عبدالجبار العتابي من بغداد: حين تذكر الاغنية العراقية.. تقفز بشكل عفوي الاغنية السبعينية، لتملأ الفضاءات بألحانها الشجية وكلماتها الغنية بأحاسيسها، وهي تمثل علامة مضيئة في السفر الغنائي العراقي لا يمكن الا الانصات للعبقرية التي فيها، خاصة ان رموزها هم الاكثر شهرة بين مطربي العراق، لهذا ارتأت دائرة الفنون الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة بالتعاون مع اللجنة الثقافية لنادي العلوية ان تعيد الى الذاكرة نتاجات ما قبل ثلاثة عقود، من خلال اقامة المهرجان الغنائي الجميل تحت شعار (اغنية السبعين.. روح العراقيين)، في القاعة الكبيرة لنادي العلوية الاجتماعي التي امتلأت الى اخرها بالجمهور من اجيال مختلفة، ولكن اللافت للنظر ان رموز الاغنية السبعينية غابوا عن المهرجان على الرغم من وجود بعضهم في بغداد، وعلى الرغم من تأكيد الجهة المنطمة على حضور بعضهم من مثل حسين نعمة وفاضل عواد، ولم يستطع احد ان بفسر اسباب هذا الغياب، ولكن كانت هنالك تلميحات ان الغياب متأتي من كونهم سيكون لمجرد الحضور فقط وليس الغناء.

كانت هنالك فرقة موسيقية كبيرة يقودها العازف علي خصاف، وكانت هنالك خشبة مسرح عالية ارتفعت خلف الفرقة اقيمت عليها فصول من مسرحية حملت عنوان (حين تغرد الروح) تأليف قاسم البديري وسينوغرافيا واخراج الدكتور رياض شهيد، كانت عبارة عن حكايات تتحدث عن شخصيات من شعراء الاغنية العراقية من ازمنة مختلفة من خلال مقهى شعبي.

افتتح المهرجان المطرب كريم منصور بأغنية (هذا انه وهذاك انت) كلمات زامل سعيد فتاح والحان طالب القره غولي الذي كان غناها بنفسه، فأداها كريم بشكل رائع لم يتمالك الجمهور نفسه للغناء معه بطرب واضح:
(هذا آنه.. وهذاك انت تظل بظنوني ذاك انت
هذا آنه ويمر طيفك وشوف أماني لو شفتك
عرفتك جوري لو فوّح
عرفت طير من يصدح
ومن حبك غناي آنه تعلمته.. وهذاك انته )

وكان هذا الافتتاح بمثابة استعادة للحنين والتوهج لاسيما ان صوت كريم منصور المعبر نشر طلاوته على المكان، تبعه المطرب نجاح عبد الغفور في اغنية (خسرتك يا حبيبي) وهي من اغنيات شقيقه المطرب صلاح عبد الغفور وهي من كلمات كريم العراقي والحان جعفر الخفاف، بعدها ادى المطرب مكصد الحلي اغنية الراحل سعدي الحلي (عشك اخضر) كلمات كاظم الرويعي والحان الراحل محمد نوشي، وجاء دور المطرب احمد نعمة ليشدو بأغنيته (يصبرني.. المايدري بقصتي ويكلي تهون / عشرة.. وشيبت بأولها وتاليها شلون) وهي من كلمات كاظم اسماعيل الكاطع والحان سرور ماجد، فيما شدت المطربة الشابة نهلة عبد الوهاب بأغنية المطربة انوار عبد الوهاب: (عد وانه عد وانشوف / ياهو اكثر هموم / من عمري سبع سنين وكليبي مهموم) التي هي من كلمات كاظم الركابي والحان محمد جواد اموري، وأدى المطرب جاسم العطار اغنية قحطان العطار: (يكولون غني بفرح/ وانه الهموم غناي / بهيمه ازرعوني ومشوا / وعزوا عليّ الماي) وهي من كلمات جبار الغزي والحان محسن فرحلن، اما المطرب كريم حسين فقد غنى اغنية حسين نعمة: (جاوبني.. تدري الوكت بوكاته غفلاوي / ليش المعاتب كلف / والشوك سكتاوي ) وهي من كلمات كامل العامري والحان محمد جواد اموري، فيما غنى الفنان قاسم اسماعيل اغنية فاضل عواد (حاسبينك/ مثل رمش عيونه) وهي من كلمات زامل سعيد فتاح والحان طالب القره غولي، وغنى المطرب وحيد علي اغنية سعدون جابر(عيني عيني / لا تعاشر البذات والماله تالي / مثل اليلم الماي يرد جفه خالي / ياعيني) والمطربة الشابة سما في اغنية المطربة الكبيرة مائدة نزهت (إسألت عنك / يا العفتني وما دريت) كلمات عبد الكريم مكي والحان فاروق هلال، وختم المهرجان بمسك صوته المطرب محمد عبد الجبار بأغنية المطرب حميد منصور (سلامات.. سلامات.. ابعث سلامات) وهي من كلمات كاظم الرويعي والحان عبد الحسين السماوي.

