`خالد السلطاني: لنيويورك بريق خاص، بريق تبتدعه وقائعها الثقافية ذات الاحداث الحافلة بالتفرد والاستثنائية، المكتنزة دوماً بالابداع والحداثة. انها مدينة ذات أهمية تاريخية ترتقي لتكون اسطورية! سواء في نوعية تخطيطها ام في اسلوب مبانيها وطبيعة احداثها وطريقة تأسيسها. ورغم تعدد اسمائها، فقد ظلت محافظة على بادئة quot;نيوquot;ها، نزولا عند رغبة آباءها المؤسسيين، الذين وجدوا فيه تمثيلا وتذكاراً لمدنهم الاصلية السابقة. فهي quot;نيو انجوليمquot; New Angouleme، كما سماها quot;جيوفاني دا فيراسانوquot; المكتشف الاوربي لها سنة 1524، قبل ان يحول الهولنديون اسمها الى quot;نيو امستردامquot; عام 1614، ومن ثم لتكتسب اسمها الذي يعرفه العالم الان، بعد ان استولى عليها الانكليز عام 1664 ودعوها quot;نيويوركquot; تشريفا على اسم quot;دوق يورك والبانيquot; الانكليزي. ولايزال مذاق هذا quot;النيوquot; ونكهته حاضراً حضوراً راسخا في كل ما يتعلق بهذه المدينة العظيمة، وما تحققه من انجازات وابداعات.
كتب عن نيويورك كثر؛ ورسمها كثر. ورأى كثر فيها مكانا لتحقيق الافكار الابداعية التى ربما راودت مخيلتهم يوما ما، فنيويورك هي مدينة الاحلام القابلة للتطبيق والتحقيق. بالنسبة الى المعماريين كانت دوماً quot;متروبولسquot; الافكار التجديدية وحاضنتها ومكان انتشارها. فقد صمم في مواقعها المع المعماريين العالميين. وبفضلها، بفضل quot;نيويوركquot; ذاتها، ذاع صيتهم وانتشرت مقارباتهم في انحاء عديدة من العالم. بالنسبة اليّ شخصيا، كانت تمثل، في معنى من المعاني، فضاءاً افتراضياً، اجوب به مع طلبتي المصغيين لي يوما ما، في تقصٍ مثابر عن نماذج عمارتها الحداثية المليئة بها شوارعها وجاداتها ذات الاسماء quot;الرقميةquot; المتسلسلة!.
في كتابه المعنون quot;نيويورك: خط وراء خط: من بردواي الى باتيريquot; الصادر حديثاً (2009 في طبعته الثانية)، يحتفي الرسام الالماني quot;فارنر كروزه روبنسونquot;. K. Robinson بمدينة نيويورك ومشهدها المعماري، بطريقتة الفنية الخاصة، عبر اعداد رسوم تخطيطية لمبانيها وشوارعها وناسها وبيئتها تعود الى فترة الستينات. وهذا النوع من الرسوم، يمثل في الحقيقة، جنساً ابداعياً قائم بذاته، وينطوي على تخطيطات معبرة، هي التى عادة ً تكون مرسومة من الواقع مباشرة. و تتسم خطوطها السريعة والمتقنة على حيوية نابضة، تعكس مزاج لحظة اقتناص المشهد المرئي، وتنقل نكهته الى المتلقي مباشرة وببساطة متناهية. ومن المعروف ان هذا النوع من التشكيل يتطلب مهارة كبيرة في التخطيط، كما يقتضي معرفة عميقة بخصوصية البيئة المبنية المرئية. ويتعين على الرسام ان ينهي quot;رسمتهquot; بسرعة، ومن دون اللجوء الى اعادة تصويب المرسوم. ويستلزم هذا النوع من التخطيط مزيدا من التكثيف للعناصر المرسومة واختزال المشهد في خطوط مقننة جدا، وواضحة جداً. واخيرا يفترض بالرسام الناجح في مثل هذا الفن، تعاطفه واهتمامه