محمد الحمامصي من القاهرة: أكد المفكر السوري حسين العودات في كتابه quot;النهضة والحدثة بين الارتباك والإخفاقquot; الصادر عن دار الساقي وصعد إلى القائمة القصيرة ضمن جائزة الشيخ زايد فرع التنمية، أن أسئلة النهضة التي طُرحت على المجتمعات العربية في نهاية القرن الثامن عشر مازالت ماثلة أمام هذه المجتمعات، تتحداها، وتشكل عبئاً عليها، لأن هذه الأسئلة لم تتلق الإجابات الضرورية. التي تحتاجها، فبقيت قضايا أساسية تتعلق بمراحل النهضة والتنوير والإصلاح والحداثة والعلمانية والديموقراطية ومفاهيم الدولة الحديثة، تقلق المثقفين والسياسيين والنخب العربية، وتؤثر سلباً على تطور المجتمعات العربية، وتثير الصراعات السياسية والفكرية والأيديولوجية داخلها.
وقال quot;يبدو أن المجتمعات العربية الحالية تمر بالمراحل نفسها التي مرت بها المجتعات الأوروبية في القرن السادس عشر، وتواجه ما واجهته تلك المجتمعات من صراعات ومشاكل وصعوبات ومحاولات نهوض وإصلاح وتجديد ونجاحات هنا وإخفاقات هناك، مع الفارق أن المجتمعات الأوروبية كانت تمتلك في ذلك الوقت شروطاً موضوعية (وذاتية) ساعدتها على التطور والنهوض والنمو، أهمها تطور بنى المجتمع الاقتصادية والعلمية والثقافية والسياسية. فقد انهار النظام الإقطاعي في معظم بلدان أوروبا أو بدأ بالانهيار، وانهارت معه علاقات الإنتاج القديمة وأساليب الإنتاج، واستطراداً قيم هذه المجتمعات وتقاليدها ودولتها وأنماط حياتها وسلوكها. وقامت الدولة القومية (الدولة ـ الأمة) على أنقاض الإقطاعيات والدوقيات، وما لبثت هذه الدولة أن استكملت تبني معاييرها الحديثة، وبدأت تطبيقها في أواخر القرن الثامن عشر، كما حصل بعد الثورة الفرنسية والاستقلال الأمريكي، أعني معايير المواطنة والحرية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص والديموقراطية وتداول السلطة وفصل السلطات.
وأضاف quot;بينما مازالت هذه المفاهيم والمعايير جميعها التي استقرت في بلدان أوروبا وأصبحت من الثوابت، مدار حوار وجدال في المجتمعات العربية وبين التيارات السياسية العربية وداخل التيارات الفكرية، ومحط اهتمام المثقفين والكتاب، ولم يحسم كلياً مفهوم واحد من هذه المفاهيم الحديثة (مفاهيم النهضة والحداثة) في الثقافة العربية، ومع أن هذه المفاهيم هي مفاهيم نسبية، ترتبط بالزمان والمكان والظروف ومرحلة التطور، إلا أنها تتفق على ثوابت ومشتركات الحد الأدنى، التي تؤهل المجتمع للسير في طريق التطور آخذاً ظروفه بعين الاعتبار. وقد تم استغلال نسبية هذه المفاهيم من قبل تيارات سياسية عربية مما أتاح لها إعطاءها معاني أخرى ألغتها في نهاية المطاف. ووضعت بدائل لها تكبلها أو تمحوها وتستبدل بها مفاهيم أخرى (إسلامية) تارة و(قومية) تارة أخرى و(ليبرالية) تتماهى مع المفاهيم والقيم وأنماط الحياة الأوروبية تارة ثالثة. كما أتاحت للأنظمة السياسية العربية الحاكمة أن تساهم في إفشال نداءات النهضة، وتغير مفاهيمها، تحت شعار الخصوصية والنسبية، وكأن قيم النهضة والمراحل التابعة لها قيم تخص المجتمعات الأوروبية وحدها وليست قيماً عالمية، وبالمحصلة واجهت حركة النهضة العربية مناوئين لها من كل صنف ولون، من بعض الشرائح الاجتماعية التي ستتضرر من النهضة والحداثة، ومن التيارات السياسية والأيديولوجيات المحافظة أو اليمينية أو الرجعية، ومن الأنظمة السياسية (الشمولية والمستبدة)، ومن القوى الاجتماعية ذات المرجعيات المتخلفة (الطائفية والعشائرية والإقليمية وغيرها)، ومن الإسلاميين الذين رأوا أن (الإسلام هو الحل) وأن تعاليمه وإصلاح خطابه والعودة للاجتهاد والتأويل تكفي لاستيعاب التطور وتحقيق الحداثة، وناوأها القوميون الذين تجاهلوا الديموقراطية وتداول السلطة وفصل السلطات، ومعظم مفاهيم الحداثة الأخرى، في سبيل (تحقيق الوحدة) وبناء (النظام السياسي القومي) الذي تحول إلى نظام شمولي حينما تولى القوميون السلطة، كما