ومع ساعات المهرجان كانت لنا دقائق في استطلاع الاراء حول المهرجان، فقال الفنان علي الخصاف قائد الفرقة: (هذا مهرجان رائع.. نستذكر فيه الاغاني العراقية الجميلة، وهي ذكريات متأصلة بنا من مطربي جيل الستينيات والسبعينيات وهو واقع الاغنية العراقية الحقيقية، وهذا ما يواجه الاغنية الرخيصة التي تظهر في الفضائيات في وقتنا الحاضر، كما انه مهرجان سعى الى تسليط الضوء على الاساءة الكبيرة التي يفعلها هؤلاء المغنون الجدد، واننا من خلال هذا المهرجان نريد ان نظهر للناس حقيقة الفن العراقي الاصيل.

فيما قال الفنان نجاح عبد الغفور: هذه احتفالية ناجحة بكل المقاييس لانها تحتضن الفن الاصيل، اغنية السبعينيات، هذه الاغنية العراقية لها جذور عميقة، ولها اصالة تعبر عن تراث العراق وهذا المهرجان هو رسالة الى الجيل الغنائي الجديد لتنبيههم بان الاغنية العراقية هذه صورتها وهي هوية بلد).

وقال الفنان كريم منصور (هو استذكار للاغنية السبعينية التي لاتزال عائشة في قلوب واذهان المستمعين وحتى الاجيال الجديدة نظرا لما تتمتع به هذه الاغنية من سمات طيبة واصيلة الذي ظهر فيها الملحن والصوت والشاعر وتألفت معا لتجد لدينا اغنية اصيلة تحاكي الواقع العراقي الكبير.
واضاف: هذه الاغنية أأتلفت فيها المقومات التي ادت الى نجاح الاغنية انذاك التي انا اسميتها في وقتها (انقلاب) اذا صح التعبير على الغناء العراقي، وصار عندنا ملحن لديه نفس جديد وصوت ذو نفس جديد وشاعر عنده نفس جديد، وأتلفت هذه المقومات الثلاث ادت الى ظهور الاغنية السبعينية التي تمثل الغناء العراقي الصرف.

وقال الفنان احمد نعمة: انها تمثل لمرحلة من تاريخ الغناء العراقي بل وحتى الموسيقي، وهي مرحلة مهمة جدا لازالت عالقة في اذهان المستمع، ومؤثرة حتى في الاجيال التي ظهرت بعد هذا الجيل من كبار الملحنين او المطربين، هذه الاغنية امتزجت مع الاغنية البغدادية واظهرت الغناء الجديد، وامتزج بالمحيط العربي، لان الاغنية بدأت في مقدمة موسيقية، وكانت الاغنية البغدادية تختلف عنها بميزتها بهيكليتها، هذه الاغنية السبعينية متكاملة من جميع النواحي اداء وشعرا ولحنا واعتقد انها لا تحتاج الى مهرجان للتكريم لانها مكرمة اساسا في قلوب وضمائر العراقيين.

