الدكتور مجيــد القيسي: عرف البغادة حر الصيف او(الگيظ)؛ كما كانوا يسمونه؛ وخصوصا في شهر آب؛ مثلما عرفه أجدادهم السومريون وألأكديون قبل سبعة آلآف عام؛ فعانوا من حره وسمومه ومضايقاته الشئ الكثير؛ لذلك أسموه بلغتهم آنذاك: (إيزي أيتو) أي شهر النار.
وقد ذكر البغداديون في وصفه عبارات كثيرة سارت مسرى ألأمثال؛ من ذلك: (أبْ اللهّاب يحرگْ البسمارْ بالباب) و( آبْ نهاره لهّاب وليله جلاّبْ) و(أول عشرة من آب تفك من جهنم باب وثاني عشرة تقلل الأعناب وتكثر ألأرطاب وثالث عشرة تفك من الشتا باب). وعلى الرغم من شدة حره وقسوة سمومه غير أن البغادة كثيرا ما كالوا له المديح نكاية بشهر (أيلول) إذ قالوا:(رحم الله أبْ...قتلنا أيلولُ بحرِّه).
وكان كثير من البغادة يستقبلون سياط حره ولسعات سمومه بشئ من الراحة والإستئناس بالرغم من ساعات الضجر والمعاناة التي يشعرون بها بسبب شدة حره ويومه الطويل نسبيا. ومن أوجه تلك الراحة انه كان يستدعي الکثیر من المواقف المحببة والمناسبات اللذيذة الطيبة كوجود فرص مواتية لتناول (الرگي) المبرد تحت (حِبّ المي) او مُغطس داخل (البير). او رشف ماء (رگية مگية)؛ وهي التي تحولت محتوياتها الى شبه سائل ذي طعم فيه بعض الحموضة. أو شرب ماء مبرد من (التـُنگة) وقد تمت تغطية فوهتها بقطعة قماش (ململ) او بغطاء من الخوص. او تناول رشفات مباشرة من (الحِّبّ) او (الحُبّانة) او(البُوّاگة) التي تقوم بجمع (مي الناگوطْ) وذلك بواسطة مِغرفة يسمونها (مِنشل) او (جيريـّة)؛ او (بالشَّربة) الفخار التي تسمى أحيانا (الكرُّوُزة) او الكُوز). أوألإستمتاع بشرب (الشنينة)؛ أو شرابت (النگوع) أو (الزبيب ألأسود) او (الرمان) أو(قمْر الدين) أو(تمر هند) التي إعتادت النسوة البغداديات على اعدادها وألإحتفاظ بها لساعات النهار أو الى حين عودة الرجال وألأولاد من (الشغل) مساء. وكذلك أكل الفواكه والخضراوات الطرية الطازجة كالطماطة والبطيخ و(التـُكّي) و(المشمش) و(الگوجة) و (العِنجاص او ملا أحمد) المبردة. أومصّ قطع من الثلج لترطيب الشفتين وتبريد الفم الجاف (المفلحِم).
وكثيرا ما تفتح أصوات الباعة الدوارين في (الطرَف) شهية البغدادي على مصراعيها لشراء قطعة من (العَلْ عُودة)؛ وقبل ان تحصل على اسم (لكي سْتِكْ) ألأفرنجي. او ان يشتري (گلاص بوز) او (دوندرمة) أو (گلاصية) أو (أزبري)؛ او يحصل على صحن من (القيمقْ او القيمقْلي) اللذيذ المصنوع من الحليب الخالص المثلج مع السكر وماء الورد الطبيعي. وكيف كان بعض الباعة يتفننون بصنعه وعرضه بواسطة (العرباين) ألأنيقة الصغیرة؛ وخصوصا الباعة (اليهود) الذين كانوا يدورون على زبائنهم آو معارفهم المفضلين من أصحاب الدكاكين في أسواق (الشورجة) و(قمبر
علي و(حنون الصغير)؛ وفي (الخانات) الكبيرة لتصريف بضاعتهم. وكان (القيمقْلي) يقدم في صحون خزفية صغيرة؛ جميلة الشكل. كل ذلك كان يباع (بعانة).