الشخصي مع المشهد المرسوم وتفهمه لخصوصيته. من هنا، ربما، نجد تفسيراً لندرة هؤلاء الفنانين الذين يتعاطون مع هذا الجنس الابداعي، وشحيح المنتج منه. ومع الاسف، فان هذا النوع من الابداع غير رائج في المنجز التشكيلي العربي؛ واكاد اقول ان مكانه خلواً بالمشهد الفني في غالبية البلدان العربية. وكان يمكن ان يكون هذا النوع من الفن شائعا في مصر، على سبيل المثال، لازدهار فن الكاريكاتور فيها، وذلك للعلاقة الوطيدة بين الاخير وخصوصية الفن الذي نتحدث عنه. وقد انجز الفنان العراقي المعروف جواد سليم في نهاية الاربعينات سلسلة من quot;رسوم الشارعquot; اثناء وجوده في باريس. بيد ان تلك المحاولة لم تحظ بالديمومة سواء من قبل جواد ذاته ام من اتباعه. وطبعاً سوف لن نسترسل كثيراً، هنا، في الحديث عن هذا الموضوع، فليس هنا مكانه بالتأكيد.
يحدد الفنان روبنسون، (واسم روبنسون، هو لقب اضافه الفنان الالماني الى اسمه الاصلي quot;فارنر كروزهquot;Werner Kruse، تيمنا باسم quot;روبنسون كروزوquot; الشخصية الروائية للرحالة الشهير)، احداثيات جولته الفنية ويقتصرها في الفضاء المديني المحصور بين برودواي وباتيري في مانهاتن. ومانهاتن هي الجزيرة، كما يعرف الجميع، الاهم ضمن الاقسام الادارية Boroughs الخمسة التى تكوّن quot;نيويورك ستيquot; والاربعة الاخرى هي: برونكس وكوينز وبروكلين وستايتن ايلاند. ولئن رسم الفنان رسوماته في هذا الحيز المكاني من نيويورك، فانه يطمح بها الى اظهار quot;روحquot; المدينة المرسومة، ويكشف عن خصوصيتها المتميزة. اذ من الصعب بمكان، ان يكون بديل مانهاتن، قادرا على استحضار ملامح المدينة الواسعة وتبيان تفاصيلها بمثل هذا الصدق والشمولية.
في اشتغاله على رسوماته النيويركية، يعتمد روبنسون على مفردة تشكيلية واحدة هي:quot;الخطquot;، الخط الذي يجعل الفنان منه عنصر تكوين اللوحة وموضوعها المكتمل. بمعنى آخر، اننا ازاء عمل quot;يجمعquot; الفنان خطوطه خطاً وراء خط في تكرار مدهش ليرينا مشهد المدينة، المشهد الذي يتبدى مرسوما باختزالية عالية ومرئي بعين الفنان القدير. ثمة طغيان لخطوط عديدة وعديدة جدا، تشغل سطح اللوحة، وكلها مرسومة بشكل هندسي منتظم، يراد منه تحويل المشهد المدينيي العادي والمألوف الى لوحة فنية تنبض بجمالية غير عادية وغير مألوفة. وهذا الاحساس الفريد الذي تبثه اللوحة يتأتى من طريقة التجميع الفني لمفردة الخط، المفردة التى ما انفكت تثير قدراً من الالتباس حول كينونتها وما يمكن ان تعبر عنه. ذلك لان الخط او الخطوط لا وجود لها في الواقع. واذ عبر الفنان بها عن الافق، او حافات المباني، واطارات النوافذ، وحوافي الارصفة، والاشجار والناس السائرين في شوارعها، والساريات في سطوح المباني، وحتى الدخان المنبعث عن مداخن المعامل، فانه في نهاية المطاف يهدف الى تقديم quot;رؤيتهquot; للواقع المرئي، عبر ادوات تدرك قيمتها من خلال دلالاتها الرمزية وما تشي به من كنايات.