واكد الفنان قاسم اسماعيل على ان المهرجان اختص بالاغنية السبعينية بالذات لانها اغنية عملاقة وهي اغنية العصر الذهبي للاغنية العراقية والحقيقة نحن قدمنا مهرجانات كثيرة من خلال دائرة الفنون الموسيقية مثل مهرجان ملا عثمان الموصلي ومهرجان القبنجي ومهرجان زرياب لكن استذكارنا للاغنية السبعينية هو واجب فني علينا وها نحن نقدمها بكل عذوبتها واصالتها).

وقال المطرب كريم حسين: هذا التفاتة رائعة لاحياء هذه الرصينة التي وضعت بصمة في اذهان كل مستمع، اغنية رائعة، وهي التي كانت على ايادي عدد من الفنانين الاصلاء من شعر والحان وغناء،واضاف: ممكن ان تعود هذه الاغنية، ولكن اللوم على الملحن والشاعر، وان هما مازالا موجودين، ولك للاسف المرحلةالسبعينية رغم مرارتها وكان الشاعر يفتقر الى كثير من الامور والملحن والمطرب، ولكن كانت الكتابة والتلحين يمتازان بالصدق وبالمعاناة، الان ثلاثي الاغنية مثل باقي الفنون لا تلاقي الدعم من الحكومات من المسؤولين، وقد تغيرت الان الكثير من الامور لظروف البلد التي يمر، فيما كانت فترة السبعينيات فترة سلام وهدوء وفكر صافي للناس وللشعراء والمطربين والملحنين، اما الفترة الحالية العقول تشتت بقيت معاناة المعيشة والظروف التي يتعرض لها البلد في كل المجالات، وللاسف الشديد ظهرت موجة محزنة اثرت على الاغنية بموجة الاصوات الرديئة من الكلمة واللحن لظهور عدد كبير من الفضائيات التي تفتقر الى الى عدم وجود الرقابة.

اما الناقد الموسيقي عادل الهاشمي فقد تحدث عن حيثيات الاغنية العراقية قائلا: ان موضوعة الاغنية العراقية تقف اليوم لتقلق الاجيال المقبلة التي ترنو الى المستقبل بعين قلقة حائرة، ان الاغنبة العراقية سارت على طريقين اساسيين، اولا: الطريق الذي يؤدي بها ما يعرف بالزجل القائم على المعنى، والطريق الثاني وهو ما يعرف بالغناء القائم على التلحين الذي يحاكي فن التلاوة المنغمة، وعليه يمكن القول ان ولادة فن جديد في الذاكرة العراقية يعني ان هذه الولادة الجديدة تحتاج اول ما تحتاج الى حشد من التساؤلات: لماذا يولد فن جديد على اعقاب فن قديم ؟ وهل ان هذا الفن الجديد مقطوعة جذوره بالفن القديم ؟ سنقول بكل حسم ووضوح: ان ليس هنالك تجديد لفن من دون ماض نجدده، وعليه ليس هناك انقطاع عن الجذور بين الفن الذي مضى والفن المقبل، لذلك نقول ان الاغنية البغدادية التي نهضت على جيل من المبدعين الكبار في قاموس الاغنية العراقية وهم على التوالي: سمير بغدادي، يحيى حمدي، رضا علي، احمد الخليل، ناظم نعيم، عباس جميل، محمد عبد المحسن، محمود عبد الحميد وعلاء كامل وكثير من الفنانين، هؤلاء قامت على جهودهم الاغنية البغدادية، ولكن عندما قامت ثورة 14 تموز / يوليو 1958 كان لا بد ان تزحف مجموعة من البشر الى بغداد بعد ان انزاح عنها كابوس الظلم الذي كان يمثله النظام الملكي.