آما إذا ما وجد البغدادي نفسه خارج المنزل فقد يحظى بعدد من المتع التي تخفف عنه وطأة الحر وهو يسير خلال (الطرقات) أو(الدرابين)؛ فيمر بالقرب من بوابات (الخانات) وألأسواق و(القيصريّات) المغطاة؛ حيث تنسل منها نسمات باردة منعشة كما تنسل (الصبايا) و(الحْديثات) من ألأبواب ليلا لملاقات حبيب ما يزال ينتظر عند راس (الدربونة) وهو يرتجف خوفا من أن ينكشف أمره. او ربما يمر بأحد الدور التى تضع على أبوابها أو نوافذها (عمّاريـّة عاگول) تعلوها (تنّكة) او (پيپ) او (طرمبة) لتزويدها بالماء ، فتراه يتثاقل أو يتوقف قليلا عند تلك المحلات لتنسم أكبر قدر من الهواء العليل دون أن يعترضه او يسلب متعته المجانية (ناظر خان) او (صاحب دار) او (شرطي). وقد يخرج اليه من في الدار (بكاسة) أو (پرداغ) ماء مبرد او (جِدَح) شربت طبيعي لذيذ. فلاغرابة في أن تسود تلك المشاعر ألإنسانية بين الناس زمن الخير والبركة. فقد وفر بعضهم الى البعض الآخر سبل التراحم والمحبة وتقديم العون؛ ولسان حالهم يقول (الناس إلبَعضها) و(شربة ميْ لمِسكينْ تبعدك عن جهنمْ سنين).
أما إذا ما داهمه العطش وهو بعيد عن المنزل ولم تكن لديه نقود؛ فقد يجد ضالته في (السبيل خانات) المنتشرة في بغداد ألأمس لتقديم ماء الشرب المبرد للمواطنين؛ وقد تبرع بها الناس ألأخيار كعمل من أعمال البر والخير وطلبا للنجاة في ألآخرة. وليتذكر الناس مأساة (الإمام الحسين) وهو يلقى ربه وأهله وهم بحسرة الى شربة ماء. وقد تكون تلك (السبيل خانات) (حْبُوب) او (تانكيّات) معدنية يتم تزويدها بالماء من قبل (السقاقي) أو بواسطة (بوريات مصلحة ألإسالة). كما يتم تبريد مائها بقوالب الثلج؛ وذلك قبل أن تكون الثلاجات الكهربائية قد عرفت بعد.

والسير في (ألسواگة) و(الدرابين) و(ألأطراف) أيام (الگيظ) يعد من متع البغدادي التي يحرص عليها حرصا شديدا. فلم تکن مدينة بغداد (المركزية) في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم مدينة كبيرة. فهي تقع بين (الباب الشرجي) و(الباب المعظم). ويقطعها نهر دجلة من الوسط الى صوبي (الرصافة) و(الكرخ). وتوجد معظم ألأسواق في صوب (الرصافة) مثل (سوگ الصياغ) و(سوگ الساعچية) و(سوگ الصفافير) و(سوگ السراجين) و(سوگ السرای او الصراي) و(سوگ الهرج) و(سوگ القزازين) و(سوگ الخفافين) و(سوگ الغزل) و(سوگ الدهانة) و(سوگ الشورجة) و(سوگ حنون) و(سوگ قمبر علي). وكذلك (الخانات) الكبرى مثل (خان جغان) و(خان زرورْ). فضلا عن الدوائر الحكومية والكليات ودور المعلمین. أما خارج منطقة (الباب الشرجي) فهناك مزارع (الكرادة) التي تنتشر فيها (الچرُود) و(الأبكار) و(ألآبار). فكانت حقول (الخضراوات) و(الخس) تمتد کالبساط ألأخضر من (البتاويين) بعيدا بإتجاه (العلوية) و(إرخيتة) و(أبو قلام) و(الزوية). كما كانت تأتي مباشرة بعد منطقة (باب المعظم) بساتين (العلوازية) و(الكسرة) العامرة بقصورها العالية؛ حيث تشاهد منها أنوار قبة ومنارة (ألإمام ابي حنيفة النعمان) (رض) والمزينة بالقاشاني المخضر الزاهي الجميل. أما مدينة ألإمام (موسى الكاظم) (رض) فكانت تنفرد بموقع خاص يقع قبالة مدينة (ألأعظمية) من الضفة الثانية للنهر؛ حيث تشاهد قباب ومنائر الضريح المذهبة وهي تبرق في أشعة الشمس وكأنها قناديل متلألئة.

