أحمد محمّد أمين: ومَنْ لا يريدُ الإحتفاء بquot;بيكاسوquot; وزيارة متحفه وسط مدينة quot;ملقاquot; الإسبانية؛ هنا يتقاطرُ الناسُ على الدخول اليه، يقفون في طابور طويل من دون تذمّر أو ملل. ففي خمس عشرة صالة تكتظ جدرانُها بلوحاته التي رسمها في سنواته العمرية يقفُ المرءُ مذهولاً ومتلهفاً أمام العبقرية والإصرار والفن تحلّى بها هذا الفنّانُ الألمعي الذي طوى أكثر من تسعة عقود، وشغل ثمانية منها بالإبداع الذي تنوّع ما بين مراحل زرقاء ووردية وتعبيرية وتكعيبية وواقعية وسريالية وعبثية. وكان بحق ضمير عصره وصوته، وقف الى جانب قضايا الإنسان المصيرية. فقد رأيته هنا شاباً وكهلاً وعجوزاً خارق النشاط، كان يصعد فوق الكراسي وسلالم الخشب ذا جسد مرن وأصابع مشحونة بنشاط ابداعي قلما يتوفّر لدى كبار السنّ. كان مُفعماً بدينامية غير عادية عبر سني حياته الفنيّة. لكني، وجدتُ، من خلال اللوحات المعروضة هنا، أنّه في مرحلة كهولته وشيخوخته يبلغ أوجَ ابداعه وذروتَه. حيثُ تتسمُ أعماله بالغموض والتماهي، فيترك المشاهدَ يُفسّر ويُحلل ويفهم وفقاً لما يتمرأى له. ولا أظنّ أنّ أثنين ممّن يشاهد لوحاته يتفقان على رأي ٍ واحد. وهذه ميزة الإبداع. واراه في بعض اللقطات السينمية على شاشات صغيرة تتوزّعُ داخلَ الصالات عجوزاً يتخطّى السبعين وهو يرسم على الجدران والواح الزجاج والورق والقماش وعلى واجهة الحلم واليقظة والتأمل. انه لن يكون بيكاسو حين يتوقف عن الرسم والنحت.يخربشُ بصخب فوق كلّ شيء من دون صوت، بقوة من دون ملل. فترى نساءً
![]() |
كانت المعلمة ُ تشرح لتلاميذها تفصيلات هذه اللوحة / فارس مع السيف / التي يستعصي تفسيرها على المثقفين الكبار. |
لسن بنساء، وجوهاً ليست بوجوه. أطرافاً أدمية لا تصلحُ أن تكون أطرافاً. وثمة لقطة ٌيرسُمُ فيها إمرأة وحمامة تحملُ في منقارها غصنَ زيتون. والزيتون رمز أسبانيا، وحين تسافر في الجنوب ترى آفاقاً من اشجارها تغطّي الاُفضية، يا الهي؛؛ أيّ جهد وطاقة وصبر وابداع نحتاجُ لمثل هذا الإنجاز الزراعي؟ وننتقل من صورة الى صورة وسط الزحام، زحام أفراد أو جماعات تتوسطها امرأة تشرح وتفسرما يستغلقُ على الفهم.عيونٌ خارج الوجوه، وجوه لا تتميّزها بسهولة، أهي لأدميين أم لأشباح. بيكاسو يرسمُ كلّ شيء، كلّ ما يخطرُ بباله، سواء أعجبنا أم لم يُعجبنا. وأجمل ما استهواني تلك الرسومات التي خلّد فيها زوجته الروسية اولغا.