تثير لوحات روبنسون فينا نوعاً من الدهشة، الدهشة المشوبة بالمتعة، في رؤية المشهد المديني، وقد تحول على يديه الى فسيفساء من الخطوط باعداد هائلة، ترمز الى بيئة ذلك المشهد وشخوصه. كما يدهشنا دأب الفنان وصبره في تجميع آلاف الخطوط، ورسمها خطاً وراء خط، لتشكل لوحته الفنية المتميزة، الغنية بجملتها التشكيلية. ومثلما تثيرنا رسوم روبنسون، فان الاخير اثارته، كما يبدو، نيويورك بناطحاتها السحابية؛ التى اعتبرت منذ امد quot;ايقونةquot; المدينة ورمزها البنائي. ولهذا شكلت، بالطبع، مباني ناطحات السحاب quot;موتيفquot; غالبية الرسوم المنجزة. ورغم ان نيويورك لم تكنquot;معقلاًquot; لظهور ناطحات السحاب، اذ ان هذا النوع من المباني ظهر لاول مرة في مدينة امريكية آخرى، وتحديدا في شيكاغو (quot;شيكاغو ام اللقالقquot; بحسب عادل صالح زكي)، لكنها،هي نيويورك، من جعل من ظاهرة ناطحات السحاب عنصراً مميزاً للتخطيط الحضري، والذي تستعرض مانهاتن ملامحه الحضرية بوضوح.
في غالبية الرسمات المنجزة، المنشورة في الكتاب، ينظر روبنسون الى المشهد النيويوركي من الاعلى، من قمم ناطحات السحاب quot;بعين الطائرquot;. وتبدو هذه النظرة طبيعية جدا ومواتية جدا quot;للقبضquot; على المدينة العالية ورسمها كرافيكياًً. ونشاهد من ذلك الارتفاع الشاهق امتدادات طرقها المرسومة، هي التى اختار مخططها الحضري، ان تكون بشبكة متسامته، على غرار ما كان شائعا في تخطيط المدن الرومانية القديمة. واضحى ذلك التخطيط،، منذاك، جزءا من الذاكرة التخطيطية، يعاد انموذجه مرارا وتكرارا، محددا نوعية تخطيط مدن عديدة ذات مناطق جغرافية مختلفة. ويعرف المخططون جيدا بان مدينة سامراء العباسية ُخُـططت على غرار ذلك الاسلوب التخطيطي. كما ان quot;دوكسيادسquot; ndash; المخطط اليوناني المعروف، ولع في هذه النوع من الشبكة التخطيطية، واستخدمها في تخطيط اسلام آباد بالباكستان، مثلما وظفها ايضاً في تخطيط احدى ضواحي بغداد وهي مدينة الثورة (مدينة الصدر الآن). و...عوداً الى روبنسون ورسومه. اذ يختار الفنان، كما اشرنا سابقاً، مناطق رسومه الفضاءات التى تحددها الاحياء الواقعة بين quot;جادة برودوايquot; ( اقدم طريق واطولها في نيويورك، اذ تخترق الجزيرة كلها لتصل الى برونكس، هي التى يعود اسمها وتاريخها الى زمن الهولنديين: اوقات quot;نيو امستردامquot;. وquot;برودوايquot; هي الترجمة الانكليزية الحرفية لاسم الطريق: quot;الجادة العريضةquot; في الهولندية!)، وبين quot;حدائق باتيريquot; الواقعة في اقصى quot;حي مانهاتن الادنىquot; Lower Manhattan. ومانهاتن، كما هو معروف، تشتمل على احياء عديدة، هي بالاضافة الى مانهاتن الادنى، في اقصى جنوب الجزيرة، هناك حي quot;سوهوquot; (ويكتبه النيويوركيون SoHo)، ثم حي quot;مركز مانهاتنquot; (او quot;وسط المدينةquot;، او كما يدعونه الاردنيون: quot;وسط البلدquot;) Midtown Manhattan، ثم quot;الحي الشرقيquot; East Side؛ وquot;سنترال باركquot; ثم quot;الحي الغربيquot; واخيرا quot;مانهاتن العلياrdquo; او quot;مانهاتن الشماليةquot; Upper Manhattan الواقعة باعلى الجزيرة وفي اقصى شمالها. وفي غالبية quot;رسماتهquot;، تظهر بوضوح، شوارع مانهاتن وجاداتها وهي مرسومة من ذلك العلو: وشوارع مانهاتن، كما يعرف الجميع، هي الطرق الممتدة من الشرق الى الغرب، في حين تمثل الجادة، طرقها العريضة، الصاعدة من الجنوب نحو الشمال.