ناوأها الليبراليون، الذين لم يهتموا بخصوصيات مجتمعاتهم، وتماهوا مع المفاهيم الأوروبية دون أن يؤقلموها مع واقع هذه المجتمعات، حتى أنهم كادوا يشعرون بالدونية تجاه التطور الأوروبي وقيمه ومفاهيمه وطقوسه، مروراً بالبورجوازية العربية التي تحولت إلى بورجوازية تجارية بدلاً من أن تصنّع البلاد وتتحول إلى طبقة اجتماعية اقتصادية قائدة، واستمرت بورجوازية تابعة بدلاًَ من أن تقيم نظامها السياسي ودولتها، وفشلت في حمل النهضة وتحقيقها وتطويرها والاستفادة من التجربة الأوروبية (مع الأخذ بعين الاعتبار أن شروط التطور لم تكن مناسبة لها لتقوم بدورها التاريخي)، وفي الحالات كلها، بقيت النهضة ومراحل التطور التابعة لها، ومفاهيمها وخاصة الحداثة والعلمانية والدولة الحديثة، عاتية على التطبيق الواسع والشامل في المجتمعات العربية. واستمرت أسئلتها هي هي، ومعضلتها نفسها، دون أجوبة أو حلquot;.
الكتاب الذي يأتي في ستة فصول مع مقدمة وخاتمة، تعرض لكل هذه الرؤى محللا ومنتقدا وموجها في إطار من بلورة فكرية عميقة لإشكاليات النهضة ورموزها من مختلف التيارات الثقافية والسياسية، خلال القرنين الماضيين، المتعلقة بالنهضة والحداثة والعلمانية والديموقراطية بل وبالدولة، عارضا لأهم هذه الأفكار، والعوائق والمصاعب التي واجهتها، وأسباب فشل النهضة والحداثة وإخفاقهما في البلدان العربية.
يقول العودات quot;كان القرن التاسع عشر بالنسبة للعرب، قرن طرح الأفكار النهضوية وتداولها، رغم الاستبداد الإقطاعي التركي، والتخلف الاجتماعي، والفقر وفساد إدارة الدولة، وهيمنة القوى الرجعية والظلامية على المجتمع، والتقط االنهضويون العرب، على مختلف فئاتهم، صيحات النهضة ونداءاتها، وحاولوا نصرة قيمها وإنجاحها، ولكن الشرط الموضوعي الذي كان سائداً، لم يساعدهم لاختيار أفضل المفاهيم والقيم، بل اضطروا لتناولها بما يتواءم مع ما يمكن أن يقبله المجتمع، فلم يستطع النهضويون تحقيق آرائهم واهدافهم من خلال تغيير وعي الناس لوحده مع غياب الحامل الاقتصادي والاجتماعي والشروط المواتية الأخرى، أو تجاوز هيمنة الأنظمة الاستبدادية. وهكذا نادى النهضويون الإسلاميون، كما هو حال التونسي والطهطاوي والأفغاني وعبده ورشيد رضا وغيرهم، بنهضة تعتمد على مبادئ الإسلام (ولم يكن بإمكانهم القول بغير ذلك) واعتبروا أن الإسلام الصالح لكل زمان ومكان بسبب قوله بالاجتهاد، قادر على استيعاب النهضة والحداثة والتحديث، وتصنيع المجتمعات وتحديثها وتطويرها، وإقامة أنظمة سياسية جديدة عادلة، تحترم الحرية والديموقراطية وتجافي الاستبداد والفساد، فلامسوا بشعاراتهم وأفكارهم هذه جوانب إصلاحية ونهضوية لا شك فيها، لكنها لم تكن في إطار برنامج نهضوي شامل واضح عميق وجذري. بينما كانت أفكار النهضويين الليبراليين أكثر وضوحاً وجذرية شأن أفكار فرانسيس مراش وشبلي شميل وفرح أنطون وغيرهم، إلا أن هؤلاء النهضويين اعتقدوا أن نقل التجربة الأوروبية (كما هي) كفيل بتحقيق النهضة العربية، مفترضين أن ما نجح في أوروبا لابد أن ينجح في المجتمعات العربية، وتماهوا مع التجربة الأوروبية، ولم يبدعوا أو يحاولوا الإبداع في مواءمتها مع ظروف المجتمعات العربية وشروط تطورها والمرحلة التي تمر بها، أما النهضويون القوميون، مثل نجيب عازوري وبطرس البستاني وأديب إسحق وغيرهم، فقد اهتموا بالمشكلة الأيديولوجية والسياسية على حساب مفاهيم الحداثة الأخرى، وركزوا على الخلاص من الاحتلال العثماني ومن الاستبداد، وتحقيق اللامركزية وأحياناً الاستقلال دون الاهتمام بمفاهيم النهضة والحداثة، وفي الحالات كلها، بقيت صيحات النهضة العربية باهتة وناقصة وجزئية ومجتزأة، ولا تحمل من الخطط ما يكفي لتبنيها من المجتمعات وصولاً إلى تحقيقها، وكانت المبادرات والنشاطات النهضوية في المحصلة نشاطات ومبادرات أفراد لا نشاطات طبقات أو فئات اجتماعية، أو تيارات نخبوية جعلتها هدفاَ رئيساً لها.
