مع أن فن العمارة ينضوي تحت لواء الفنون التشكيليّة ولكنّها تختلف عن سائر الفنون الموصوفة بأمور متعدّدة وأهمها وظيفة العمارة، ففي الفنون التشكيليّة الأخرى يكون المضمون أو الجوهر فكريّا أو اجتماعيا أو ثقافيا كما هي الحال في فن الرسم والنحت والخزف ولكنّه في العمارة له جوهر مادّي يتجلّى بالاستعمال والاستخدام إذ لا قيمة لأي تصميم معماري يُعاني من مشاكل حقيقيّة في الوظيفة ولهذا فإن مهمة المصمم المعماري معقّدة وواسعة إذ يجب أن تتحقّق وظيفة الاستعمالات المتعددة للفضاء وأن تقود تلك الوظائف إلى شكل متوافق ومتجانس مع الإستخدام داخليا وخارجيا ليعبّر عن تلك الوظائف التي تناولناها
وإن حصول اختلاف نوع وليس اختلاف تناقض يجعل العمل المعماري هابطا فالوحدة في العمل المعماري كما هي في الفنون والآداب عامّة مطلوبة مع عدم اشتراط تطابقها ونقصد هنا أن وجود تناقض يعبّر عن تفاعلٍ ما أمرٌ مرغوب وهو الأمر الذي ترتبط فيه التصميمات الداخليّة لاالتصميمات الخارجيّة وبالتالي بالاستخدامات التي تحددها الوظائف ونظن أن استيعاب هذا الأمر ليس عسيرا ومع ذلك نقول لو أن المهندس أو المصمم عمل إحدى الوحدات المخصصة للمنام مثلا دائريّة الشكل فإنه سيواجه صعوبة في فرش تلك الغرفة ووضع الحركة الداخليّة ولو أنه انطلق مثلا في تصميم الحركة الداخليّة والأثاث أولا فلربما كانت فكرة التصميم تنبثق بشكل أيسر وبطواعيّة ملحوظة وطبعا هذه ليست قاعدة ولكن في بعض الأحيان نجد أن وضع تصميم المظهر الخارجي قد يقود إلى مشاكل ومصاعب كثيرة قد لا يوفّق المعماري إلى إيجاد حلّ مناسب لها.
فإذا راجعنا معظم الأعمال المعماريّة للمصممين العراقيين نجد أن التخطيط والتصميم الداخلي متشابه في المباني المتماثلة الإستخدامات مثل المساكن العائليّة أو العمارات السكنيّة أو المباني العامّة ولكنها متناقضة في المظهر العام الخارجي فكيف يحدث هذا؟ إنه لا يمكن أن يحدث إلاّ بسبب كون التخطيط والتصميم الداخلي مقتبس من إحدى التصميمات المنفّذة فعلا مضاف لها مظهر خارجيٌّ قد تصرّف فيه المعماري العراقي ثم بعد هذا قد لا يجد مثل هذا المصمم أن وحدة قد حصلت بين المظهر والإستخدام الداخلي فيجنح إلى إحداث تغييرات هجينة في التصميم والتخطيط الداخلي فيزيد الأمر سوءا وتناقضا وفي النهاية يُترك للمصمم المعماري أن يلعب(Play )بالمظهر ليُعوّض تباين الشخصيّتين الداخليّة والخارجيّة فيبدأ بإضافة عناصر غريبة على جوهر التصميم وهي عادة أكبر الأخطاء وأشدّها لزوما للتجنّب، لينتهي المصمم بمبنى غالبا ما يكون مظهرّا لا معنى له ولا يعبّر عن الإستخدامات الداخليّة ولا يتجانس معها وبالتالي لا يوحي المظهر الخارجي بوظيفة المبنى الداخليّة وهنا نقول أن تلك عمارة مظهريّة (Facade )إمّا أن تكون الوظيفة فيها لا تقوم على أسس تنسجم مع الإستعمالات أو حتّى أن تكون وظائفها سيئة وغير سليمة إننا مثلا لو نظرنا إلى مبنى وزارة الصناعة قرب منطقة القصر الأبيض ببغداد لوجدنا تفاصيل مظهريّة كثيرة جدا ومتكررة على صغرها وصعوبة تنفيذها فضلا عن التكاليف التي تصاحبها ولكننا عندما ننتقل إلى بناية التعليم العالي والتربية فإننا لا نجد تلك التفاصيل الهائلة كما في الصناعة ومع ذلك نكتشف بسهولة شفافيّة التصميم من حيث ملائمة التصميمين الداخلي والخارجي لمبنى التعليم العالي والتربية ، إن تمثيل الأمر بزينة الفتاة أمر يمكن أن يقرّب الصورة، فإذا هي لم يكن ربّنا قد أنعم عليها بملامح فائقة الجمال فإنها مهما تزيد من زينتها فإنها لن تزداد إلاّ تراجعا في جمالها في حين أن تلك التي أنعم الله