وجمیع تلك ألأسواق مسقوفة لحمايتها من ألأمطار والرياح وأشعة الشمس ووهجها؛ مما يخفف من قسوة الحر ويضعف من هبوب السموم أو(اللاهِفْ) وبالتالي تسهيل مهمة الشخص المتجول لإتمام سياحته وتسوقه. فهو حين يتنقل بين محلات (الفضل) او (باب الشيخ) أو (أبو شبل) وبين (سوك الصفافير) مثلا؛ فانه لا يتأثر بأشعة الشمس المباشرة ولا حتى بوهج السموم الشديد إلا حين يقطع (الجادات) و(العگود) مثل (جادة خليل باشا - شارع الرشيد) او (عگد الصخر- شارع ألأمين) المكشوفة ولدقائق قليلة. فكان المتسوق يستمتع بالتفرج على المحلات او الوقوف عند بعضها ألآخر؛ او السلام على صديق قديم. فكانت الساعات الزمنية تختزل الى مشاهد مريحة للنفس وقد نسي البغدادي حكاية (آب اللهّاب). فعلى سبيل المثال كان المرء يومها ينطلق من منطقة (راسْ الگـرَيَّة) فيمر بجميع تلك ألأسواق و(الخانات) ليصل في ألنهاية إلى منطقة (باب المعظم) دون أن يشعر بحر قاس او بتعب شديد.
ولا بد للبغدادي؛ وهو يتجول لساعات طويلة؛ من إن يأخذ قسطا من الراحة وليطفئ ظمأه وذلك بزيارته إحدى (الگهاوي) الشهيرة؛ ومعظمها تقع في القطاع الذي يتجول هو فيه؛ ومنها: (المصبغة) و(الخفافين) و(المميز) و(الشابندر) و(خليل القيسي) و(عارف) و(حسن عجمي) و(الزهاوي) و(البلدية) وغيرها. فيدلف الى إحداها ليشرب (إستكان چاي) او (چاي حامض) وليرشف (فنجان گهوة) ويدخن (راس تِتِن هندي او شيرازي) لتعديل مزاجه. وقد يود ألأستمتاع بصوت الفنان الکبیر (محمد الگبنچي) او الفنانة القديرة (سليمة باشا) من (الفونوغراف). وقد يحمسه صوت المذيع من (الراديون) فينادي (بايع الجرايد) ليطلع على أخبار البلد والعالم؛ ولينقده (عانة) او (خمسة فلوس) لقاء ذلك.
وبالرغم من وقوع (الگهاوي) على مسافات متقاربة غير أن المرء يمكنه الحصول على مشروبات مبردة في كل مكان. من ذلك مثلا (پرداغ شربت زبيب) طبيعي من محل الحاج (زبالة) الشهير والقريب من (جامع الحيدرخانة). وقد يشتهي معه قطعة جبن و(صمونة) لإسناد معدته كما يقولون. وهناك كذلك (شربت عِرْگْ السوس) و(لـِبَن شِنينة). على أن لا ننسى (شربت مَي الورد) المنتشر في تلك الأسواق وألذي يعد من ألذ الشرابت وأكثرها نقاء وصحة. فهو لايحتوي على أية مواد مضافة ضارة بالصحة. فخلطته ماء قراح قد أضيف اليه قليل من السكر (القند) و(مي زهر)؛ أي ماء الورد الطبيعي وقطع من الثلج. فلو نظر المرء الى البائع وهو يحمل ( جردلا) مليئا بالشربت وقد طُليَّ بالخزف ألأبيض مثل ذلك الذي نشاهده في المؤسسات الصحية لظنه موظفا صحيا... لابائع شربت !. لقد كان الناس يومئذ جميلي المظهر ومخلصين في عملهم ويخشون الله كثيرا.