وأوضح أن هناك عوامل عديدة ساهمت في نشوء النهضة العربية أهمها: التحولات الاقتصادية ـ الاجتماعية وخاصة التجارية التي حصلت في بلدان المشرق العربي، ونشوء بورجوازية عربية، كانت متواضعة، لكنها كانت نواة لها مصلحة في نجاح حركة النهضة. إضافة إلى تأسيس المدارس الأجنبية وانتشارها في سورية ولبنان وفلسطين خاصة، وتبنيها مناهج تعليمية حديثة، ودخول المطبعة إلى البلدان العربية بعد أن كان دخولها ممنوعاً حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر، وانتشار الصحف في القرن التاسع عشر، وإحياء اللغة العربية، وتأسيس الجمعيات العربية التي كانت نواة لأحزاب أسست فيما بعد، ثم التواصل مع المجتمعات الأوروبية والاطلاع على نهضتها وتطورها وما يجري فيها، بسبب زيادة عدد الموفدين والطلاب والتجار الذين يزورون أوروبا.
ويلاحظ العودات أن الاهتمام بالنهضة في الحال العربي لم يكن ذاتياً ونتيجة طبيعية لتطور المجتمعات العربية، بل كان متأثراً بالحداثة الأوروبية، وفي الواقع مصدوماً بها بعد غزوة نابليون لمصر، حيث انكشف التفاوت بين التطور العربي والتطور الأوروبي في ذلك الوقت (1798) وتم تداول أفكار النهضة والحداثة عموماً، في ظل مجتمعات غابت عنها الديموقراطية والحرية مما أدى إلى غياب الإبداع الفكري والاجتهاد والتواصل مع الناس وندرة وجود الفكر النهضوي التحديثي.
أيضا أن الفئات السياسية العربية الحاكمة اهتمت بالنهضة على أنها وسيلة لتحديث الأنظمة، ومساهمة في التصنيع وخاصة في الصناعات العسكرية وتنظيم الجيوش والإدارة بما يقوي هذه الأنظمة نفسها على شعوبها وعلى أعدائها، وكذا أن النهضويين العرب سواء منهم الإسلاميون أم الليبراليون لم يأخذوا بالنهضة والحداثة كمشروع متكامل بل اهتموا بجوانب منها دون جوانب أخرى، وخاصة في مجال الإصلاح، وكان اهتمامهم فكرياً بالدرجة الأولى دون أن يخطر ببالهم إحداث إسقاطات النهضة والحداثة على بنية المجتمعات وهيكليتها وتطورها، وبالتالي بقيت رؤيتهم وأفكارهم ناقصة وجزئية ومبادرات فردية (نخبوية) لم تستطع أن تجمعهم كتيار موحد نهضوي حداثي.
وأخيرا أن البورجوازية العربية كانت تجارية بالدرجة الأولى، وعلى الأصح مجموعة من العاملين في مجال التجارة، ولم تهتم بالتصنيع إلا في فترات متأخرة جداً، كما لم تهتم بإقامة دولتها ومجتمعها وتفرض قيمها، وبقيت مقطورة إلى حد بعيد بالأنظمة الإقطاعية العربية والأنظمة الاستبدادية السياسية، وبالموروث الثقافي، وسيادة تقاليد وأفكار بالية تحتاج إلى وقت وجهد خاصين لإزالتها. ولذلك لم تحقق النهضة ولم تكن حتى فعالة فيها بما يكفي.