عليها بنعمة واسعة من الجمال فإنها وإن لم تستعمل إلاّ زينة بسيطة فإنها لا شكّ تزداد جمالا ولنا بالمثل الشعبي القائل( الزين زين لو قام من منامه ، والشين شين لو لبس كل هندامه)ولهذا ولأسباب أخرى تتعلّق بالتكوين الفني أو ( Composition )فإن المظهريّة التي طبعت التصاميم المعماريّة العراقيّة في الغالب وليس جميعها مع الإصرار على المعالجات المتواصلة للتكوين الخارجي الاّ أن أغلبها لم يحقّق أي تكوين ينطوي على براعة أو حسن تأليف تشكيلي فلا هي عمارة رمزيّة ولا هي تكوينات تشكيليّة تتماهى مع التصاميم الداخليّة ويبدو واضحا أن همّ المصمم لم يتعدّ المظهر الخارجي حتّى لو انسلخ عن محتواه ، وهنا لا نستطيع أن نلوم أحد قدر توجيه اللوم لكليات العمارة فبقدر ما تحتاج العمارة إلى مهندسين يكون شغلهم الشاغل حسن تحقيق الإستعمالات والخدمات الداخليّة وموائمة التخطيط الداخلي للإستعمال المخصص له فإن العمارة تبقى إحدى الفنون التشكيليّة من حيث التصميم الخارجي بشكل خاص ولهذا فإن اختيار أفضل المتقدّمين للدراسة في هذه الفروع يجب أن يمرّ عبر بوّابة الموهبة والملكة التشكيليّة كما هو الأمر بالنسبة للرسم أو النحت أو الخزف أو غيره فإن تكوين القطعة التشكيليّة والتي تأتي عن طريق تكوينات بين مفردات تشكيليّة هي مسألة تختلف عن المسألة الرياضيّة أو الفيزياويّة وتتطلب مواهب تشكيليّة قد يكون طلبة الإعداديّة حائزين عليها أو قد لا يكونون لا سيّما أن عموم الدراسة في المدارس ما قبل الجامعة لا تنظر لمواد الفنون نظرة جديّة ولا تعطيها أهميّة تُذكر فمن أين سيحصل الطالب على الأرضيّة التشكيليّة التي يتطلّبها المصمم المعماري؟
ولهذا ولأسباب أخرى كثيرة نجد أن العمارة العراقيّة في الغالب مظهريّة وغير منشغلة بالتخطيط والتصميم الداخلي وأنها حتّى في مظهريّتها لا تنطلق من تركيب وتكوين مفردات تشكيليّة تنطوي على إبداع وابتكار و ليس لها مضمون لا تشكيلي ولا رمزي وهذا أمرٌ يُسئ للعمارة العراقيّة ما عدا بعض الأمثلة المحدودة والتي نفاجأ بأن أغلبها هي الأخرى من وضع معماريين أجانب وليسوا عراقيين
بقدر الإمكان يمكن أن يجري اختبار للمتقدمين لدراسة العمارة وأن يتم التركيز على المواهب الفنيّة بالقدرات التشكيليّة من المتفوقين من خريجي الإعداديّة فهذا مهم جدا إذ أن من يحوز على درجات النهايات العليا في الإمتحانات للمدارس الثانويّة قد لا يصلح معماريّا أبدا ما لم يكون له حسّ وملكة في الفنون التشكيليّة على وجه التحديد
العمارة نصفها هندسة والنصف الآخر فنون تشكيليّة وهذا في البداية أمّا عند مواصلة التقدّم في العمل فيها فهي أكثر من هذا حيث أن لها وظائف مادّيّة وأخرى فكريّة فضلا عن كونها إحدى الفنون التشكيليّة كما قلنا وكذلك هي أيضا هندسة من حيث التعامل مع الطبيعة فضلا عن الإنسان وهي ايضا تكنولوجيا ولكنها لا تنصرف إلى التقنيات التفصيليّة كما تفعل فروع الهندسة الأخرى فهي تعالج كل فعاليات الإنسان من أبسط الأبعاد إلى الحركة والتنقّل إلى التناقض مع المتطلبات الإجتماعيّة وهي في نفس الوقت تعالج علاقات الإنسان مع الأجهزة والآلات والأدوات ومستلزمات العلاقات مع الطبيعة والمناخ والمتانة والصوت وغيره كثير .
وهذا يعبّر تماما عن مظاهر مرتبطة أوثق الإرتباط بوظائف متعدّدة والوظائف هي جوهر العمل المعماري ولهذا يجب أن تحوز على أكبر الإهتمامات وأن نتجنّب العمارة المظهريّة التي تعتمد على محاولات لتكوين وتركيب أشكال غير مرتبطة بأي رابط مع الوظائف التي يجري تصميم تلك المباني من أجلها.
مهندس ومنشغل بالثقافة
دهوك في 24شباط2012