والمألوف أن كثيرا من البغادة كانوا يتحينون فرصة الخروج من المنزل وألذهاب الى ألأسواق لشراء بطل (نامْليتْ) والتلذذ بطعمه الطيب وألإنتعاش بمذاق (الصودا) اللاذع المحبب. وخصوصا بعد أكلة بغدادية دسمة. و(النامليتْ) مرطِب دخل العراق في بدايات القرن الماضي. وقد لاقى قبولا حسنا من البغادة بعامة والعوائل الموسرة بخاصة. فهو مشروب طبيعي وصحي لخلوه من أية مادة إضافية ومكيفة قد تضر بالإنسان. وقد نذكر هنا على سبيل المقارنة مشروب (الكولا) الذي دخل البلد في بدايات ألأربعينات فهاجمه بعض المختصين وأنتقد محتوياته الكيميائية؛ وهي خلاصة (الكوكا) المكيفة والكافيين وحامض الفسفور والغليسرين وغيرها.
وكان البغدادي شديد الإعجاب ببُطل (النامليتْ) الذي يزهو بألوانه الجميلة وبهيئته ألأنيقة الغريبة؛ وقد تخصر من أعلى وسطه وكأنه جسد غانية إتصف يالجمال وبالرشاقة (أنظر في الشكل السابق). أما فوهته فيتم إغلاقها بواسطة (الدِّعْبُلة). وهي كرة زجاجية محكمة الصنع وظيفتها منع إنسكاب السائل أوتسرب غاز الصودا. ويصنع (النامليتْ) لعموم الناس من محلول السكر المضافة اليه المنكهات وألألوان الصحية. ومن ثم يشحن بغاز (ثنائي أكسيد الكربون) لإعطائه مذاق (الصودا) اللاذع. وقد يكون إسم (النامليتْ) قد صحفه الناس وقلبوه عن لفظة (ليموناتا).
أما ألأسر المقتدرة فهي لها خلطتها الخاصة التي تعدها في المنزل؛ ويسمونها (الشربت)؛ حيث يجري تحضيرها من (عصير الليمون) او (الرمان) اوغيرهما. او يحضرونه من محلول (الليمون دوزي) و(السكر) و(لون غذائي) بنكهة معينة. وقد يضاف إليها أحيانا (ماء الورد) او (البنفشة). وبعد ذلك يؤخذ الى معمل التعبئة الصغير. وهناك تتم تعبئته بالقناني الخاصة ذات الكرة الزجاجية وإعادته الى أصحاب (الشربت). وتعبئة هذا النوع من القناني التي إختفت من حياتنا ولم يعد يتذكر طيفها سوى بعض الشيوخ؛ لايخلو من إثارة تقنية جميلة. فبعد أن يبدأ العامل بإدخال أنبوب ألآلة ليملأ القنينة (بالشربت) يقوم بفتح صنبور (الغاز) المرافق وبالسرعة المطلوبة. فيأخذ تيار (الغاز) القوي الخارج من (البطل) برفع (الدعبلة) من منطقة التخصر نحو الفوهة بسرعة لتتسمر في الفتحة من الداخل؛ فتؤدي إلى غلقها؛ حيث يسمع لها نقر واضح. أما إذا أريد فتح (البطل) لشرب محتوياته فما على المرء سوى إستعمال قطعة خشب او (عُودة) لغرض دفع (الدعبلة) نحو ألأسفل. وقد أوتي بعض الشبان من قوة الأصابع ما يساعدهم على دفع (الدعبلة)؛ وسط صيحات الإعجاب من الحاضرين. (أنظر مليا في الرسم أعلاه). والملفت للنظر أن هذا النوع من القناني صحي وأمين لأن السائل لن يلامس سوى الزجاج؛ حسب.