ويشير العودات إلى أن هناك أمرا هاما كان ومازال موجوداً في المجتمعات العربية وله دورا هاما جداً في عرقلة تحقيق النهضة والحداثة، quot;أعني به تيار الإسلام السياسي الذي اعتبر أنهما رجس من عمل الشيطان، وأن أي تحديث هو بدعة ومخالف للإسلام، وكان هذا التيار ومازال يرفض الإصلاح الديني وغربلة التراث والفقه. وإعادة النظر بالخطاب الديني عامة، وزاد الأمر صعوبة أن أفكاره وقيمه هي المهيمنة على المجتمعات العربية منذ مئات السنين، وأعطاه ذلك قوة لا تماثلها قوة أخرى، ولم يستطع أي تيار ثقافي أو سياسي آخر أن يكون مكافئاً لتيار الإسلام السياسي، أو قوة تقف أمامه، باستثناء فترة قصيرة جداً نهض فيها التيار الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين، وأخرى قصيرة أيضاً نهض فيها التيار القومي في مطلع النصف الثاني من القرن نفسه، ولكن هزيمة الأول أمام الانقلابات العسكرية وهزيمة الثاني أمام الاحتلال الصهيوني والغزو الأمبريالي، أضاع أية فرصة أمام كل منهما لكي يكون له شأن في تطور المجتمعات العربية، أي في تبني النهضة والحداثة والعلمانية. وأشير خاصة إلى الدور السلبي للإيديولوجية القومية، وإلى النتائج السلبية للانقلابات العسكرية في إجهاض مسيرة النهضة والحداثة، البطيئة أصلاًquot;.
ويخلص العودات إلى أن المعوقات والصعوبات أمام تطبيق مفاهيم الحداثة والعلمانية والديموقراطية يمكن إيجازها فيما يلي:
أولاً: لم ينشأ الحامل الاجتماعي الضروري للنهضة والحداثة في البلدان العربية ولم ينضج بما فيه الكفاية ليؤدي دوره التاريخي، فقد افتقد التاريخ الحديث لهذه البلدان نشوء بورجوازية محلية تنزع للحداثة والتحديث وتحاول تطبيق هذه الحداثة ومفاهيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على المجتمع، وخاصة فيما يتعلق بالدولة الحديثة والمجتمع المعاصر ومتطلباتهما والعلاقة مع الشعوب الأخرى، والمؤسف أن البورجوازية العربية كانت (وربما مازالت) بورجوازية تجارية تعتمد على تسويق الصناعات والسلع الأجنبية، وإن أقامت صناعة محلية فإنما هي صناعة تحويلية ليس إلا، وبالتالي بقي الاقتصاد في البلدان العربية اقتصاداً هشاً يعتمد بالدرجة الأولى على الاقتصادات الأخرى الأجنبية، وبقيت العلاقات السياسية والاجتماعية ومفاهيم الدولة وجوهرها وتكوينها ومقوماتها دون تطوير تحديثي كاف، يتناسب مع أفكار وطموحات ونزوع الطبقة البورجوازية (الطبقة الوسطى) ولم تستطع هذه أن تقوم بدور الحامل للنهضة والحداثة.
ثانياً: إصرار التيار السلفي الإسلامي على التطرف ورفضه الشديد وأحياناً المطلق دراسة التراث وغربلته ونقده، واعتباره تراثاً مقدساً، وسيادة المفهوم الذي يخلط التراث بالفقه وحتى بالدين، والتقاعس عن إصلاح الخطاب الإسلامي، وعدم تقبل معايير التنوير وشروط الحداثة، وحتى عندما تقبل النهضويون الإسلاميون هذه المفاهيم كان تقبلهم متحفظاً وموارباً وليس جذرياً (مع الفرق بين الواحد والآخر) وكانوا يصرون على الانطلاق من الدين الإسلامي(كما فهمه الفقهاء في واقع الأمر) لفهم هذه الظواهر الحديثة واعتبار الإرث الديني والثقافي معياراً لصحتها. في الوقت الذي تأثروا، إلى أبعد الحدود، بتحالف الفقهاء التاريخي مع رجال السلطة، ووضع هؤلاء أنفسهم في خدمة السلطة كما كان شأن معظم رجال الدين دائماً. وقد أدى هذا الموقف إلى إقامة عقبات وصعوبات أمام دخول الحداثة للمجتمعات العربية وأمام تقبلها من قبل جماهير المسلمين.