في quot;الرسمةquot; المعنونة quot;ميدتاونquot; Midtown تبرز اهم ناطحتا سحاب في نيويورك، وهما quot;كرايسلر بيلدينغquot; و quot;امباير ستيت بيلدينغquot;، تفصلهما بالطبع جادة quot;بارك افينيوquot; (كانت تدعى لحين 1959،بالجادة الرابعة)، التى تظهر في الرسمة وهي متجه شمالا نحو السنترال بارك. وكرايسلر بيلدينغ من المباني المشهورة في المدينة، وكانت، وقتها، عندما شيدت في 1930، من اعلى مباني نيويورك، اذ يصل ارتفاعها الى 75 طابق. وعمارتها انموذج واضح لمرحلة انتقال بين المبنى المتدرج نحو الشكل quot;البرجيquot;. لكن كرايسلر تمتاز ايضا بتشكيلاتها المتفردة العلوية ذات التزينات العائدة لاسلوب الار نوفو، والتى استوحت اشكالها من بعض اجزاء السيارة، التى هي اختصاص شركة كرايسلر. وفي حينها قُيّمت هذه المداخلة التصميمية سلبيا، بيد انه بمرور الوقت امست تلك quot;النقيصةquot; التكوينية بمثابة العنصر الجاذب في عموم عمارة المبنى، واكتسبت جراءها شهرة واسعة، جعلت منها محط اهتمام كثر. وقد اعار روبنسون اهتماما زائدا لهذا الجزء من المبنى في رسومه المنجزة عن quot;ميدتاونquot;. اما quot;امباير ستيتquot; فانها تبرز في الرسمة وقد نهظت بعلوها الشاهق والاستثنائي من quot;ضجيجquot; المباني العديدة الواقعة اسفلها. ومعلوم ان الامباير اكتسبت شهرتها بكونها الاعلى بناءا في العالم. اذ يصل ارتفاعها الى 407 مترا وتتكون من 102 طابق، وظلت محتفظة بعلوها القياسي حتى مطلع الستينات. ورغم علوها الفريد فقد تم تشييدها في وقت قياسي ايضا وبظرف سنة واحدة و45 يوما. وقبل ان ازيح بصري عن لوحة quot;ميدتاونquot; المليئة بالمباني العالية، احرص على التعرف عن مبنى آخر،احبه جدا واعتز بعمارته كثيرا. اعرف انه يقع على البارك افينيو، مؤملا نفسي بان عين روبنسون الثاقبة لابد وان لاحظت عمارته المتميزة. وانا اعني بالطبع quot;سيغرام بيلدينغquot; الواقعة بين شارعي 52 و53. انه ليس مبنى عادي، انه قبل اي شئ quot;المبنىquot; معرفا بالف ولام، تبجيلا واعجابا بعمارته ودورها في تاريخ عمارة الحداثة. بيد اني لا اجده في هذه اللوحة ولكني اشاهده في لوحة آخرى دعاها الفنان بـ quot;مانهاتن بين نهري هدسون وايست ريفرquot; منشورة في الكتاب.

