في صناعة أعمالي هذه وحاولت مرارا أن اكبح جماح رقابة عقلي وسلطته عليها، أردت أن أتغلب على سطوتي كصانع لها وتوسلت بتشتيت أوصال نفسي للتغلب على نفسي ولربما توسلت أيضا طاقة أخرى مدتني بمحتواها، طاقة النقطة العليا التي حدثني عنها السورياليون في كتاباتهم؟
لقد عاملت الدراسات التحضيرية للكثير من هذه الأعمال بصيغة تقربها إلى ما يشبه صيغة إنتاج الحلم، فقربتها كثيرا إلى تقنية الإلصاق وحاولت في اغلب الأحيان المقاربة ما بين هيئات وأشكال مختلفة من حيث مصادرها خارج حدود رقابتي الذهنية.
هل أقول أنني صنعت صوري على طريقة الكتابة الآلية؟
في هذه الأعمال تكتسب صيغة المراجعة والتنصيص أو إعادة الصياغة لما تم صنعه من قبل الكثير من الأهمية أكثر حتى من صيغ البحث عن الجديد والاستثنائي. فأنا لست ممن يثيرهم الجديد إلا بالقدر الذي يجعله مهيئا لصياغات جديدة أو فاتحا لعوالم مخيلة كانت مسكونة من قبل، ولكن تكشف لنا عن زوايا لم يتم الكشف عنها بعد، في تلك العوالم
.
ففي ما يسمى بما بعد الحداثة يتخلى الرسام عن طابعه كمبدع لعالم جديد - كما كان يفعل الحداثوي الأول - لحساب كونه مراجعا او منصصا، أي انه اليوم يضع التنصيص مقابل التجديد.
حسنا, سأجرؤ إذن على القول إن الحداثة الجديدة هي الانشغال بمراجعة ما قدمته الحداثة الأولى أكثر من كونها انشغالا بالخلق الأصلي: (جان دوبوفييه) مثلا مقابل (تال ار) و(بينك) مقابل (بول كلي) و(اميل نولدة ) مقابل (باسليتز) ومائيات النحات (رودان) إزاء مائيات (جوزيف بويز).. وهكذا فإن فنانا ما بعد الحداثة ليس (خالقا) بقدر كونه (مراجعا)، وفي هذه المراجعة تكمن الكثير من القيم المهمة التي لم توفر للحداثوي الأول فرصة الكشف عنها وهو تحت سطوة الدهشة لانكشاف العوالم الجديدة أكثر من سطوة التأني في معرفة آفاق هذه العوالم وامتداداتها.
في هذه الأعمال حاولت أن أغذي نبع الجذوة التي ما زالت متقدة في نفسي ألا وهي جذوة ثقافتي العربية التي طالما أوقفتني محبتي لها في عمق الحيرة: فما سر أن تترك في داخلي كل هذا الأثر؟ ووقفت مرارا إزاء شواهدها المختلفة: الأمكنة، الصور، صيغ العيش، المعمار، الكتابة، الزخرفة،الموسيقى، الفلسفة، التصوف، السحر وحمى سؤال الغريب في منفاه عالقة في فمي:
هل حقا كنت هناك؟
وماذا افعل أنا هنا؟

صانع صور من السويد

[email protected]


http://www.amardawod.info.se