أما في المنزل؛ فقد إعتاد البغدادي على القيام بالعديد من الإجراآت الضروية للتخفيف من وطأة (آب اللهَّاب). وقبل ألإشارة إلى تلك الإجراآت ينبغي أن نؤكد على حقائق علمية وتقنية تعلمها ألإنسان العراقي من تأريخه الناصع الطويل الذي لازمه ملازمة الظل للشاخص. وأول تلك الحقائق أنه كيـّف نشاطه اليومي ليتواءم مع بيئتة الحياتية ومع الطقس بفصوله المتقلبة؛ وبخاصة في موسم الحر الشديد؛ أي خلال أشهر حزيران وتموز وآب؛ وفي موسم البرد القارس وخصوصا في (المِرْبعانيّة) وبرد (العجوز). هذا فضلا عن ألأمطار والعواصف الترابية (الغُبرة) التي يتضايق منها البغادة وخصوصا من كان يشكو من (تنگ نفس)؛ بل ويتشاءم منها البعض ألآخر. لذلك نراهم يعتلون المنابر والمنائر للدعاء قائلين: ( ياقريبْ الفرج ْعالي بَليّا درج؛ عبدكْ بشدة ويطلبْ مِنكْ الفرَجْ...ياربْ) كما تسمع النسوة العجائز وهن يولولن: ( بعد شي يسوّي بينا رب العباد....هذا كله من أفعالنا الشاينة) !؟.
وكثيرا ما يواجه البغادة اياما عصيبة في موسم (الگيظ) وأيام (الوغرة)؛ وأخص بالذكر (العمَّالة) و(الصنايعچية) الذين يعملون في مهن شاقة (كالحداحدة) و(التكمچية - السباكين) (والكوّازة) الذين يقفون وجها لوجه أمام (الكُورة). وكذلك (المكينچية) وأمثالهم. وقد تتضاعف المعاناة في شهر الصيام؛ فتجد العمال وهم يقذفون بأنفسهم وهم بملابسهم؛ تحت (طرمبة المي) او أقرب (ساگية) او يدلقون فوق رؤسهم (پياپة المي).
ولطالما إنحصر حديثنا في موسم الحر؛ وخصوصا في (شهر آب) فسوف نشير وبعبارات قليلة الى خبرة البغدادي الواسعة وباعه الطويل في بناء مدنه وطرقاته ومساكنه وإعداد مستلزماتها؛ مثلما إختار طعامه وشرابه ولباسه ودواءه. فهو قد جعل مساكنه متجاورة ومتراصة؛ وطرقاته أقرب ما تكون إلى ألأزقة الضيقة المعقودة هنا وهناك للتقليل من آثار أشعة الشمس ووهجها؛ وللتخفيف من رياح السموم صيفا والرياح الباردة شتاء. وإذا كان لمساكن البغادة الخاصة بالوجهاء مواصفات معمارية شبه معيارية؛ وقد ترسخت طوال السنين؛ فأن تصاميم دور العامة من الناس جاءت بسيطة وعفوية مع إحتفاظها بالشروط البيئية العامة.
وتتكون دور الموسرين من (حوش) او (صحن) أي فناء في الوسط. وغالبا ما يكون فيه (شذروان) او نافورة. ويحيط (بالحوش) (الطرار) آی الممر و(أللیوان) او االطرمة المعدة لجلوس الأسرة والتي يتم رفعها على (الدلگات) الجميلة. ثم تأتي (الغرف او الحلوگ). وبعد مدخل الدار يأتي مباشرة (المِجاز) وإلى يمينه (الديوه خانة)؛ وليس بعيدا عنها (الحرم). ثم تأتي المرافق المساعدة مثل (السِّرداب) و(البادگير) و(الكِلر) وغرفة (الخدم) و(المطبخ او الموگد) و(الحمام) و(الخلخانة - المرحاض). ثم يليه الطابق الثاني وفيه بقية الغرف (بشناشيلها) المتعالية البديعة. وقد نجد بين الطابقين غرفة


(ألأرسي) او الشرفة. وتُحمل الشناشيل فوق الجدران بواسطة أعمدة أفقية تسمى (الجَرَصوُنات). وعادة ما تبنى مثل تلك الدور الفخمة ( بالطابوگ ألأصفر المگصوص) أو (بالطابوگ السميچي) المفخور بدرجات حرارة متفاوتة. وتأتي بعد عملیة رصف ألآجر خطوة (الدَّرِزْ) العادي. أما إذا طلب صاحب البناء طراز (الچفْ قِيم) الجميل فينبغي عمله أثناء رصف (الطابوگ) بإستعمال (مسطرة) خاصة (أنظر في الشكل جمال الجف قيم). أما السقوف فتنجز (بالعْگادة) و(الطوُگ) أي ألأقواس المعروفة. وقد أستعملوا كذلك (الطابوگ الفرشي) لرصف ألأرضيات والسطوح. واستعملو بعد ذلك (الطابوگ السودائي) المصنوع من مزج (الجير الحي أو النورة) مع (الرمل ألأسود). كما إستعملوا في البناء (المُونة) بأنواعها كحشوة مناسبة بين ( سُوف) ألآجر؛ وهي (الجُصّ) و(النورة) التي هي مزيج من (الجير الحي) و(رماد الحمامات). وتتميز هذا الحشوة بالقوة وبالمتانة مع مرور الزمن؛ حيث تتحول الى مادة ذات خصائص إسمنتية متصلبة. أما في إكساء الجدران من الداخل أو من الخارج فعادة ما كانوا يستعملون الجص المعروف بطريقة (البياض) الصقيل او (اللبُخ) او (المَلِج) او (النثِر). ولابد من التنويه بأن كافة مواد البناء التي سبق ذكرها تمتاز بالعزل الجيد للحرارة؛ وقد تعزز دورها عبر التأريخ الطويل للعمارة البغدادية.