وفي صالات اُخَر ترى جمعاً آخر أمام لوحة من لوحاته ويستفيض رجلٌ في الكلام عنها، وعلى مقرية منهم خمسة ٌ وعشرون تلميذاً من المرحلة الإبتدائية يجلسون على البلاط النظيف قبالة لوحة معقدة من المرحلة التكعبية والمعلمة تتكلمُ على تفصيلات اللوحة وتسمع الى سؤالاتهم ونقاشهم. هنا ذرفت عيناي دمعاً، دمعة فرح على العناية بالطفل وتهيئته للمستقبل وغرس جمال الفن فيهم. ودمعة ً اخرى على تلميذ عالمنا العربي المحروم من مثل هذه الثقافة المعرفية ويُحشّدُ روعه بالخرافات والأكاذيب والعادات البالية والعدوانية الطائفية والدينية والسياسية. كانت أناملي تمسح تلك الدمعات وأنا اغادر تلك الصالة الى سواها. وفي كلّ صالة ترى هذا المهرجان المعرفي، المعلماتُ برفقة تلاميذهن في مختلف المراحل العمرية الجالسين على أرضية الصالة يُصيخون السمع اليهن، ويدور بينهم وبينهن الحواراتُ والأسئلة والإجابات. فما أعجبَ الموقفَ، فنحنُ الكبارُ لا نكاد نفهم مغازي لوحات بيكاسو بينما يؤتى
بهؤلاء الصغار ليروا بأعينهم ما أنجزه عظماؤهم. هنا الأمانُ والفرح والأملُ والمُقلُ الممتلئة ُ بالاُمنيات، وعندنا الخوفُ والفزعُ من مُفخخة على الطريق ومن ارهابي سيُفجرُ نفسه بينهم. هذا ما خطط له المحتلُ الأمريكي وما تركه في بلادنا وخرج ليتفرّج على محصلة انجازاته. وليبقَ العراقُ في فوضى لا أولَ لها ولا آخر،وليلعبْ كلّ حزب بما لديه لوأد المعرفة والعلم وغرس الجهل بالدنيا ومباهجها.
شيء خارجَ المتحف
امسِ رأيتُ صورة ً في الأنترنيت عن ثلاثة صبيان فاشلين دخلوا محلاً لبيع أجهزة الكومبيتر في بغداد، ولج أولُهم سائلاً، تبعه الثاني مشاكساً، ودخل ثالثُهم حاملاً بندقية كلاشنكوف فأطلق رصاصة على صاحب المحل فأرداه قتيلاً، ثمّ هربوا محملين بعدد من الأجهزة، بينما كانت سيارة ٌ تقف أمام المحل بانتظارهم. ولم يكونوا يدرون أن احدى الكاميرات سجلت الحادثة من أولها الى آخرها. اذن، هذه الديمقراطية التي تركها لنا المحتلُ الأمريكي. القتل والسطو والجهل والخراب وانفلات الأمن، أنا واثق أنّ ما يحدثُ في بلدنا هو من تدبيرالمحتل الأمريكي. وهو الذي يُحرّك خيوط الإرهاب هنا وهناك. ولن يسلم أيّ بلد عربي من هذا الخراب الدموي حتى ولو حلّق على جناح الربيع العربي. انتظروا وسترون.
.................................
حين غادرنا متحف بيكاسو بكل أجنحته المكتظة بالإبداع كان التعبُ يغشانا بسبب الساعات الثلاث امضيناها في التجوال منتقلين من صالة الى صالة، ومن لوحة ومنحوتة الى سواهما، اضافة الى الباحات المضاءة بالشجر والزهر والفرح الطائف على الوجوه. وثمة مكتبة تبيع بوسترات وكتباً عن بيكاسو، وعلى طاولة كبيرة أكثر من خمسة وعشرين كتاباً مُتخصصاً عنه، أنا لا أفهم اللغة الإسبانية، لذلك لم أقتنِ شيئاً، فمَنْ كتب عن جواد سليم وعطا صبري والدروبي مثلما كتبوا عن بيكاسو وفان كوغ وسيزان ولوتريك وكاندينسكي؟ نحنُ نمرّ بحياتنا الثقافية وبمُبدعينا مهما كانت تضاريسُهم عميقة مروراً عابراً وهامشيّاً، ولدينا ثرواتٌ من الفنانين والمبدعين تركوا آثاراً ضخمة ولا يحفلُ بهم أحدٌ ما عدا استثناءات قليلة، وبعضُهم يموتون جوعاً وكمداً تنهشهم امراضٌ قاتلة ولا من أحد يسألُ عنهم.