تشي لوحة quot;سنترال باركquot; الممتدة على صفحتين من كتاب رسوم روبنسون، بانطباع جلي يتولد لدى المتلقي، بان المشهد المرسوم هو لمنطقة ريفية، غنية بمزروعات كثيفة وبمياه بحيرات كثيرة، وحافلة quot;باجنحةquot; واطئة مبنية في مناطق متفرقة فيها. ولولا quot;الجدارquot; الفاصل الذي تكونّه واجهات المباني العالية الملتصقة الواحدة بالاخرى، المحدد quot;للارض المزروعةquot; من جهاتها الثلاث في اللوحة المرسومة، لكان حدس الانطباع الريفي المتولد يبدو قريبا من الواقع. لكنه يظل حدساً. quot;فالسنترال باركquot; هو رئة نيويورك، الذي يحظر فيه البناء العالي، واي بناء خارج الوظيفية الترفيهية. ومن بعيد، في تلك اللوحة المرسومة بتفصيل دقيق وتكوين متفرد، وبحب ظاهر وايضاً.. بمتعة، يمكن التعرف على اهم مبنى من مباني المدينة الواسعة ذات اللغة المعمارية المتميزة، انه quot;متحف غوغنهايمquot;، المصمم من قبل فرنك لويد رايت، والذي افتتح في 1959، سنة وفاة المعمار، والواقع على طرف quot;الحي الشرقيquot; Upper East Side. وسيعود روبنسون مرارا الى رسم مبنى المتحف من الخارج ومن الداخل في كتابه المنشور. فالمبنى جدير بالاهتمام فعلا، وعمارته شكلت حدثاً مؤثرا في منجز عمارة الحداثة في تجلياتها المختلفة، وتحديدا في مقاربتها quot;العضويةquot;، التى لطالما روج لها المعمار الامريكي الشهير، واقترنت باسمه. ذلك ان quot;رايتquot; كان معارضا لبنية quot;المبنى- الصندوقquot; المتولدة عن التكنولوجيا، وليس عن متطلبات تشكيلات الفضاء الداخلي. وهو ما فعلة في quot;غوغنهايمquot;: بعمارته المتميزة وشكله القريب الى منحوتة تجريدية، مكرسا فيه احد اهم مبادئ العمارة العضوية، وهو التصميم quot;من الداخل نحو الخارجquot;. ورغم فرادة اللغة المعمارية التى يتمتع بها مبنى المتحف، فان الموقع المختار له، لم يكن ملائما وجديراً، ما جعل منه مبنى محصور بين ابنية عالية مهيمنة. وهو وان بدا غريباً عن مجاوراته، فانه ظل طامحاً، لتكريس نهجه العضوي، في عبور جادة quot;البارك افينيوquot; المطل عليها، والذي تفصله عن البارك، ليستقر quot;عضوياًquot; هناك، ضمن اجنحة quot;السنترالquot; العديدة والمنتشرة في ارجاءه. جدير بالذكر ان quot;مؤسسة غوغنهايمquot; الراعية للمتحف، استمرت في تكريس حضورها بالمشهد المعماري، من خلال تبنيها انشاء وتصميم متحف quot;غوغنهايم بيلباوquot; في اسبانيا، الذي افتتح عام 1997، وتميز في لغه معمارية ما بعد حداثية، كان ظهورها مثيرا جدا للوسط المهني في حينها، ونال مصممها quot;فرنك غيري quot; بسببها على شهرة واسعة، نظرا لاسثنائية الطرح التصميمي وفرادة عناصره التكوينية، فاتحا الباب على مصراعيه لتكريس المقاربة quot;التفكيكيةquot; في الخطاب وفي المشهد. وبما اننا اتينا على ذكر متاحف مؤسسة غوغنهايم، فقد كلفت الاخيرة quot;فرنك غيريquot; ذاته لتصميم متحف quot;غوغنهايم ابو ظبيquot; في جزيرة السعديات بالامارات سنة 2006. لكن تصاميم الاخير لم تخرج كثيرا عن quot;معطفquot; بيلباو، وبدت وكأنها كتل متشظية من عناصر عمارة سابقه الاسباني، quot;متكومةquot; في فورم بارد لا يسعى الى اثارة، ولا يطمح ان يكون فريدا. ويساورني ظن، ان المعمار انجز عمله التصميمي برتابه quot;مفعمةquot; بضيق لا يعرف سببه، ويذكرني مزاجه التصميمي بمقولة عراقية وهي العمل quot;من وراء خشمهquot;. وتقال عن العمل المنجز الخالي من المتعة او الاثارة!. واذ اعترف بان تقييم المباني نقديا من خلال عبارة quot;من وراء خشمهquot;، لا تمتلك سندا او مرجعية نقدية، فان هذا، هو ما اشعر به عندما اشاهد تصاميم مبنى quot;غوغنهايم ابو ظبيquot;. لكن ذلك...حكاية آخرى!.