وقد أدخلت أعمدة (حديد الشيلمان) مؤخرا في عمليات (العگادة). أما في التغليف فأستعملوا صفائح (الخشب المعاكس) و(ألأسبست) الضار بالصحة. كما إستعانوا أخيرا (بصفائح (الچنكو) و(حديد التسليح) و(الخرسانة) مما أخل بمواصفات العزل الحراري للبناء. تلك المواصفة التي لم يولها المسؤلون ألإهتمام اللآزم بالرغم من أهميتها القصوى. أما الجانب المعماري أو الفني فقد أولاه البغدادي ألأصيل عناية خاصة منذ آلاف السنين وحتى القرن ألأخير؛ حيث بدأ فيه تآكل وتشوه (العمارة البغدادية) ألأصيلة من حيث الشكل والريازة والوظيفة والمواصفات؛ حتى فقدت هويتها التأريخية المعهودة؛ بعكس ما نراه اليوم في (الشام) وفي (مصر) وفي بلدان (المغرب العربي) مثلا. بل وقد أدهشنا أن نجد بعض الأقطار ألأوربية مثل (إسبانيا) ما تزال تبذل جهودا كبيرة للحفاظ على التراث المعماري العربي- الإسلامي العريق. وبالنظر لسعة الموضوع فليس بالإمكان شرحه بالتفصيل في هذه العجالة نظرا لضيق الوقت على الرغم من أهميته وطرافته وعشق البغدادي له.
أما مساكن البسطاء من البغادة والتي تشكل الغالبية العظمى فتبنى (بكِسِرْ الطابوك) أو(ألإشگنگ) وحتى (اللبِن). وقليلا ما يستعمل فيها ألآجر الصحيح لإرتفاع ثمنه. أما المُونة فهي نفس المونة المعروفة. وقد تترك الجدران بدون إكساء او يتم (ملجها) او (درزها) بإستعمال (الجص). أما الجدران فتكون عريضة بسبب وجود (التربيع) او الحشو بين الجدارين للتقوية وللعزل الحراري الجيد. لكن مثل تلك الحيطان تكون عرضة إلى (التدوبِلْ) أي أنها ( تنطي بطن) كما يقولون وذلك بمرور الوقت. وقد تتعرض إلى ألإنهيار فجأة. وكثيرا ما كان البغادة يتندرون حين يشاهدون (توزيرة منتفخة) بأنها (مْريّة حبلى بشهرها !). اما السقوف فتكون عادة من خشب (القوَغ) اوجذوع النخيل او ألأشجار ألأخرى. ومن (الحصران) و(الگصب). ثم يجري (رشگ) السطح (بالطين) المخمر مع (التِبِن). وكثيرا ما يطلب البغدادي فتح (سِماية) او كُوّة في سقف الدار للإضاءة.
ويحاول البغدادي المقتدر توفير مستلزمات التبريد في مسكنه وإعداد طعامه وملبسه بكل حرص. وأولها بناء (سِرداب) و(بادگير). ومن لم يسمع بإسم (البادگير) نقول بآنه (قناة) في الجدار تمتد من قاع (السرداب) وتنتهي عند ستارة الطابق الثاني. وله وظيفة مدهشة حيث يقوم بتحريك تيار الهواء المبرد في الدار وجذبه نحو الفتحة ومن ثم نحو السطح على وفق قاعدة (الحمل) الفيزيائية. وكثيرا ما إختصم ألأبناء حول من ينام عند الفوهة. ولا يحسم ألإشكالية إلا مجئ (ألأب) !. وكخطوة رئيسة ينبغي وضع الستائر الخشبية (الپنجور او البنجرة) او (الپردات) على الشبابيك لحجب اشعة الشمس. ووضع (العَمَّاريّات) المصنوعة من (العاگوُل) و(جِريد النخيل) عند ألأبواب والنوافذ. ولقد جاءتنا بعد ذلك وسائل التهوية والتبريد الحديثة مثل (الپنكات) و(مبردات الهواء) وأخيرا (مكيفات الهواء) التي جلبت معها ألأعطال والمصاريف الباهضة والهموم الثقيلة التي لا نهاية لها. أما على المستوى الشخصي فقد إلتجأ البغدادي الى (المهافيف) اليدوية المنقوعة بالماء؛ وكذلك (المهفات السقفية المتأرجحة). كما أولى عناية شديدة بشرب الماء المبرد وإستهلاك كميات من الثلج. وإستعمل لهذه ألأغراض (الحِبّ) الفخار الذي يُجلِسونه على (السِّكمْلي) الخشب ويغطونه بصينية او بغطاء من الخشب او بواسطة (الچرچف). وبالنظر لخاصية (الحِب) المسامية فنجد الماء يتبخر من سطحه فيؤدي الى تبريده. كما أن الماء الناضح (ألناگوط) فيتجمع في وعاء صغير يوضع في الأسفل منه ويسمونه (البواگة). ويكون ماؤها مبردا لذيذا. أما شرب الماء فيتم بواسطة (المَنشل) او (الجِيرية). وهي (مِغرفة) مخروطية الشكل تصنع من القش او العيدان وتطلى بالقار. ويكون الشرب بها لذيذا ومنعشا. وأحيانا يستعمل (الكرُّوزْ) لإغراض الشرب وهو (الكوُز) الفخار. ولجميع تلك الأدوات نكهة خاصة محببة ومذاق فريد حين تحتك بألأسنان ويلامسها اللسان والشفتان. وقد يشاهد البغدادي (العَلگ) وهو يسبح في ماء (الحِّب). وهو في ألأصل (يرقات) البعوض او سواه. ووجود (العَلق) أمر مألوف بين البغادة. وقد ينفر من شكله الطفل (المكتبلي) الذي علموه مضاره في (المكتب)؛ فتنهره ألأم قائلة: (إبني گشّه وتِزقنبْ....ما شايفْ عَلگ !؟).
وهناك أيضا (الحُبّانة) وهي وعاء من الفخار أصغر من (الحِبّ). وكذلك (التُنگة) او القُلة. وهي على أنواع؛ لعل اشهرها (الخضراوية). و(التنگة) هي رفيقة البغدادي أينما تنقل داخل المنزل. فحين يصعد الى السطح لغرض النوم أثناء موسم الصيف تسبقه اليه لتستقر على زاوية (المحجر) او فوق (التيغة). وهي (السِّتارة) التي تحيط بسطح البيت؛ لتكون الى جوار أصحابها: (شياف الرگي) و(جِدر البامية البايتة) ذات الطعم المتخمر اللذيذ والتي كثيرا ما كانت مدعاة للتنافس او المعابثة بين أفراد العائلة الواحدة !.
ولقد بينا سابقا شدة إهتمام إبن بغداد بمأكله ومشربه وملبسه أيام الحر الشديد. فبالنسبة للملبس فنجد الرجل يفضل الأقمشة المسامية الرقيقة. وقد يفضل بعضهم العكس. ومن بين ألبسته (دشداشة الخام ألأبيض) و(الصاية الپوپلين) و(العباية) الرقيقة. ويلبس في ألرأس (العرچين) و(اليشماغ) و(الغترة) و(الكشيدة) و(العگال العادي او المگصب او المكنكر) و(السدارة الفيصلية) السوداء او (السكوچية) الملونة. أما النسوة فيفضلن أقمشة (الجرجيت) و(الحراير) و(الستن) و(الململ). وفی الرآس (الچرغد) او (الکیش) او (العصابة) آو(الفوطة).
أما فيما يتعلق بالمشربات فقد أولى البغدادي عناية فائقة بالعصائر و(بالشرابت) الطبيعية الصحية للتعويض عن السوائل المفقودة بالتبخر حيث أشرنا الى عدد منها؛ أبرزها (شربت النگوع)؛ وهو (المشمش المجفف) ألذي يعد ارخصها وألذها. وكذلك (شربت الزبيب) الأسود الشائع بين الناس والذي يصفونه للتلاميذ أيام الإمتحان بأنه (أكسير) للذكاء ! لأنه (يشرح الصدر) و(يْصفي المخ)؛ حتى قالوا فيه قولتهم الشائعة: (شربتْ زبيبْ... واليندِبْ ألله ما يخِيبْ). ولهذا السبب بالذات كنا نحن طلبة (المدرسة ألإعدادية المركزية) من الملازمين لمحل الحاج (زبالة أبو الشربت). وكان هو يعرف هذه (السالفة) ألإعلامية التي لاتخلو من صدق. فقد كان يلبي طلبات التلاميذ فيزودهم (بگلاص شربت براسه) أي (ما مْكاسَرْ). والمشهور عن الزبيب أنه من المواد الغذائية المركزة والغنية بالسكر ألأحادي وبالمعادن وبالأحماض العضوية الطاردة لسموم الأبدان؛ فضلا عن نكهته الطيبة التى لاتقاوم.
وفي أيام طفولتنا شاعت بين ألأسر الغنية والفقيرة على حد سواء صناعة (الدوندرمة) او (البوز) في المنازل كسلاح ماض للوقوف بوجه (آب اللهَّاب). وكانت تستعمل لذلك الغرض آلة صغيرة تسمى (العِلبة). وهي وعاء معدني دوار توضع فيه (خلطة الشربت) المكونة من خلاصة (ألأزبري) ألأحمر او (روح البرتقال) المصنعة والمضافة إلى محلول السكر. ثم يوضع الوعاء الدوار داخل إسطوانة أو وعاء آخر أكبر منه قليلا يحتوي على قطع الثلج مع كمية كافية من مسحوق ملح الطعام (أنظر في الشكل). وبينما يأخذ ألأبناء بتدوير وعاء الشربت تأخذ محتوياته بالتجمد لتتحول الى (دوندرمة) لذيذة ومنعشة ورخيصة الثمن. ويكاد اليوم الذي تنوي فيه ألأسرة عمل (الدوندرمة) يتحول إلى إحتفالية صغيرة حيث ينافس الكبار الصغار في إلإمساك بعتلة (العلبة) لتدويرها وهم ينتظرون بفارغ الصبر إستكمال تجمد الشربت ليهنأوا بأكلة فريدة لا تأتي إلا كل صيف لتخفف عنهم شرور (آب اللهّاب) الذي لايرحم. ومن أطرف ما يحصل هنا هو قيام ألأطفال بتحين الفرصة وإستغفال (ألأم) ليأكلوا بأصابعهم شيئا من (الدوندرمة) قبل أن تجهز بحجة تذوقها. وهذا هو شأن ألأطفال دائما.
وها نحن نصل إلى نهاية هذه السياحة اللطيفة الشائقة التي دعانا إليها (إبن بغداد) الصابر ألأبي الذي حفظ لنا تأريخ حاضرته العريقة ورعى تقاليدها الجميلة؛ لنرافقه في تجواله ولنسير معا في طرقاتها ومشاهدة أسواقها وخاناتها العامرة؛ وقد إحتضنها حر (آب اللهّاب) وسَمُومه و(لاهفه) المحبب. ونامل أن تكون هذه التذكِرة الخاطفة تحية خالصة له لنبقى؛ نحن الضاربين في بقاع ألأرض؛ خالدين في ذاكرته ووجدانه وتأريخه.
* أكاديمي مغترب من العراق

[email protected]