.. كان الشارع يتورّم بالسواح والتلاميذ برفقة المعلمات والمعلمين. والمطاعمُ المنتشرة حوالينا ممتلئة، على مقربة من متحف بيكاسو صالة تعرض لوحات احدى الفنانات الملقيات، ثم مبنى قديم تقرأ على لوحة بيضاء فوق البلاط أمام بابه : أنّ والد بيكاسو كان مدرّساً للرسم هنا قبل أن ينتقل الى لشبونة.
مركزُ مدينة ملقا ضيّقة ٌ شوارعُها، عظيمة آثارها، طويلة سواحلها المائية، مكظوظة بالبشر. ففي احدى الاُمسيات ولجنا مطعما. وعلى ميسرة الممرّ الى الداخل جهازُعرض سيمائي قديم ضخم أسود. تذكرتُ أجهزة سينماتنا في مبتدأ خمسينيات القرن الماضي. في كركوك كنتُ أتلهفُ لرؤية هذا الجهاز الذي كان يعرض أفلام / بيرت لانكستر وروك هدسن وكيركوري بيك وجين راسل وماريا شل واليزابث تايلر وروبرت ميتشام / والأفلام العربية وأغانيها التي نتذكّرُ تفصيلاتها حتى الآن. لقد هالني أيامئذ أن يعرض هذا الجهازُ هؤلاء الشخوص وهم يتحرّكون ويتحدّثون ويغنّون.
المطعمُ مزدحمٌ، كنتُ اُمعنُ النظر في عجوز يجلس قبالتي في الطرف الآخر من مجلسي وحيداً. واسترعى انتباهي حاجباه الأبيضان. كان يحتسي الشراب ويُقدّم له النادلُ بين الفينة والفينة كؤوساً صغيرة منه يجرعها دفعة ً واحدة.وامامه دفتر صغير يُسجّلُ فيه ما يعنُّ له من أفكار وأحلام اليقظة. وربّما كتب ملاحظات عني وأنا أقرب الى سنه من غيري. حين انتهي لبس جاكيته ووضع ثمن شرابه على المنضدة وغادر المكان لامساً بيده جهازَ العرض يودّعه. كانت جلستُنا هادئة مخملية امتصّت تعبنا. ثمّ ضعنا في الدروب الضيّقة التي تتشابه، وبصعوبة اهتدينا الى فندقنا. مساءً اندلقت اقدامنا على بلاطات الدروب الضيقة، فاليوم الجمعة وغداً السبت يوم العطلة، اذن سيسهر الناس حتى حلول الفجر على الرغم من برودة الجو في منتضف شهر ابريل. مطر دائم ومتقطع وعصف رياح.تذكرتُ اليوت وهو يقول : نيسانُ أقسى الشهور. ما زلتُ أحمل معي لوحات بيكاسو، وما زلتُ معه أجوبُ أيامه الآفلات خللَ رسومه التي تحملُ عناوينها وتواريخها، وكذا الصور الفوتغرافية التي التقطها بنفسه والتي اُلتُقطت له. ففيها صباه وشبابُه وكهولته وشيخوخته. ذا هو يقفُ فوق كرسي فيرسمُ المرأة والحمامة ويصعد السلم الخشبي ليُكمل رسم أعالي اللوحة.وأظنُّ أنه كان يرسُمُ لوحاته على جدار، ثمّ يجلس قبالته فينقلها الى سطح اللوحة الورقية أو القماش. مازالت المعلمة في رأسي تقف أمام طلبتها وهم جلوس امامها على البلاط. وترتفع تجاهها الأصابعُ تسألُ وتتلقى الجواب. وما فتئت أناملي تمسحُ دمعة الفرح والحزن التي اشتعلت في عيني. فرح هنا وحزن هناك. لم نزلْ ننتقل من لوحة غرائبية الى اخرى أكثر غرابة. سواءً أفهمنا ما يُريدُ قوله بيكاسو أمْ لم نفهم.المهم انني كنتُ في حضرة عملاق اسباني صاغ لبلده مجداً لن يُنسى واسهم مع غيره من العمالقة في اعلاء شأن اسبانيا التي هي عظيمة بسرفانتس ولوركا وبيكاسو وآخرين غيرهم، برغم ما يهدّدها الآن وضعٌ اقتصادي صعبٌ
مُلبّدٌ بالغيم والعاصفة....













التعليقات