واضاف: هذه المجموعة البشرية التي جاءت الى بغداد كانت ايضا تحمل اشواقها واوجاعها في آن واحد، لذلك كان لا بد ان يقوم فن يعبرعن هذه الاشواق وهذه الاوجاع، فجاء بعد اعقاب هذه الثورة مجموعة من الفنانين سمي او سميتهم في كتابي بالعصبة الخمسة، وهم الذين جاءوا من جنوب العراق وهم على التوالي: طالب القره غولي، محمد جواد اموري، كمال السيد، كوكب حمزة ومحسن فرحان، هؤلاء الخمسة جاءوا الى بغداد ايضا محملين باشواقهم واوجاعهم وهمومهم وايضا قريحتهم الوقادة، لذلك كان لهؤلاء ان ينهضوا بالفن الجديد لان الاغنية البغدادية قد افلت، بسبب عوامل عديدة منها الطلاء الكاذب الذي كانت تتزين به الاغنية البغدادية واعني بها البناء الزجلي، لذلك ان البناء الزجلي للاغنية البغدادية اتخذ طابعا فيه شيء من المنافقة العواطفية، بينما في الاغنية السبعينية او اغنية البيئة فأن العواطف انطلقت صريحة، بناءة، واضحة من البراري الفسيحة الى افاق المدن التي استوطنها الفن الجديد.
وتابع الهاشمي: هؤلاء الخمسة الكبار الذين نهضت على جهودهم الاغنية السبعينية كانوا قد عالجوا هذه الاغنية علاجا ندريا لا كميا، بمعنى هم اطلقوا النبرات في اتجاه تصويب الغناء الصحيح ذلك الغناء الذي يحاكي القريحة العراقية بما درجت عليه من اوجاع ومن احزان، هذه الاغنية نهضت ايضا بمدلول جديد وهو التعبير عن العواطف الصريحة، لذلك يمكن القول ان الاغنية السبعينية التي ازدهرت في اصوات مجموعة من الاصوات التي جاءت مع ركب الملحنين من امثال حسين نعمة وياس خضر وفؤاد سالم وفاضل عواد والى جيل سعدون جابر ورياض احمد، هذه الاغنية الجميلة المتمكنة والمقتدرة قامت لتقول للاسماع العراقية ان هذا الفن المحضر المحول هي فن غير مقطوع الجذور، هو فن اعتمد على تصاريف الاغنية البغدادية، كما انه تأثر بقليل او كثير بطابع الاغنية العربية الذي ارساه مجموعة من العمالقة في الموسيقى العربية ونعني بهم: سيد درويش ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا احمد ورياض السنباطي وفريد الاطرش، هؤلاء الستة الكبار هم الذين مهدوا الى ان تتجدد رباح القرن العشرين بما يمكن ان نسميه بالاغنية المتقنة، اي ان الاغنية الجديدة تقوم على مقدمة موسيقية ثم مذهب ثم لازمة موسيقية ثم غصن ثم لازمة موسيقية ثم غصن ثم تنتهي بالقفلة، هذه الاغنية ايضا كان طابعها طابع الاغنية السبعينية، لكن الاغنية السبعينية تميزت بروح اللحنية العراقية بما فيها من صدق واصالة وتشوف للمستقبل.

وقال ايضا: لقد استطاع الملحنون في حقل الاغنية السبعينية ان يهدوا للاسماع الكثير من الاغاني تلك التي ما زالت الى يومنا هذا تتحدث عن نفسها، بمعنى انها ما زالت عائشة الى يومنا هذا، بل انني لا ابالغ ان اقول ان كثير من الاصوات الشابة الان التي تتخلق في عصرنا هي اصوات تمتحن قدراتها من خلال الاغنية السبعينية، لان السبعينية استطاعت ان توجد المفهوم الضائع الذي غاب عن الاغنية البغدادية وهو اعني الكلمة الصادقة اولا واللحن المعبر ثانيا والصوت المؤدي ثالثا لان في الاغنية البغدادية هناك انفصام بين المعنى الذي تروم اليه التعبير عته الاغنية وبين الصوت الذي يؤديها، فأذا كانت الاغنية هي حشد من المعاني فعلى المطرب ان يتخلق في ذروة هذه المعاني ابداعا وخلقا وتطمينا اساسيا في فن الاغنية كذلك يمكن القول ان هؤلاء الخمسة الكبار الذين جاءوا من الجنوب ايضا كانوا محملين بهموم بيئية، هموم الجوع والتشرد والمعاناة لذلك حصروا كل هذه الامور واستطاعوا ان ينسجوا الاغنية وفق تصورهم ووفق معاناتهم.