ثالثا: ساهمت الأنظمة العربية (ومعظمها استبدادي) في إقامة صعوبات عديدة أمام تطبيق هذه المفاهيم عامة ومفاهيم الدولة الحديثة والمجتمع الحديث خاصة، لأن هذه المفاهيم تتناقض بشكل عام مع مصالح هذه الأنظمة وخاصة بما تحمل من مفاهيم الديموقراطية والحرية والمواطنة وتداول السلطة وغيرها. ومازالت هذه الأنظمة تقوم بدورها الممانع حتى الآن، وتتيح المجال لكل أعداء هذه المفاهيم ليمارسوا نشاطهم وتمنع أنصارها من الحركة والنشاط والدفاع عنها، وهم بذلك ينافقون رجال الدين والفقهاء ويحاولون اكتساب بعض الشرعية التي افتقدوها في مجتمعاتهم.
رابعاً: بدأ دخول هذه المفاهيم الحديثة إلى البلدان العربية مع بدء الغزو الاستعماري ولذلك غالباً ما استطاع أعداؤها إقناع قطاعات واسعة من المجتمع بمن فيهم تيارات ثقافية بأن هذه المفاهيم المسماة مفاهيم حداثية هي مفاهيم استعمارية تهدف إلى تهديم الإسلام والقيم الإسلامية والعربية، وقد ساعدهم في ذلك همجية الغزو الأوروبي وصعوبة التفريق بين المفاهيم الحداثية وهذا الغزو.
خامسا: بعد رحيل المستعمر عن معظم البلدان العربية وبدء استقلالها بدأت مرحلة قصيرة جداً يمكن أن نطلق عليها مرحلة قيام الأنظمة البورجوازية العربية، لكن هذه المرحلة سرعان ما انتهت إلى الفشل و بدأت موجة الانقلابات العسكرية في معظم البلدان العربية، وقد أجهزت هذه الانقلابات على نويات الأنظمة البورجوازية وما تبشر به من مفاهيم حداثية. ووأدت بوادر التحديث التي كانت قد بدأت، ورغم أن التيار القومي ورث هذه الأنظمة العسكرية وتولى السلطة في بعض البلدان العربية، لكنه لم يشغل نفسه بتحديث المجتمعات التي يحكمها بل فرض أنظمة شولية شبه ديكتاتورية وأشغل نفسه بشعارات الوحدة القومية، وهي شعارات غير واضحة ولامحددة المعالم، لكنها امتصت كل نزعات الحداثة والتحديث وتداخل فيها القومي بالإسلامي بالحداثي ولم تساهم في تحديث المجتمعات.
سادساً: أثًر قيام إسرائيل سلبياً على تطور المجتمعات العربية، فطُرحت القضية الفلسطينية كقضية عربية أولى ورئيسية. لها الأولوية المطلقة، وفي ضوء ذلك حُشدت الجهود والإمكانيات المالية والبشرية لما سمي بالمعركة، وجرى تجاهل ضرورات التطور الداخلي، الثقافي والسياسي والاقتصادي، وكان يعتبر نشازاً أن يطالب أحد بالتحديث والحداثة والديموقراطية والحرية في حالة الصراع مع إسرائيل، كما كان يعتبر نشازاً أيضاً إعادة النظر بالتراث والثقافة والقيم في ظروف الإعداد للمعركة (فكل الجهود للمعركة) وفي الخلاصة طغى الصراع مع إسرائيل على جميع إمكانيات الحداثة والتحديث وأولوياتهما لأنه قلب سلم الأولويات.
سابعاً: لقد كان للهزائم أمام إسرائيل وخاصة هزيمة عام 1967 أثراً سلبياً على التيارات القومية والتقدمية والحداثية العربية، وفرضت هذه الهزائم مناخاً ملائماً جداً للتيارات المتطرفة والسلفية كي تتوسع وتنتشر وتزداد مغالاة في نظرياتها وآرائها، مما أدى إلى الارتداد واعتبار مفاهيم الحداثة والعلمانية والديموقراطية وغيرها من المفاهيم الحديثة رجساً من عمل الشيطان وغزواً ثقافياً صريحاً بنظر هذه الفئات المتطرفة التي حاولت فرض مفاهيمها المعادية لها على المجتمعات.












التعليقات