تتيح مشاهدة رسومات روبنسون النيويوركية، امكانية استحضار quot;اميجquot; مدينة من اهم مدن العالم، هي التى يتحدث سكانها، البالغ عددهم في الوقت الحاضر حوالي 8.4 مليون نسمة، بـ 800 لغة، ما جعلها ان تكون المدينة الاكثر تنوع لغوي في العالم. وهذا التنوع المثير، الذي يذكرنا بامثولة بابل القديمة وتعدد لغاتها، انعكس على منتج ثقافتها المطبوع دائما بالتعدد والاثارة والحداثة، القادر لان يجعل من اليومي والعادي والمألوف، منجزاً فنيا غير عادي وغير مألوف. فجمالها وجمالياتها مركونة في شوراعها وجاداتها وعند مبانيها وميادينها العديدة، وبمقدور الفنان، المفعم بحب هذة المدينة العظيمة، التى قدمت للثقافة الانسانية الكثير بمختلف اجناسها الابداعية سواء في الفن اوالموسيقى اوالمسرح والسينما، اوالعمارة اوالادب اوالاعلام، ان quot;يكتشفquot; ويكشف لنا، ذلك السحر الجمالي شديد التنوع، الخاص بتلك الحاضرة المدينية. ولهذا فان رسومات روبنسون المميزة الغاصة بشخوصها ومبانيها وميادينها وحدائقها؛ والمقتنصة للمشهد اليومي سريع التغيير، تبدو وكانها ايماءة احترام لا يخلو من محبة الى تلك المدينة الفريدة، في وقت تتبدى شلالات خطوطه المستقيمة والمتقاطعة وكأنها مرسومة بسرعة فائقة، وكأن احدا يطارد الفنان اثناء رسمه، كأن؟، بالاحرى لان احدا يطارده، وهذا الـ quot;احدquot; يتمثل بسرعة التغييرات المفاجئة الجارية امامه في المشهد، التغييرات الخاطفة، المجبولة بها الحياة اليومية النيويوركية.
قد لا يشاطر البعض كثرا، ممن يروا في هذه المدينة، بمثابة حاضرة لانتاج ابداع ثقافي مرموق، لكن الغالبية ربما تتفق بكونها مكاناً لتنويع مدهش لمقاربات معمارية، وتجميع غزير لمؤسسات ثقافية، وحيز مهم لاساليب عروض فنية. كما ان احدا ليس بمقدوره ان يتغاضى عن امتلاكها فضاءاً ابداعياً مفتوحاً مترعاَ بحرية غير منقوصة. وهو ذاته الفضاء الذي يحلم به كثر، ويكن كثر له الاحترام والمودة، والذي ابرزت مناخاته على نحوٍ بين، رسومات الفنان الالماني المعبرة، وهو ايضا نفس quot;الفضاءquot; الفاتن، الذى يختزله الان quot;لوغوquot; مقتضب، بكلماته الشائعة عالميا: quot;انا احب نيويوركquot;!. □□

* استفدنا في كتابة هذا المقال، من كتابنا quot;مئة عام من عمارة الحداثةquot;، دمشق، 2009.

مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون